كيركيجارد ومفهوم الحقيقة

كلما تحسست الوجود، لم أجد شيئا. ما هذا الشئ المسمى بالكون؟ من الذي أوجدني في هذا العالم، والآن يتركني وحيدا؟ من أنا؟ كيف أتيت إلى هنا؟ ولماذا لم يسألني أحد؟”

الفلسفة الوجودية

تتميز الفلسفة الوجودية بالنزعة الذاتية وقد ساعدت ظروف عدة على ظهور الفكر الوجودي على مسرح الحياة الإنسانية وذلك خلال الحربين العالميتين اللتان أنهكتا قوى العالم وقضتا على آماله وتطلعاته نحو مستقبل مشرق وما خلفته من ضحايا وكوارث وعملت جوا من الرعب والخوف والقلق وانهيار للقيم التي صبغت حياة الانسان أعواما عدة، وكان من نتيجة ذلك أن اتجه الفكر الانساني الى رفض النظر المجرد والأنساق الفلسفية التقليدية وتحول النظر الى الانسان نفسه الى مشكلاته ومصيره وكيفية خروجه من حالة البؤس والضياع التي تهدد وجوده. وهكذا نشأت الوجودية المعاصرة كحركة احتجاج ومعارضة على العقلية المفرطه فالوجودية مذهب يتصل اتصالا وثيقا بالنزعة الانسانية الطبيعية وبالحياة.

كيركيجارد أبو الفلسفة

يعتبر كيركيجارد أبو الفلسفة الوجودية حيث تبلورت فكرة الفلسفة الوجودية معه وعن حياته ولد سورين كيركيجارد بمدينة كوبنهاجن في الدنمارك عام 1813 من أب في السادسة والخمسين وام في الخامسة والأربعين كان موت والده عام 1838م، علامة فارقة في حياته. فقد كان الإبن يرجح صحبة الأب، الذي كان يكشف له عن مسيحية مليئة بالقلق. وكانت حياة سورين كيرجارد حتى وفاة والده، سطحية مضطربة. إلا أنه بعد ذلك، بدأ يعشق المسرح ويقرأ كثيرا لمشاهير الشعراء. تأثر بالإبداع الفلسفي ل “فخته” و “شيلنج” و “هيجل”.

أحب ريجينا ابنة مستشار المحكمة. لكنه تخلي عنها وفسخ خطوبته بعد عشر سنوات، عندما وجدها ستكون عائقا في طريق رسالته الفكرية والفلسفية. ألف العديد من الكتب، تبين رؤيته ومعالجته للحياة، ساد فيها الجانب الوجداني والذاتي. مات في سن مبكرة بعد شهر من العذاب عام 1855م.

الإنسان يولد ويموت

كان كيركجارد يريد لفلسفته أن تكون تعبيرا عن وجوده الخاص الذي هو نسيج من التناقضات وأن يستخرج من أعماقه ما يشعر به من ألم و توتر وعذاب ليكون نظرية عن الإنسان بصفة عامة فما يعانيه من قلق ويأس وشعور بالخطيئة ومرض نفسي ليس حالة خاصة به وحده لكنها تمثل عوامل تتألف منها الذات البشرية. [1](1)

والحق أن كيركجارد حطم القاعدة التي تقول أنه اذا كان الإنسان يولد وحيدا ويموت وحيدا فهو لا يعيش الا مع الآخرين فقد عاش وحيدا و مات وحيدا وقضى حياته القصيره في عزلة رهيبة لا يصاحبه فيها سوى ذاته. [2](2)

يقول كيركيجارد : ” ان المهم أن أفهم مصيري أنا وأن أدرك ما يريد مني الله أن أفعله أو أجد الحقيقة التي تكون كذلك بالنسبة لي أنا أن أجد الفكرة التي أكرس لها محياي ومماتي”

الحقيقة في الفردانية

” لو سئلت عن العبارة التي أتمنى أن تكتب على قبري فلن أطلب الا عبارة واحدة هي : ذلك الفرد. “[3](3)

يرفض كيركيجارد فكرة التطابق تطابق الحقيقة مع الواقع لذلك هو يرفض المجموع حيث يرفض أن نصل للإيمان والحقيقة من خلال الجماعة لذلك فهو يدعو للفردانية فالحقيقة ذاتية عنده ويسمي المجموع قطيع وحتى لو تبنى المجموع مفهوم الحقيقة ستصبح هذه الحقيقة باطله فالمجموع لا يساوي الحقيقة وبالتالي لا يساوي الحرية فيصبح الاختيار معضله فبلا حرية لا يوجد اختيار.

