الألم وقود الإبداع

نعم إنها حقيقة مشاهدة، معلومة بالملاحظة والاستقراء، فأغلب المبدعين والمتميزين في شتى مجالات الإبداع، وعلى مر العصور، مروا من صنوف من الآلام والمعاناة، فالقاسم المشترك بين أغلبهم – إن لم نقل كلهم – هو عصرُ الظروف لهم عصرًا وتنكيل الآلام بهم تنكيلًا.

الآلام وقود الإبداع

فكانت الآلام وقودا يشعل فتيل إبداعهم، ويحرض ملكاتهم لإخراج الدر المطمور في دواخلهم، ومحفزا لهِمَمِهم للتشوف إلى الأعالي، والتسامي على الواقع المر بالتحليق في عنان سماوات التميز والإبداع،  وتوظيف القدرات الخاصة للمبدع بطريقة فنية تستوعب الحزن وتجسد المعاناة.

فالألم رغم ما ينطوي عليه من أحزان وقسوة في ظاهره، فإنه يصبح نعمة على المبدع، كالدواء المر الذي تحمد عقباه لمن صبر على تجرعه و أحسن استعماله.

فمن محنة المحبسين خرجت حكم بليغة وأشعار بديعة، لازلنا نذكر بها حكيم الشعراء وشاعر الحكماء أبي العلاء المعري، شأنه في ذلك شأن الإمام الترمذي وطه حسين وبشار بن برد وغيرهم ممن اشتركوا معه في إعاقة العمى والإنتاجات الإبداعية كل في مجاله.

وصف بديع الزمان للمتنبي

ولولا سقوط المتنبي بحمى تُـنْهِك، ما كنا لننعم بوصف بديع لها، بشعر لا يمل على مر العصور مطلعه:

وزائرتي گأن بها حياءٌ   +++++++++   فليس تزور إلا في الظلام

ولولا معاناته مع الحكام وكثرة ترحاله في سبيل طلب الولاية والدنيا، لما كان لأشعاره ما كان من تقدير واعتراف بالتفرد والعظمة.

شاعر تونس الخضراء

أما شاعر تونس الخضراء الكبير وبلبلها الصداح أبو القاسم الشابي، فقد جعل من الألم الجسدي والقصور في القلب، سببا لطلب العلا ومعراجا إلى سماء الخلود، عن طريق الأشعار المكتوبة والآهات الموزونة بالقوافي، والتي لا زلنا نحس بين ثناياها بصرخات الشابي العليل المتألم، المستشعر لدنو أجله وهو في مقتبل العمر وإقبال الشباب، ليترك لنا رائعتي “إلى الطغاة” و “إرادة الحياة”،  أنتجها والعديد من الأشعار الرائعة في عمر لم يصل الثلاثين سنة .

والأمثلة كثيرة متعددة، في مجالات الإبداع المتنوعة، فالمبدع حينما تعصره الظروف وتبرحه الآلام، تشتعل جذوة الإبداع في داخله، وتلتهب المشاعر والأحاسيس مُرْسِلة ألسنة النيران فتخرج قصيدة موزونة، أو رواية محبوكة، أو لوحة أخاذة، أو قطعة موسيقية رائقة.

الفرق بين الإبداع الحقيقي والمتصنع

الإبداع الحقيقي ابن شرعي للألم، أما الإبداع المُتَصنَّع المتخيل فإنما هو ابن غير شرعي، فلا يمكن مقارنة كلمات مبدع، عاش القهر في السجون فأخرج كتابا يصف فيه الحياة  داخل أسوارها ، بكلمات كاتب مرفه يجلس على كرسي دوار، وأمامه مكتب مريح، ممسكا بقلم مذهب ليكتب لنا عن معاناة السجناء.

فالألم صانع للإنسان المتميز ومفجر للإبداع الحقيقي، وكلما كان الألم عظيما كان إبداع المبدع أكثر تأثيرا، كما يرى ألفرد ديموسيه حين يقول  “لاشيء يجعلنا عظماء غير ألم عظيم”

لكن، قد يتساءل متسائل فيقول: ما أكثر المتألمين، فلماذا لا يصيرون مبدعين كلهم؟

جوابي: الألم الحكيم، أو لنقل الألم النبيل الملهم لشخص مبدع، هو الذي يستفزه لإخراج ما بداخله من كنوز،

أما الشخص العادي فقير الإحساس فلا يجد ما يخرج منه، أو في أحيان كثيرة يخرج أسوأ ما فيه.

يصبح الناس على ثلاثة أنواع:

المبدعون:

وقد تحدثنا عنهم.

العاديون:

الذين يعبرون على الألم والمعاناة بالبكاء والعويل والشكوى، وقد يختار الضعاف منهم وضع حد لحياتهم، لضعف تحملهم وعجزهم عن تصريف الشحنات الزائدة.

النوع الثالث وهم التافهون:

الذين يصرفون ما يلاقون من ألم، بتصرفات التمرد على القيم، والتباهي بانحرافهم الأخلاقي والسلوكي، والسعي إلى الشهرة ولو بالتفاهة والرعونة وجلب اللعن، كالبائل في بئر زمزم.

وللتمثيل على ما سبق، لو سلَّطنا قوة ضغط على ليمونة وزيتونة وحنظلة، فرغم أن الضغط نفسه والظروف مماثلة، فإن الليمونة ستفرز عصيرا سائغا، والزيتونة ستنتج زيتا مباركا، أما الحنظلة فستخرج سما قاطعا.

فالآلام والمعاناة إما أن تخرج أحسن ما في الإنسان أو أسوأ مافيه، فمن لم يتألم لن يتعلم، ومن رحم المعاناة يولد الإبداع وتخلد أسماء المتميزين و الخلاصة: ” الألم يخرج أحسن ما في المبدع، وأسوأ ما في التافه.”

فيديو مقال الألم وقود الإبداع

أضف تعليقك هنا