البدو من أوبنهايم إلى حسن الخضير

مقدمة

كثيرة هي الكتب التي تناولت حياة البدو في المشرق العربي المتمثل بالشام والعراق والجزيرة العربية، ولعل المنطقة الأهم في حياة البدو في بلادنا هي بادية الشام التي شكلت أكبر تجمع للقبائل العربية خلال عهود المماليك والعثمانيين الطويلة، والقبائل العربية تمترست في البوادي ومن خلفها الصحارى لتبقى بعيدة عن الظلم والعسف الذي لحق بمجتمعنا العربي على يد المماليك والعثمانيين ومن يواليهم.

الاستشراق

وفي مطلع القرن السابع عشر انطلقت رحلات المستكشفين الأوربيين نحو المشرق العربي والتي سميت اصطلاحاً بالاستشراق، وبدأ هؤلاء المستشرقون يكتبون مشاهداتهم عن المنطقة الأكثر إثارة وهي القبائل البدوية العربية متأثرين في ذلك باكتشاف اوروبا للأمريكيتين، حيث رأوا في البدو ما يشبه الهنود الحمر هناك في المستعمرات الجديدة، وكثير من هؤلاء المستشرقين جانبوا الصواب في دراستهم عن تلك القبائل وحاولوا بشكل أو بآخر عسف مشاهداتهم الواقعية وتحويلها نحو التهويل والغرابة لتتناسب مع نظرتهم المسبقة عن تلك القبائل من أنها قبائل همجية تشرب الدماء وتأكل لحوم البشر، وهذه النظرة ناتجة عن العقلية الاستعمارية الاوربية، ومن أهم المستشرقين الذين كتبوا عن البدو في المشرق العربي نذكر لاسكاريس الفرنسي والليدي ستانهوب البريطانية وبركهارت السويسري وغيرهم الكثير، وبرأيي أن أهم مستشرق كتب عن البدو هو الألماني فون أوبنهايم في كتابه ((البدو)) المكون من أربعة أجزاء.

الكتّاب العرب

وبالمقابل فإن الكتّاب الذين ينتمون للمجتمع البدوي كانوا نادرين بل يكادون يكونون معدومين خاصةً في القرون السابقة للقرن العشرين، بينما نجد العديد من أبناء الحاضرات ممن كتبوا عن إخوانهم وأبناء جلدتهم من البدو، وقد كانوا بين حانياً على تلك الفئة بسبب أواصر القربى والدم التي تربطهم بهم كما رأوا فيهم أصلهم وأساسهم قبل أن يتحضروا، وبين حاقداً على البدو بسبب الصراع العنيف الدائرة بين أبناء الحاضرات وأبناء البوادي الذين كانت غزواتهم لا تنقطع عن تلك الحاضرات القائمة في الشام والعراق بل حتى داخل الجزيرة العربية، ولعل أكبر مؤرخي الجزيرة العربية في القرن التاسع عشر وهو ابن بشر دائماً ما يذكر هؤلاء البداة بأنهم غزاة ومجرمون بل وحتى كفاراً في كتابه ((عنوان المجد في تاريخ أهل نجد)) مندفعاً في ذلك كونه من أبناء الحاضرات في منطقة نجد وهو المؤرخ الأول للدولة السعودية الأولى التي قامت بضرب البدو في تلك البلاد، وبالإضافة لابن بشر نجد هناك أحمد وصفي زكريا وحافظ وهبة وغيرهم من ابناء الحاضرات ممن كتبوا عن البدو في المشرق العربي.

المستشرق والمستكشف أوبنهايم

يعتبر كتاب((البدو)) لأوبنهايم من أهم وأدق مؤلفات المستشرقين عن القبائل البدوية العربية في منطقتنا، وتكمن أهمية كتاب أوبنهايم في أنه كتاب شامل لكل القبائل العربية في المشرق العربي الآسيوي، فهو يقسم كتابه لأربعة أجزاء: يتحدث في الجزء الأول عن قبائل الجزيرة وشمال العراق وسورية، وفي الجزء الثاني يتحدث عن قبائل فلسطين وسيناء والأردن، وفي الجزء الثالث عن قبائل الحجاز وشمال الجزيرة العربية وجنوب العراق، وفي الجزء الرابع عن قبائل منطقة عربستان أو خوزستان في إيران حالياً.