تعتمد الفردانية على فكرة الإستقلالية واعتماد الفرد على نفسه في اتخاذ قراراته حيث يرى كيركيجارد أن الانسان يتحقق في الوجود عن طريق الإرادة ويتبعها الاختيار ويترافق مع الاختيار تحمل مسؤوليته .

فالحقيقة هي علاقة ما بين الفكرة وصاحب الفكره والمعيار هنا هو أنت كحامل للفكره وشرط الحقيقة الأهم هو أن تكون الحقيقة ذاتية صادرة من الشخص نفسه فليس المهم ما تؤمن به بل الأهم كيف تؤمن به؟

الفلسفة بالنسبة للفرد

ولكن ما الفرد حسب الفلسفة الكيجاردية؟؟

في مقال للدكتور عامر شطارة(4) يجيب فيه عن سؤال ما الفرد حيث يرى أن الفرد أولا هو وجود ولكنه ليس وجودا متجانسا بل هو علاقة نفسجسدية (نفسي جسدي) “psychosomatic” مركبة من المتناهي واللامتناهي ومن الزماني والأبدي ومن الحرية والضرورة. ان حالة عدم التجانس هذه أسماها كيركيجارد “مأزق الفرد الموجود” فهي تمثل قوى شد عكسي بين قوى الفرد الطالبة للحرية والمطلق وبين الإمتثال للطبيعة والحتمية من خلال العالم المادي و من ثم فالفرد عباردة عن مسيرة تعرف الذات الفرد أي “أن يكون الانسان هو ما هو”. والفرد هو عبارة عن صيرورة تتشكل عبر الزمن وهو بالمقابل علاقة تبدأ عندما يعي الفرد ذاته ومن ثم يتواصل مع الآخرين بناء على استقلاليته و وعيه بهذه الاستقلالية.

المراحل التي يصل بها الإنسان للحقيقة

وينتقل كيركيجارد الى ذكر المراحل التي يمر بها كل إنسان حتى يصل الى الحقيقة وهي مراحل غير متراتبه ويمكن أن لا يمر بها الانسان جميعها بل يمكن أن يعلق في احداها ويبقى فيها الى الأبد ولكن وهنا يظهر عند المفارقة “paradoxical ” أن الباحث عن الحقيقة وحامل الفكرة وذلك الشخص الفرد المستقل هو من مر بجميع المراحل حتى يصل للمرحلة التي ستوصله للحقيقة.

“ان المهمة الجوهرية المنوطة بالوجود تتألف من تحقيق الحسم الروحي “Decisiveness of spirit”[4] (5)

المرحلة الأولى : المرحلة الجمالية.

وهي مرحلة الحس وهي مرحلة عدم نضوج تهتم بالجانب المادي في الحياة و معظم سلوكنا في هذه المرحلة هي البحث عن اللذة دون مسؤولية وما يميز هذه المرحلة غياب الذات فالمجموع حاضر بقوة والذات ضعيفة .

“بالنسبة للجماليين تعد اللذة هي الهدف من الحياة انهم يعيشون من اجل اللحظة الراهنة ويبحثون عن المتعة الشديدة و في هذه المرحلة يجب أن يتسلحوا ضد كل شيء يكون الزاميا وضاغطا ان عليهم أن يطفوا فوق أكثر علاقات الحياة جدية وألا ينخرطوا فيها”(6)

ويرى كيركيجارد أن هذه المرحلة قصيره عندما يعي الفرد الخلل والخلل في هذه المرحلة هي عدم استطاعة الانسان أن يعي ذاته وسيدرك أنه في الطريق الخاطئ ويصيب الانسان هنا اليأس.

