ثنائية الرقص بين القبول والرفض

الروئ المختلفة حول الرقص

  • بين من يرى في الرقص ظاهرة اجتماعية إنسانية ثبًّتت نفسها على ورق البرديات وأعمدة المعابد الشاهقة، وعلى جدران المقابر ونقوش الحفريات عبر تاريخ الوجود الإنساني، وساعدت في بقاء النوع البشري وتكيفه مع بيئته القاسية؛ بخصائص انتخابية تطورية مازالت باقية إلى وقتنا الحاضر، والذي أصبح فيه الرقص قيمة فنية وتعبيرية سيمانطيقية تؤكد عليه الأبحاث والدراسات الإنسانية والتجريبية.
  • وبين من يجد في الرقص خدوشا ومزالقَ للخطيئة، وتمثيلاً لقبح الذنب المترسخ في التابوهات الاجتماعية والا وعي الفردي والجمعي، وكذلك في تفسيرات المؤمنين الصارمة للعقائد السماوية: من ثورة النبي موسى عليه السلام في سفر الخروج لرقص العبرانيين أمام العجل ((الخروج 19:32)) وعلى أثر تداعيات رقصة هروديا التي نالت بها مآربها الخبيثة من الملك هيرودس بقطع رأس يوحنا المعمدان ((مرقص 22:6)) وضع بعض آباء الكنيسة الرقص في قفص الاتهام الدائم والتحرز المتشدد، كما أن فقهاء الدين الإسلامي لم يبعدوا عن تلكم الآراء النجعة.

تقبيح الرقص عند بعض فقهاء الحنابلة

ومن ذلك ما أورده فقيه من فقهاء الحنابلة وهو ابن الجوزي من تفصيل مطول في تقبيح الرقص فقال بعد تأصيله الأدلة الشرعية، ومنتقلاً إلى البيان العقلي: (.. دعونا من الاحتجاج وتعالوا نتقاضى إلى العقول، فأي معنى في الرقص الا اللعب الذي يليق بالأطفال وما الذي فيه من تحريك القلوب إلى الآخرة.. ولقد حدثني بعض المشائخ عن الغزالي أنه قال: الرقص حماقة بين الكتفين لا تزول الا بالتعب). ((تلبيس ابليس ج1 ص(231)) .

وبين الدلالات المتعالية والسامية التي اثبتتها علوم الأنثروبولوجيا الحديثة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وبين انحدار المعاني في بعض التفسيرات الدينية الأخرى، ما يجعل من الرقص ظاهرة لثنائية (المحتفى والمنكل به) في ذات الوقت بحسب التمثلات الاجتماعية وانتماءاتها!. الأمر الذي خلق تجاه الرقص حالة من الارتباك والتشوهات الشعورية في الوجدان الإنساني عند بعض الشعوب التي ما زالت تعيش تلكم الصراعات المحتدمة بين القبول والرفض.

عدم حصول الرقص على الدراسات والبحث المنهجي الموضوعي بشكل كافي

ورغم ذلك كله فإن الرقص كظاهرة اجتماعية للأسف لم يحفل بالكثير من الدراسات والبحث المنهجي الموضوعي، فأغلب الدراسات والكتابات التي تناولت الرقص كانت تتناوله كظاهرة تعبيرية سيمانطيقية أو ادائية فنية فلكلورية أو دراسات فقهية مسبقة النتائج تبحث عن تجريمه وتوشيمه!، رغم أنَّ في الرقص حالة مجتمعية يجب تناولها باستقلالية تامة وحد مقبول من الموضوعية بكافة أبعاده التاريخية والإنسانية والوظيفية والتفاعلية.

لقد أكدت أحد الدراسات التجريبية الغربية التي تناولت استجابة الأعصاب والدماغ ودراسة التوافق العصبي العضلي؛ بأن الرقص من الأنشطة الإنسانية النادرة التي تحتاج توافقا (عقلي -حركي) متقنا ومعقد، وهذه الخاصية هي ما تجعل الإنسان يتفوق على الحركات الإيقاعية التي رصدت عند بعض الطيور والحيوانات ( كالببغاء “سنو بول”، من فصيلة الكوكاتو، والذي استطاع أن يهز رأسه مع إيقاعات أغاني فرقة “باك ستريت بويز” بطريقة حركية عضلية فقط، مثلما استطاعت بعض إناث حيوان أسد البحر الكاليفورني أن تحرك رأسها مع مجموعة متنوعة من موسيقى أغاني الروك).

الرقص أحد أشكال المنطق ونقل المعاني المتعالية عند الإنسان

ولذا يعد الرقص أحد اشكال المنطق ونقل المعاني المتعالية عند الإنسان، وله ذات القيمة التي يحملها التفكير النطق. وقد سُجل الرقص كحالة مثبتة في الطقوس الدينية ما قبل السماوية، حيث تشير الموسوعة العربية العالمية أن الرقص نشأ في بدايته عن شعائر دينية للسيطرة على قوى خفية، وبأن  الرقص بالتحلق والتماسك والتراص كان يخفي خلفه اعتقادات بقوى سحرية لهذا التجسد الشكلي، وأن أصل رقصة “التارانتيلا” الإيطالية -مثلاً – كان لعلاج المصابين بلسعة العناكب السامة.

كما رقص الإنجليز رقصة “الموريس” وسط الحقول تبركا وأملاً في إخصاب الأرض لمواسم الحرث، أما هنود أمريكا الشمالية فكانت لديهم رقصة يسمونها “هزة المطر” يتوددون فيها للأرواح  ويسألونها سقاية المحاصيل. ((الموسوعة العربية العالمية ج11 ص 264 -265)).

