حين يتحول الشوق إلى حمى

الربيع العربي 

في إطار أحداث الربيع العربي برزت أصوات كثيرة على مواقع التواصل الإجتماعي وأصبحت هذه المواقع متنفسا للتعبير عن الرأي والخروج عن الخطاب الخشبي للأنظمة بل إن هذه المواقع كانت سببا في تفجير الثورات العربية وإسقاط بعض الأنظمة قبل أن يتحول الموضوع كله إلى لعبة الأمم وتنافس القوى الدولية على المنطقة وعسكرة الثورات وحالات الفوضى والتخريب والقتل والتدمير و قد أخذت سوريا النصيب الأكبر من هذه اللعبة الأممية التي لا نرى لها حلا في الأفق القريب.

لعبة الأمم

البعض أصيب بالإحباط وترك الكتابة والبعض اتخذها مصدر استرزاق في لعبة الأمم وكثرة المتنافسين والبعض حاول أن يبث همومه وآلامه وأحزانه خاصة بعد تحولات الهجرة وتدمير المدن ووجود واقع وأماكن وأوطان جديدة فرضت على الناس كرها لا طوعا وأصبحنا جزئيا أمام شيئ أشبه بأدب المهجر الذي كان رواده الأوائل من هاجروا في بدايات القرن العشرين من اللبنانيين والسوريين نحو الأمريكتين أمثال جبران خليل جبران.

الحرب

بشكل عام فإن أغلب الأصوات ذكورية ولعل ذلك يتفق مع حالة الحرب لكن ما يهمنا هنا هي الأصوات النسائية فرغم قلتها فإن لدينا أصواتا استطاعت أن تجسد الألم والشوق والحنين ومشاكل الهجرة وهذا يتفق مع طبيعة المرأة كونها تمثل العش والسكن وتهتم بالتفاصيل أكثر من الرجل الذي يهتم بالعموميات.

انتشار الجهل 

ما يلفت النظر هنا أن الكاتبات على مواقع التواصل الإجتماعي مثل فيسبوك أكثر قدرة على التعبير وأجزل بلاغة وأقدر على تصوير المشاهد الجمالية ممن دخلن عالم الكتابة الروائية أو تكتبن في الصحف والمواقع سواء كان ما تكتبنه شعرا أو نثرا وأغلبهن مدعيات ثقافة استفدن من انتشار المواقع الركيكة وتجاذب الجماعات والأحزاب والدول ضمن الثورات أو حتى استفدن من تدني الذوق العام وانتشار الجهل وعدم قدرة الناس على التمييز بين اللغة السليمة والضحلة وكذلك تهافت المجتمع الذكوري عليهن وتلميع كل ما يصدر عنهن وبعضهن آثرن الخروج عن المألوف بحثا عن الشهرة على مبدأ خالف تعرف.

النساء والكتابة

بعض النصوص النسائية على مواقع التواصل الإجتماعي تستحق الدراسة والتشجيع وتستحق أن يأخذ الإنسان يأيدي أصحابها ليصلوا إلى مستوى الكتابة المحترفة وتأليف القصص والروايات بدل الحالة المتدهورة التي وصلنا إليها في الكتابة النسائية بالأخص وأقدم هنا لكم نصا جميلا للآنسة ياسمين مرعي يلامس فضاءات القلب بانسيابية مع وجود صور تعبيرية جميلة ومشاعر صادقة عفوية متدفقة كنبعة ماء صافية وحنينا وشوقا شبهته بالحمى التي لن تذهب ولن تبرد إلا بعودتها للمكان الذي اشتاقت إليه مستحضرة مشهدا من مشاهد الإيمان العفوي لنساء القرية حين كانت أضرحة الأولياء ملاذا لذهاب الحمى والأمراض .

كتبت ياسمين مرعي على صفحتها الشخصية 

  • كانت أضرحة الأولياء عديدة في قلعة الحصن وكان التقرب عبرها إلى الله ما زال شائعاً بين كبيرات السن اللواتي عرفن الله بفطرية أعلى وعَقَدية أقل في مجتمع زراعي يبدأ يومه مع طلوع خيط الفجر الأول وينهيه بعد صلاة العشاء.
  • كان “البحتري” مدفوناً في جامع حارة التركمان، “العجمي” في جزئها الجنوبي أما “الدروبي” فكان ضريحه على طريق عام يعبر الأراضي الزراعية غير المأهولة.. فيما لا تعرف أسماء السبعتوليا (السبعة أولياء) الذين دفنوا في مكان ما قرب ساحة الحارة الرئيسية، وسمي ذاك الجزء بعددهم فقط .. هؤلاء أولياء حارة التركمان فقط .
  • لم أشاهد ضريح “البحتري” أبداً لا في طفولتي حين كانت أمي ترسلني كل صباح لشراء الخبز من فرن “سليمان النحيلي” فأعبر بمحاذاة باب الجامع كل يوم، ولا أجرؤ على الدخول ولا حتى بشخصية طفلة عابثة لا في صباي أو شبابي إذ لم يكن دخول النساء للمساجد قد بدأ في قريتنا بعد.
  • اكتفت النسوة بزيارة الأضرحة المتاحة للجميع .. وضع القماش الأخضر فوقها وإشعال البخور .. تبدو الطقوس وثنية ربما أو على الأقل “غير شرعية”، لكنها تعكس الخلفية الإيمانية البسيطة لعدد لا بأس له من سكان المنطقة حتى تسعينيات القرن الماضي.
  • كنت شغوفة بأي فرصة تحملنا إلى جوار الدروبي لا سيما في أيار وحزيران حين تغزو النساء والبنات الكروم لقطف أوراق العنب وكان الضريح قد أقيم في بقعة عامرة بالصنوبر ومحاطة بالزيتون والرمان والعنب من كل جهة.
  • لقد نام قرب ذلك الضريح الكثيرون ممن أصيبوا بالحمى حسب ما اعتادت جداتنا أن يروين وتعافوا تماماً .

اليوم من برلين بعد سبعة أعوام ونصف على الغياب وعلى بعد آلاف الكيلومترات يكفيني أن أغمض عيني لأرى الساحة وما يتفرع عنها من طرق تقود إلى هذا الضريح أو ذاك وأتحسس رقة الضوء ونحن قرب ضريح “الدروبي” على أحد تلال قلعة الحصن في يوم تغمر أوراق العنب الغضة فيه قلبي بالخضرة وبرجع حكايا الجدات.. اليوم، في برلين وبعد سبعة أعوام ونصف على الغياب أحثس بشيء يشبه الحمى إذ تنهض تلك الصور في رأسي وأسأل:

ترى ماذا لو كان بإمكاني النوم هناك الآن؟ أما كنت سأشفى؟

صباحك أيتها البلاد البعيدة الحاضرة.

فيديو مقال حين يتحول الشوق إلى حمى

أضف تعليقك هنا