وعن مفهوم اليأس عند كيركيجارد هو ليس ذلك اليأس التقليدي الذي ينهي أو يوقف حياة الانسان الفرد الواعي ولكن هنا اليأس ايجابيا الى حد ما حيث يجعل الانسان يفكر بالحل وهو الوثبة(7) أو القفزة فبما أن مفتاح النجاة عنده هو اليأس حيث يلجئ الانسان الى التفكير بالقفزة والقفزة ليست تلك القفزة المنطقية انما هي قفزة الى المجهول بمعنى لا يكون الانسان مدركا نتائج هذه القفزة ولكن لن يبقى صامدا في مرحلة لا يدرك ذاته فيها. ومن ثم يختار أن يقفز.

المرحلة الثانية: المرحلة الأخلاقية.

وهي عكس المرحلة الأولى المرحلة التي يكون فيها الآخر موجودا.

في هذه المرحلة يكون معنى الحياة هو العيش بمقتضى الواجب والمسؤولية وهنا مرحلة إما…أو فهناك ذات وهذه الذات تختار و من ثم تتحمل مسؤولية اختيارها ضمن الواجب الأخلاقي حيث أن فرد المرحلة الأخلاقية هو فرد مجتمع يحترم القوانين ولكن يرى كيركيجارد أن هذه المرحلة أيضا ستؤدي به الى السأس مرة أخرى من خلال بحثه عن حقيقة ذاته وفردانيته .

“وعلى حين أن الجمالي يعيش دائمًا وهو ابن اللحظة يعيش الأخلاقي في الزمن بمعنى أن حياته لها استمرار تاريخي ويكمن العامل الحاسم في اختياره أن يعيش حياته تحت سيادة مقولتي الخير والشر ومقولات الأخلاق، على حين يظل الجمالي خارجها ولا يسمح لنفسه أن تسترشد إلا بالمقولات الجمالية مثل اللذة والضرر والجمال والقبح والمصلحة والعبء والاهتمام وعدم الاكتراث”[5](8).

حيث يرى كيركيجارد أن الفرد الجمالي لا يمكن أن يصبح فردا أخلاقيا الا من خلال وثبة وتلك الوثبة تصدق أيضا عندما يريد الفرد الأخلاقي أن يصبح فردا متدينا.

المرحلة الثالثة: المرحلة الدينية.

يرى كيركيجارد أن الفرد المتدين هو الفرد الطامح لأن يعيش مع الأبدية واستعان بقصة النبي ابراهيم فقد قام بتأصيل قصة ( أبراهيم وأسماعيل عليهما السلام ) على أساس أنطولوجي، حيث أن أبراهيم ( عليه السلام ) يعد قاتلاً بالنية من الناحية الأنسانية. في حين من الناحية الأنطولوجية آثر المرحلة الدينية على المرحلة الأخلاقية، أي آثر الأبدي على الزمني. وهذه هي النقطة الحرجة في الفلسقة الكيركجاردية، فالذات هي التي تقرر، أنها غياب الموضوعي، أنها النفس والروح والإرادة.

فبما أن التعبير الأخلاقي لما فعله ابراهيم انه سوف يقتل ابنه اسماعيل حيث يمكن أن يمتنع ابراهيم عن تأدية ما طلبه منه الله وهنا يكمن المعقول.

فالتعبير الديني عما فعله ابراهيم هو أنه سوف يضحي بإبنه اسماعيل وهنا يكمن التناقض في اللامعقول وهذه هي المفارقة التي قال عنها كيركيجارد.

فاللامعقول لن تستوعبه العامة أخلاقيا لأنم لن يفهمون تعليق ما هو أخلاقي لغاية تقع خارجه. وهنا لا يمكن للعقل أن يستوعب هذه الامور بشكل صحيح .