“الرقص”خط ما بين الجسد والروح

منذ تلك الوظيفة المتعالية للرقص المقدس وتوظيف الجسد الإيقاعي فيه، حدثت نقلات تطورية كبيرة يمكن سبرها من خلال ما استطيع تسميته مجازا بـ ((خط ما بين الجسد والروح)) وهو تفسير استعيره هنا من المقاربات الإشراقية التي فصلت وفرقت بين الجسد وبين النفس الساكنة له ” الروح”. هذا التفريق جعل من الجسد عند فلاسفة الإشراق – منذ الأفلاطونية المحدثة – مجرد تمثيل قابل للفناء والفساد لتجليات تلك الروح الخالدة، وهي مقاربة ” اثنوصوفية” نجدها واضحة المعالم عند بعض العلماء المسلمين كالفارابي، والشيخ الرئيس ابن سينا، والسهروردي الإشراقي.

هذا الفصل بين الجسد والروح اوظفه لأجعل من ظاهرة الرقص استثناء إنسانيا يكتسب قيمته بحسب موقعه من خط ( الروح والجسد)، حيث يصل الرقص أشد مراحله تعاليا وسموا حينما يكون فناء جسديا في سبيل الروح تاركا الجسد خلفه في حلقات الذكر عند المتصوفة ورقصاتهم المتبتلة، ومن أشهر تلك الرقصات “مولوية” جلال الدين الرومي حين يذيب الناسك جسده -على نغم الناي- دوائر في  سبيل خلود الروح والرفع من شأنها.

ثم يمكن أن تهبط تلك القيمة الحركية للرقص طرديا مع تقاسم الجسد والروح تلكم الإيقاعات في  المدارس التعبيرية في الفنون الأدائية، كالرقص في مهرجانات الإله دينوسيوس في المسرح اليوناني قبل الميلاد، وحتى مطلع القرن السابع عشر الميلادي  في حقبة أمر خلالها لويس الرابع عشر بإنشاء أول اكاديمية ملكية للرقص، وعهد بها الى استاذ الباليه الشهير وقتها “بيار بوشان” حينها تمت الخطوات الأولى لتدوين خطوات الرقص كما يتم تديون الأرقام في المعادلات الرياضية!.

“رادولف فون لابان ” مصمم الرقص الألماني

وهي الخطوة التي أكملها باقتدار “رادولف فون لابان ” مصمم الرقص الألماني في مطلع القرن العشرين، والذي اكتملت على يديه فكرة كتابة خطوات الراقصين على خشبة المسرح بشكل جعل من الرقص حالة مادية مجردة تخضع لحمولة المعاني وتخدمها. وبالتالي ترسخ هنا ما يمكن أن اعتبره تقاسم الجسد الهندسي المهندم لتركة الرقص مع روح الفن وتجلياته.

وحتى نكمل رحلتنا التأملية لظاهرة الرقص على خط ( الروح والجسد) يجب أن لا نهمل المحطة الأخيرة في جذب تلك الظاهرة من عوالي وسماءات الروح إلى قاع التمثيل الجسدي، وبسببها سكن الرقص الزوايا المظلمة في الكباريهات وشوارع الليل في شتا عواصم العالم؛ حينما يكون ” الرقص” ذريعة لمارب أخرى لا تحفل سوا بمتعة وملذات الجسد!. واجزم أنها هي الحالة المسؤولة عن تشكيل ( لا وعينا الجمعي) عن دونية الرقص بالتقاطع مع عوامل أخرى فرعية.

إشكاليات الجسد لعصور ما بعد الحداثة

هنا يجب أن أذكر بمقاربة عالم الاجتماع الفرنسي ديفيد لوبيرتون في كتابه ((سيسيولوجيا الجسد)) حينما تحدث بمجمل كلامه عن انتقالات الاعتناء البشري من إشكاليات ((الجسد/ الآخر)) لينتهي به المطاف عند دراسة إشكاليات انفصال الذات عن الجسد الذي تسكنه بما اسماه لوبيرتون ((إشكاليات الجسد لعصور ما بعد الحداثة)). تلكم المقاربة التي تجعل من الأجساد حالة مستقلة ننظر إليها مثل آلة!. مما كان له بالغ الأثر على المعاني الايستاطيقية والجمالية لاتحاد الروح مع جسدها، فتكرست حالة فصل الجسد بمعزل عن الذات سواء في الرقص أو في سائر أوجه الحياة المادية الحداثية الأخرى.

انطلاقا من هذا الاجتهاد التأملي الشخصي لحركة تمثلات الرقص على خط ثنائية الروح والجسد في التاريخ الإنساني، استمر الرقص يعيش صعودا وهبوطا بحسب ارتباطه بثناية الروح والجسد: في ساحات الحروب، وعلى خشبات المسرح التعبيري.

وفي حلقات التأمل والتصوف عند الديانات الشرقية، ولكنه للأسف خفت بريقه وتأثر بحملات تشويه تقودها التفسيرات المختلفة للديانات السماوية، والأعراف الجنسانية التي ربطت الرقص دائما بالإثارة والجنس والمحرم وثقافة العيب، واخفته للأسف في الغرف المغلقة والزوايا المظلمة؛ حيث يسجن فيها الجسد الراقص سجنا انفراديا معزولاً عن روح الحق والخير والجمال.

فيديو مقال ثنائية الرقص بين القبول والرفض

 

 

 

أضف تعليقك هنا