قراءة في كتاب حوادث دمشق اليومية (11) الأسعار

الأسعار

إن أكثر ما يؤرق البديري في مدونته غلاء الأسعار، فهذا الأمر يكاد يسيطر على الحوادث التي دونها في كتابه، فالمواطن العادي كثيراً ما كان يعاني من غلاء أسعار المواد الأساسية اللازمة لمعيشته، ولأن الباشا وأعوانه صاروا تجاراً يسعون وراء الأرباح الفاحشة لسد التزاماتهم اتجاه الباب العالي في اسطنبول ولتغطية نفقات عظمتهم وأبهتهم، ولكثرة الضرائب المفروضة على التجار من أهل البلد فإن ذلك كله أدى لغلاء الأسعار، فلم يجد المواطن الفقير بل المواطن الوسط ما يسد رمقه، ولا تكاد تمر سنة من سنوات تاريخ البديري إلا ويذكر فيها غلاء الأسعار، والعملات التي يذكرها البديري في تسعيره للمواد هي الغروش أو القروش والمصريات وهي عملة مسكوكة في مصر، ويذكر أيضاً الريالات والروبيات.

أولاً – الأسعار في عهد سليمان باشا العظم

يذكر البديري الأسعار في مطلع عام 1156ه – 1743م حيث كان رطل الخبز الشامي بأربعة مصاري ورطل الأرز بثمانية مصاري ورطل الدبس مثله، وأوقية السمن بستة مصاري ولا توجد، ورطل لحم الضأن بثلاثين مصرية ورطل لحم البقر والجاموس بعشرين مصرية، فالشام كانت أشد غلاءً من غيرها، فثمن مد الملح وصل لثلاثين مصرية، واللبن في آذار أي في موسمه بسبعة مصاري، والخبز لا يوجد والحكام يخزنون، وأهل البلد يفعلون كفعلهم وإلى الله المصير، فالبديري يضع يده على سبب الغلاء وهو الاحتكار.

ثم يذكر في جمادى الأولى من نفس السنة، أن العامة هجمت على المحكمة وطردوا القاضي ونهبوا الأفران، وسبب ذلك كثرة الغلاء وعدم الخبز والازدحام على الأفران، وقلة التفتيش على صاحب القمح والطحان والخزّان، فتلافى سليمان باشا ذلك وشدد على الطحانة والخبازة وهددهم، فوجد الخبز في الحال وتحسن وكثر حتى كسد، بعد ما كانت غالب الناس تبات بلا خبز، فابتهلت الناس بالدعاء لحضرته.

ثانياً – الأسعار في عهد أسعد باشا العظم

ازداد الغلاء كثيراً في عهد أسعد باشا العظم عما كان في عهد عمه سليمان، لأن أسعد باشا احتكر الكثير من المواد وصادر الأغلال وفرضها بالسعر الذي يريده في الأسواق، فاضطربت الأحوال وهاجت العامة، وإليكم بعض القصص التي يذكرها البديري والناتجة عن الغلاء الفاحش في أسعار المواد:

  • هيجان العامة ضد القاضي

ذكرنا ذلك في الفصل المتعلق بالقضاة كيف هاجت العامة من قلة الخبز وغلاء الأسعار في سنة 1158ه – 1745م فوجههم أسعد باشا نحو القاضي فهجموا على المحكمة واضطر القاضي للفرار بعد أن قُتل بعض حراسه، ومن صور الغلاء في ذلك العام يذكر البديري أن غرارة القمح صارت بخمسة وأربعين قرشاً بعدما كانت بخمسة وعشرين قرشاً.

  • كيخية الانكشاري يحتكر السمسم والقمح

ويذكر البديري هلاك مصطفى آغا بن القباني كيخية الانكشارية بمرض أعيى الأطباء برؤه، وقد كان ممن يدخرون القوت ويتمنون الغلاء لخلق الله، فلما أرادوا دفنه كانوا يجدون ثعباناً في كل قبر حُفر لأجله، وذلك بسبب ظلمه وقسوته، وقد وجد في تركته مائة غرارة من السمسم مع أنه لم يكن في البلد كلها مد سمسم، وكذلك القمح الكثير وقد طلب منه بيع غرارة القمح بخمسة وأربعين قرشاً فرفض وحلف ألا يبيعها إلا بخمسين قرشاً، فهلك ولم يبع شيئاً فبيعت في تركته.