“ان الحل الذي يقترحه كيركيجارد بدلا من الفهم العقلي هو الاستعانة بمفهوم المفارقة ” “paradoxical ” عن طريق قفزة الايمان “leap of faith” (9)

حقيقة الحياة

اذا فالحقيقة عند كيركيجارد هي حقيقة فردية يجب على الشخص اكتشافها دون أدنى تدخل من أي جهة سواء جماعة دينية أو اجتماعية او سياسية انما هي انت كذات في معرض بحثك في الحياة وجب أن تجد الحقيقة التي تبحث عنها ويمكن أن تجدها في غير المكان التي وجدها فيه كيركيجارد حيث يشدد كيركيجارد أنه لا يتحدث الا عن نفسه وأنه ليس فيلسوفا انما هو يبحث عن الحقيقة التي يريدها لنفسه.

وفي معرض نقدي لأفكاره مع أنني أجد أنني في معظمها أؤيده خصوصا في قوله أن الحقيقة هي حقيقة فردية وفي الاجماع عليها نفيا لها فالإجماع يضيع قيمة الفرد من وجهة نظري الخاصة ولا يعطي قيمة للإبداع الفردي ولخروج تلك الأفكار المختبئة داخل ذاتنا المميزة ولكنني أنقده في كونه أعطى قيمة عالية للفرد وغفل عن أن المجتمع مكون من مجموعة أفراد وان إفراطه في اعلان شأن الفرد دون المجتمع ونظرته السوداوية للمجتمع تعطي القارئ احساسا بضعف شخصيته ازاء مواجهة الآخر وأنه اختار أن ينعزل بنفسه مع أفكاره وبحثه عن الحقيقة دون أدنى مسؤولية منه أن المجتمع يحتاج ليبنى أفرادا.

ومن ثم مفهومه للقفزات صحيح أن الانسان بحاجة أن يقفز الى المجهول ولكن ما هي القوة التي يجب أن يتحلى بها هذا الفرد الذي سيقفز ؟ وهل كل فرد لم يثب هذه الوثبه هو ليس فردا واعيا؟؟ وبالمقابل يمكن أن يكون وعيه غير مكتمل اذا لم يقفز ؟ وهل فعلا تكمن الحقيقة فقط اذا وثبنا؟؟

(1،2) سرن كيركجور، رائد الوجودية حياته وأعماله ، د. امام عبد الفتاح،  دار التنوير للطباعة والنشر ط2 1983 بيروت لبنان. (ص 49،50)

(3) يوميات كيركيجارد.

(4) الفردانية في الفلسفة الحديثة “كيركيجارد أنموذجا” د.عامر شطارة، مجلة دراسات ، العلوم الانسانية والاجتماعية المجلد 41، ملحق 1 عام 2014 (ص 524)

(5) خوف ورعدة، سرن كيركيجارد، ترجمة فؤاد كامل، دار الثقافة للنشر والتوزيع عام 1984 (ص14)

(6) كيركيجارد، د. فريتيون برانت، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، مكتبة دار الكلمة. ط1 2009 (ص37)

(7) خوف ورعدة، سرن كيركيجارد، ترجمة فؤاد كامل، دار الثقافة للنشر والتوزيع عام 1984 (ص 58)

(8) كيركيجارد، د. فريتيون برانت، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، مكتبة دار الكلمة. ط1 2009 (ص 38،39)

(9) الفردانية في الفلسفة الحديثة “كيركيجارد أنموذجا” د.عامر شطارة، مجلة دراسات ، العلوم الانسانية والاجتماعية المجلد 41، ملحق 1 عام 2014 (ص 527)

المصادر والمراجع

  • خوف ورعدة، سرن كيركيجارد، ترجمة فؤاد كامل، دار الثقافة للنشر والتوزيع عام 1984.
  • كيركيجارد، د. فريتيون برانت، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، مكتبة دار الكلمة. ط1 .
  • الفردانية في الفلسفة الحديثة “كيركيجارد أنموذجا” د.عامر شطارة، مجلة دراسات ، العلوم الانسانية والاجتماعية المجلد 41، ملحق 1 عام 2014 2009.
  • سرن كيركجور، رائد الوجودية حياته وأعماله ، د. امام عبد الفتاح، دار التنوير للطباعة والنشر ط2 1983 بيروت لبنان.

فيديو مقال كيركيجارد ومفهوم الحقيقة

 

أضف تعليقك هنا