عن حقبة مظلمة نحكي

بقلم: محمد الواعظ

الصين وتاريخ الكتب

لُقب بصاحب أكبر محرقة كتب في التاريخ، بل هو أول من أشعل شرارتها وأورث عدواها.. إنه الإمبراطور الصيني (شي هوانج تي). فرغم كل ما قام به من جهود وإصلاحات وإنجازات ساهمت في توحيد الإمبراطورية الصينية التي كانت منقسمة قبل أن يتولى تقاليد حكمها، فضلا عن إتمامه بناء سور الصين العظيم، إلا أنَّ كل هذه الحسنات لم تشفع له جريمته القمعية في حق الكتب والمكتبات. ليس هذا فحسب، بل تحول هذا الاعتداء الغاشم للكتب إلى ظاهرة مستبدة امتدت عبر العصور، وتعاقب على إحيائها أعتى الإمبراطوريات الاستبدادية، فلم يخمد لهيب المحارق إلا بعد انحسار آخر هباب الرماد للقراطيس المتفحمة.

المغول وحرق مكتبة بغداد

ولعل من أشهر الانتهاكات المتمثلة لمصادر العلم والمعرفة، هو ما جناه المغول أثناء غزو بغداد في سنة 656ه من نهب وسلب وتخريب ناهيك عن ارتكاب أشد الفظائع بحق المسلمين وتشريدهم، مرورًا بحرق مكتبة بغداد العظيمة وإلقاء عدد هائل من المؤلفات والمجلدات القيمة في نهر دجلة الذي تحول ماؤه إلى الأسود الداكن بحسب رأي بعض المؤرخين.
إن أي انتهاك صارخ يطال كل مصنف ومؤلف قَيّم ثري بالفوائد والفرائد هو في حد ذاته يُعدُّ مناهضة لأهم مصادر العلم والمعرفة، وقد يفضي إلى طمس للهوية الشمولية للثقافة والأدب والتاريخ والمعرفة. أما تدمير المكتبات ونهب محتوياتها الثمينة هو بلا شك يمثل اجتراءً لنسف حضارة أمة من الأمم وتاريخها العريق الحافل بالمجد والأصالة.

حرق الكتب والحضارة

يقول الكاتب الأديب (راي برادبوري) – مؤلف رواية فهرنهايت وهي من أشهر المؤلفات التي تحدثت عن حرق الكتب-:( ليس عليك أن تحرق الكتب لتدمر حضارة، فقط اجعل الناس تَكفُّ عن قراءتها وسيتم ذلك). والجريمة الأخطر من حرق الكتب هي عدم قراءتها، حسب مقولة الشاعر الروسي (جوزيف برودسكاي).
إنَّ أي مجتمع لا يوفي للقراءة حقها من العناية والاهتمام، وبالتالي لا تجد أية صلة بين أفراده وبينها سوى القطيعة والإعراض لهو معرض للوقوع أسيرًا في ظلمات الجهل، ولأصابنه حمى التخلف إلى أجل غير معلوم.

وبخلافه المجتمع الذي يتسلح أفراده بالعلم والمعرفة، حريٌّ به أن ينهض ويرتقي نحو أعلى سلم النمو والتقدم، فأخطر وباء ينتهك حضارة أمة حين يتفشى داء الجهل والتخلف بين أفرادها، ولنا في الشواهد عبرة. تقول الحكمة اليابانية: (شعب يقرأ، لن يجوع ولن يُستعبد).
أما واقعنا الأدبي اليوم فيبدو جليا لعين المطلع لم يسلم من معاناة متجددة وإن كانت أخف حدة من الحقب السابقة، فمن مساوئه شيوع ظاهرة أشباه الكتب والكُتاب بشكل يثير الغرابة في الواجهة الأدبية، ثم استحواذها على الحيز الأكبر من الاهتمام دون ترك مساحة أو فرصة للكتب الأدبية العظيمة.

التراث الأدبي

ففي أحد المعارض أثناء تجوالي للبحث عن المؤلفات الأدبية التراثية – وكلي يقين باستحالة إيجادها، لكن قد يحالفني الحظ للعثور على أحدها عبر التوجه إلى ركن مهمش كما خطر في نفسي- وقعت عيني على مكتبة مصرية عهدت توجهها سابقا في العناية بالتراث الأدبي، إلا أني صُدمت حينها بعدما وجدت المعروض إزائي أغلبه من الإصدارات العصرية والحديثة، باستثناء القليل منها لقيتها خارج نطاق احتياجاتي.

وعندما استفسرت من البائع عن عدم جلب كتب من الأدب التراثي كما أدركنا غايتهم. أجابني بصريح العبارة لو شحن تلك الكتب التي أقصدها، فلن يبتاعها أحد سواي، كونها لا تواكب متطلبات عصرنا الراضخ للواقع الافتراضي، ولا تتفق مع ميول القارئ اليوم الذي لا يألف سوى صنف واحد من الكتب وهي الروايات الحديثة عمومًا، وهذا بالطبع سيكلفهم خسارة باهظة لو خالف الوضع المتعارف عليه.

التاريخ الضائع

نعم هذه هي الظاهرة السائدة لواقعنا الأدبي اليوم، وقد ألمحت أكثر من مرة في مقالات سابقة عن ضياع جزء كبير من الثروة الأدبية الكامنة في الكتب التراثية، وإحلال مكانها كتب عديمة القيمة ولا أود التعميم، فأستثني بعض الإصدارات الحديثة التي هي محل إشادة وثناء لما تحمل من أهمية اعتبارية. ولم تختلف ذائقة قراء اليوم إلا بسبب تسليط الضوء بالوسائل الحديثة على مؤلفات آنفة الذكر.

ولن يتم معالجة القضية إلا بالشروع في ترسيخ مبدأ التوعية كما أشرت في مقالة سابقة، كما لا أرجو أن يتمادى بنا التوجس لواقعنا الثقافي الحالي المواجه لأصعب التحديات أكثر من مصير حرق الكتب، إذ تُصور لي الهواجس مستقبل البشرية غارقاً في الفوضى الخلاقة، أوهنته التعقيدات التكنولوجية، حيث تبدد كيان الورق من الوجود تمامًا، ولم يعد للكتاب ماهية سوى ذكرى عابرة تحمل ريحها مدافن رفات المكتبات التي حالت أوضاعها المهملة إلى مجرد مزارات سياحية تاريخية عديمة الأهمية.

التفاؤل 

أراكم تتهمونني بالتشاؤم، ولا ألومنكم يا أعزاء وإن خالفتكم، لكن اعذروني فعالمنا اليوم حاله تزداد سوءا بعد سوء، وقد تعددت الأسباب وهي آخذة في التصاعد، لكن قبل أن أدعو نفسي للتفاؤل والتمسك بالأمل مهما ضاقت سعته، أحثكم على مشاركتي وإني لحقيق بحاجة لدعمكم، إذ يتحتم علينا أن نخطط لحرق كل ما يطال ويهدد سلامة ثرواتنا الأدبية النفيسة التي تضيء تاريخنا الحضاري المشرق قبل أن يبلغنَّها لهيب محرقة قادمة.

بقلم: محمد الواعظ

أضف تعليقك هنا