  • أسعد باشا يسوق قمحه من حماه

يذكر البديري أن عام 1159ه – 1746م كان خصباً جداً، ومع ذلك أهل الشام في شدة عظيمة من الغلاء، فأقام أسعد باشا ديواناً لمناقشة الأمر، فطلب بائعي القمح وهددهم فحلفوا له أنه لا يوجد عندهم من القمح شيئاً، فأخبرهم أن لديه قمحاً كثيراً في حماه، فأرسلوا بإحضاره وباعوه في الشام على السعر الواقع، وظل رطل الخبز بنفس السعر بخمسة مصاري.

  • عينة من الأسعار خلال شهر رجب 1159ه – 1746م

رطل الخبز بسبعة مصاري مع أنه كان خلال الأشهر الأولى بخمسة مصاري، ورطل الرز بعشرة مصاري بعد أن كان بثمانية، ورطل الدبس بثمانية عشر مصرية بعد أن كان بثمانية، والفاكهة بالرغم من كثرتها فإن رطل التين الطري بأربعة مصاري، والكوسا كل ثلاثة بمصرية ورطل الباذنجان بثمانية مصاري، ويذكر أن هذا الحال قد دام سبع أو ثمان سنين إلا أن هذا العام زاد عن الحد، بسبب قلة تفتيش الحكام.

  • التخّان شيخ الطحانة

يذكر البديري في عام 1160ه – 1747م أن محصول القمح كان خصيباً جداً، وأن أسعد باشا صادر الكثير من المحاصيل خلال حملاته على البقاع والدروز وباعها لنفسه، فهبط سعر رطل الخبز من ستة مصاري إلى ثلاثة، ثم يقول البديري: ((فاشتغل  البرطيل والرشوة للمتسلم موسى كيخية وغيره من أهل الظلم، فحالاً سمعوا منادياً ينادي: لا أحد يبيع الخبز بأقل من أربعة مصاري، وقد كان ذلك كله من شيخ الطحانة ويلقب بالتخّان، عامله الله بما يستحقه آمين، وأن الباشا أمر التخّان هذا أن يبيع قمحه بسعر خمسة وثلاثين للغرارة، وغادر إلى جبل الدروز لمتابعة حربه، فلم يستطع أحد أن يبيع بأقل من هذا السعر إلا خفيةً، فضاق الأمر على الفقراء والمساكين، وكل من تحرك من العامة ربطوه بحبل طويل وجروه إلى العذاب أو إلى القتل وسلب المال والعرض والأمر لله العلي الكبير)).

  • أسعد باشا يصادر أغنام العرب والتركمان

يذكر البديري في عام 1162ه – 1749م أن أسعد باشا أمر بالإغارة على التركمان والعرب في المناطق الواقعة تحت سيطرة الظاهر عمر، فنهبوا أغنامهم وقتلوا جماعة منهم، فلما أتوا بالأغنام للباشا وزعها على لحامة الشام بسعر مفروض، فالتي كان ثمنها قرشاً باعها غصباً بخمسة قروش، ثم يذكر ارتفاع الأسعار في تلك السنة، فرطل الخبز قفز من ثمانية مصاري إلى اثنتي عشر مصرية، ورطل الأرز من عشرة إلى خمس عشرة مصرية، وغرارة القمح من خمسة وثلاثين قرشاً إلى اثنين وخمسين قرشاً.

  • مفتي الشام يخزن ويحتكر القمح

وفي نفس العام يذكر البديري أن مفتي الشام حامد أفندي بن العمادي قد خزّنَ القمح مثل الأكابر والأعيان الذين لا يخافون الرحمن الرحيم، وكأن البديري استغرب هذا التصرف من المفتي، وأن الكيّالة الذين يعملون عنده أشاروا عليه بالبيع فرفض وقال لعل الثمن يزيد، ثم يقول البديري: ((فإذا كان مفتى المسلمين ما عنده شفقة على خلق الله فلا تعتب على غيره)).

  • الحاج محمود التفكجي وأعوانه

ويذكر في نفس العام أيضاً وهو عام خصب، أن غرارة القمح المحصود حديثاً بيعت بخمسة وأربعين قرشاً، فصاحت العامة واستغاثت، فنادوا على رطل الخبز بثلاثة وأربعة مصاري، ففرحت الناس بذلك، فلما وصل الخبر لأسعد باشا غضب غضباً شديداً وأمر الحاج محمود التفكجي بأن يأخذ أعوانه الفسّاق، ويدور في البلد والأسواق، وينبه على الخبازين ألا يبيعوا رطل الخبز إلا بستة مصاري والأسود بأربعة، ومعاقبة كل من خالف ذلك، فرجعوا للمنهج الأول وأسود الخبز وتغير، والله أكبر وأغير.