وأوبنهايم ألف كتابه على مدى أكثر من أربعين عاماً قضاها في المشرق العربي، حيث جاء إلى المنطقة على رأس بعثة لاستكشاف الآثار عام 1899م وأنهى رحلاته في المشرق العربي عام  1939م، حيث استكشف آثار المملكة الحثية القديمة في منطقة تل حلف في أعالي الجزيرة السورية، والتي كنت قائمة هناك منذ أكثر من 3000 عام.

وأهم ما يميز كتاب البدو لأوبنهايم أنه تحدث عن البدو العرب بشكل عام موضحاً عقليتهم وطريقة تفكيرهم، ثم تحدث عن القبائل بحسب المناطق التي تجول بها، وقد اعتمد أسلوباً منهجياً في دراسة القبائل يرتكز على شرح أصول القبيلة ثم يتحدث عن تنقلها وجولاتها ثم عن شيوخها وزعماءها ثم يسجل صيحات حربهم ويرسم وسومهم الخاصة بهم.

فأوبنهايم كان مراقباً خارجياً لحياة البداوة، فنتيجة اختلاطه بهم ومعاشرته لهم استطاع أن يسبر غورهم ويوضح الكثير من جوانب حياتهم، وكتابه له قيمة علمية وتاريخية كبيرتين، فهو يعد مرجعاً مهماً للحياة القبلية في منطقتنا خلال مرحلة حساسة جداً هي نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين الذي حمل في طياته انهيار الامبراطورية العثمانية ودخول المستعمر الاوروبي للبلاد.

البدو بين واقع حالهم وما كتب عنهم

إذا كان كتاب البدو لأوبنهايم من أهم ما كُتبَ عن البدو فإن هناك كتاب آخر لا يقل أهمية عنه هو كتاب ((البدو بين واقع حالهم وما كتب عنهم)) لمؤلفه حسن الخضير المقبل، وتأتي أهمية كتاب حسن الخضير كونه من أبناء البدو الذين خبروا حياة البادية بكل تفاصيلها، وتلقّى ثقافة البادية من آبائه وأجداده، فتنقل مع أهله من مكان لآخر في الحماد السوري ورعى الإبل والغنم وعاصر الرعيل الأخير من فرسان قبيلته ((قبيلة الحسنة))، ومن يقرأ كتاب ((البدو بين واقع حالهم وما كتب عنهم)) يرى أن مؤلفه حسن الخضير لم يطلع على كتاب ((البدو)) لأوبنهايم، مما يدل على أصالة المادة العلمية للكتاب.

وحسن الخضير في كتابه المذكور يتحدث عن البداوة من كافة الجوانب، حيث يفصل جغرافية المنطقة التي يتنقل عبرها البدو، ثم يصف عاداتهم وتقاليدهم ويذكر آراء المستشرقين في البدو وينتقدها، ويذكر أيضاً آراء المؤرخين العرب في البدو، ويحلل أيضاً الكثير من جوانب الشخصية البدوية العربية وبخاصة القبائل العربية الشمالية وعلى رأسها قبيلة عنزة، هؤلاء البدو الذين وصفهم فيليب حتي بأنهم يحملون أنقى الصفات السامية.

وأهم ما يميز كتاب البدو لحسن الخضير أنه يذكر أنساب بعض القبائل العربية بعد أن نقحها وبيّن صحتها ونفي الزيف منها، وكذلك قصص الأبطال والزعماء من هؤلاء البدو، وقد كان الخضير حريصاً على بيان حياة البداوة وتوضيحها وتقريبها للقارئ محاولاً محو الصورة التي تكرست لدى المواطن العربي عن حياة البداوة بسبب المسلسلات البدوية التي ظهرت في العصر الحديث.

أخيراً أقول: إن مقالة واحدة لا تكفي لشرح هذين الكتابين القيّمين اللذين يتحدثان عن حياة القبائل البدوية العربية والتي تشكل غالبية المجتمع العربي في آسيا العربية.

فيديو مقال البدو من أوبنهايم إلى حسن الخضير

أضف تعليقك هنا