قراءة في كتاب حوادث دمشق اليومية (13) مقاربات وخاتمة

قراءة في كتاب حوادث دمشق اليومية

والآن وبعد أن انتهيت من مقالاتنا بعنوان ((قراءة في كتاب حوادث دمشق اليومية)) للبديري، والتي ضمت عدة مقالات هي ((الولاة، والعسكر، والقضاء، والمشايخ، والحج، والنساء، والعادات والتقاليد، والطوائف، والعربان، والأسعار، والمحن والكوارث)) … أقول:

عصر البديري من العصور المهمة 

إن العصر الذي عاش فيه البديري يجب دراسته باستفاضة أكبر، فالمرحلة التي يؤرخ لها البديري تعتبر مرحلة مهمة جداً في تاريخ الشام، فالقرن الثامن عشر الذي كتب عنه البديري شكل الإرهاصات الأساسية لحوادث القرن التاسع عشر، حيث انتهى هذا القرن بحملة نابليون على مصر، وسيطرة الانكليز على طريق الهند.
والمرحلة التي أرخ لها البديري يمكن عدّها وفقاً للمصادر التاريخية التي تؤرخ لها هي مرحلة قاتمة نكاد لا نعرف عنها إلا النزر اليسير، فقد جاء كتابه في أوج سيطرة العثمانيين على بلاد الشام، أي بعد أكثر من مائتي عام على سيطرتهم على البلاد وقبل خروجهم منها بحوالي المائتي عام أيضاً.

البديري والعهد العثماني

فالعصر الذي عاش فيه البديري ما نزال نعيش ترسباته في عصرنا الحالي، فالعهد العثماني الطويل في بلادنا الذي دام لأكثر من أربعمائة عام ترك أثراً شديداً في المجتمع وهو سبب من أسباب تخبطنا إلى الآن، فالولاة وبطشهم بالرعية يساعدهم في ذلك طغمة لئيمة من العسكر كالانكشارية والدالاتية وغيرهم، وهؤلاء كانوا أشد حقداً على المجتمع الدمشقي كون غالبيتهم نتاج ضريبة الدوشرمة العثمانية (ضريبة الغلمان)، والذين لم يرعوا في أهل الشام إلاً ولا ذمةً، وسعوا لتدمير المجتمع ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
ونتج عن كل ذلك أن أبناء المجتمع الشامي قد تحول ولاءهم من الولاء للدولة إلى ولاءات محلية مبنية على ارتباط عائلي أو عشائري أو طائفي أو إقليمي، وكل فئة تمسكت بولاءاتها ونازعت الفئات الأخرى وكل ذلك بتحريض من الوالي العثماني وأعوانه.
وهذا الأمر أدى إلى تكتلات اجتماعية منعزلة عن بعضها ومنغلقة بالكامل على ذاتها، فالعشائر العربية شكلت كل عشيرة منها جزيرة مستقلة عن العشيرة الأخرى، والطوائف انغلقت على نفسها، والأرياف أصبح قرىً مستقلة، بل حتى المدن بما فيها مدينة دمشق أصبحت حاراتها وأزقتها منغلقة على نفسها، وكل ذلك بسبب الفتن والقلاقل التي أثارها العسكر وجرتى الويلات على الشام ومن أبشعها التعديات على الأعراض.

الجزيرة والنمو الاجتماعي

فهذه الجزر الاجتماعية المستقلة عن بعضها والمعزولة بل المنغلقة تماماً على نفسها، بدأت تنمو اجتماعياً واقتصادياً بل وفكرياً لوحدها دون أن تتشارك مع باقي الجزر أو الفئات الاجتماعية، ورويداً رويداً وبعد مئات الأعوام أصبحت كل جزيرة اجتماعية غريبة تماماً عن الأخرى.
فهذه الاستقلالية والغربة الاجتماعية أثرت لاحقاً في المجتمع العربي في بلاد الشام، فلم يحدث الانسجام بين هذه الجزر أو التشكيلات الاجتماعية بعد خروج العثمانيين، بل بقيت كل فئة غير مطمئنة للفئة الأخرى، وهذا ما ظهر جلياً في الأزمة التي تعيشها سورية منذ عام 2011م، وهي نفسها التي اشعلت أتون الحرب الأهلية في لبنان خلال سبعينيات القرن الماضي، وأبعد من بلاد الشام هي من اسقطت بغداد بيد الأمريكان عام 2003م.

التقرب بين القرنين الثامن والتاسع عشر

وإذا ما حاولنا التقريب بين عصر البديري في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي والقرن الحادي والعشرين الحالي، فإننا نجد هموم ومعاناة المواطن الشامي واحدة، والتي يأتي على رأسها غلاء الأسعار، فالغلاء هو الوباء الذي طالما حلَّ بالشام ونغص معيشة أهلها بالرغم من كثرة خيراتها.
ولكن أكثر ما أثار انتباهي في مدونة البديري وأشعرني بالخطر هو حديثه عن الكوارث التي حلت بالشام، فالجراد يمكن مكافحته بعد تطور الوسائل الزراعية، والطاعون كذلك بسبب تطور الصحة العامة، والجليد والفيضانات يمكن اتخاذ الاحتياطات التي تخفف من نتائجها، إلا أن الخطر الأعظم هو الزلازل، فالزلزال المدمر الذي تحدث عنه البديري في عام 1759م يعتبر عنيفاً ومدمراً، وبالعودة للزلازل الأقدم، نلاحظ أن هناك دورة زلزلية تعاود البلاد بين الحين والآخر، وهذا الحين قد يستمر لمئات الأعوام.

وفي النهاية اتمنى أن أكون قد قدمت لكم قراءة جيدة لهذا الكتاب الرائع الذي يصور لنا مرحلة هامة من مراحل تاريخنا الطويل.

وأخيراً …. أقول: اللهم احفظ الشام وأهل الشام، اللهم بارك لهم في بلادهم وادفع عنهم غوائل الدهر.

فيديو مقال قراءة في كتاب حوادث دمشق اليومية (13) مقاربات وخاتمة

 

أضف تعليقك هنا