  • أهل الشام يبكون فرحاً لرخص الخبز

ثم يذكر في نفس العام أيضاً هبوط سعر غرارة القمح لتصل إلى ستة وعشرين قرشاً، ليباع رطل الخبز بثلاثة مصاري، ثم في رجب نادت الخبازة والسوقية بأن رطل الخبز بأربع مصاري والخاص بخمسة والمخلوط بذرة أو شعير بمصريتين، فمن كثرة فرح أهل الشام سيما الفقراء صاروا يبكون وينحبون سروراً حيث فرّج الله عنهم، وقد زُينت غالب أسواق الشام.

  • المتسلم محمد آغا وضبطه للأسعار

ويذكر البديري أن عام 1165ه – 1752م قد استهل بالأمطار الغزيرة فزرعت الناس واستبشرت خيراً برخص الأسعار، إلا أن ذلك لم يحدث، ثم يوضح لنا الأسباب بقوله: ((فالحكام لا يفتشون، والخزّانة كثيرون، والأكابر ساكتون، والحكام يأكلون، والأغنياء منعمون، والفقراء صابرون، وإنا لله وإنا إليه راجعون)).

إلا أنه وبنهاية هذا العام وبعد خروج أسعد باشا أميراً للحج وإنابة المتسلم محمد آغا عنه، فإن أسعار غالب المواد قد تم ضبطها من قبل هذا المتسلم وعلى رأسها اللحم الذي صار رطله بثمانية عشر مصرية، ومن لم يلتزم من اللحامة بالسعر سمّره أي صلبه، ولم يقبل رشوة أو برطيلاً وكان عادلاً فصارت الفقراء تدعو له جهاراً، ثم يذكر البديري إحدى الطرائف وهي تخزين الوقود المتمثل بالفحم في تلك الأيام، وأن الفحم لم يكن يحصل عليه إلا من كان قوياً وصاحب نفوذ مثل القبقولي والانكشاري، وأن المتسلم حاول التفتيش وضبط الفحم فلم يجد من يساعده في ذلك.

ثالثاً – الأسعار في عهد حسين باشا مكي

في عام 1170ه – 1757م يذكر البديري وصول حسين باشا مكي والياً على الشام، فخرج الأعيان والأفندية وفوداً للسلام عليه في السرايا، فوقفت العامة في طريقهم ورجموهم بالحجارة وشتموهم، وقالوا لهم: أنتم منافقون وتعينون الحكام على ظلم الفقراء والمساكين، فارتجت الشام مما دفع بالوالي الجديد للتفتيش على المظالم والجنوح للعدل، فرخصت الأسعار ثم عاد للظلم كأسلافه، فرجعت الحالة كما كانت عليه، حتى أن الأسعار زادت أكثر في رمضان فصار رطل الخبز باثنتي عشر مصرية بدلاً من سبعة مصاري، ورطل الأرز بأربعة عشر مصرية، وغرارة القمح بخمسين قرشاً.

رابعاً – الأسعار في عهد عبد الله باشا الشتجي

وفي عام 1171 ه – 1758م وبعد انتهاء فتنة الانكشارية والقبيقول على يد الوالي عبد الله باشا الشتجي، والتي ذكرناها في الفصل المتعلق بالعسكر، فإن البديري يذكر ارتفاع الأسعار بعدها مباشرةً، فرطل الرز وصل لأربعة وعشرين مصرية والخبز والدبس مثله كذلك، وغرارة القمح وصلت لثلاثة وسبعين قرشاً وهكذا …

ثم يذكر كيف أن عبد الله باشا الشتجي لرفع الظلم عن الناس، طلب رحيل العساكر الذين انتهت مهمتهم عن الشام، فارتاح الناس من شرورهم، ثم أن قاضي الشام عمل محتسباً وكان رجلاً صالحاً، فصار يدور بنفسه على السوقة ويعاير الموازين والأرطال والأواق، ومن وجد أواقه ناقصاً عاقبه بضربه علقة على رجليه، ومن كان تاماً كافأه بمصرية من فضة.

وأخيراً …

فإن الغلاء لم يتبدل في عهد الولاة المتأخرين من أمثال الشالك وعثمان باشا، ولو أن البديري يذكر تحسن الأحوال كثيراً خلال فترة ولاية عثمان باشا سردار الجردة.

فيديو مقال قراءة في كتاب حوادث دمشق اليومية (11) الأسعار

 

أضف تعليقك هنا