خلق الأرض أولاً أم السماء؟

كتبه عبدالرازق طنطاوي

الإنسان وعلاقتة بهذا الكون

دأب الإنسان منذ القدم يبحث عن أصل نشأته و علاقتة بهذا الكون العظيم يحاول معرفة ذلك تارة بأسطورة و تارة بالقياس مستخدما عقله ومنطقه و تارة بكتاب لنبي مرسل و أخيرا بوسائل علمية متقنة و نظريات علمية بأدلة قوية هزت المؤمنين بالكتب المقدسة فيما اعتقدوه فحاولوا جاهدين تأويل النص المقدس بما لا يتعارض مع العلم الحديث، وإذا كان هناك الكثيرون ممن يخشون الخوض – ولهم الحق – في تفسير النص المقدس و موازنته بما توصل إليه العلم الحديث فإن هناك الكثيرون أيضا ممن خاضوا هذه التجربة سواء كانوا من المسلمين أو غيرهم.

الأساطير القديمة

و إذا استعرضنا الأساطير القديمة عند قدماء المصريين و بلاد ما بين النهرين لوجدنا تشابها مع اختلاف أسماء الآلهة التي بدأت بخلق الكون وكذلك في معظم أساطير الحضارات القديمة وأكاد أن أجزم أن هذا الاختلاف يكمن خلفه كهنة الملوك الذين اتخذوا من قصة الخلق مبررا ليكون الملك ابن إله أو أحد الآلهة الذين يحكمون بسطوة فوق البشر ويحق لهم أن يفعلوا كل شيء حتى لو خالف قوانينهم وهذا ما يفعله الكهنة في كل عصر، واعتقد غير جازم أن تشابه الأساطير يرجع إلى وجود أنبياء سابقين أخبروهم بقصة الخلق و لكن الكهنة دائما ما يأخذون ما يناسبهم من القصة و يطمسون ما لا يمكنهم من التحكم في الشعوب فمن أين علم البابليون أن خلق الكون كان في ستة أيام ؟ و من أين علم الفراعنة أن الخلق كله بدأ من الماء ؟ و من أين علم كلا الحضارتين أن السما ء والأرض كانا شيئا واحدا ثم انفصلا؟

العقل والمنطق

و إذا عرضنا على فلاسفة اليونان فنجد أنهم استخدموا العقل والمنطق في فهم بداية الخلق وتوصلوا إلى أن السماء والأرض خلقا من مادة واحدة و أن هذه المادة موجودة قدما مع وجود الخالق و سموها الجوهر الفرد أو الهيولي و اختلفوا فيما بينهم هل هي الماء أم التراب أم النار؟

و أخص بالذكر فيلسوفا اسمه طاليس اعتقد أن الماء هو الجوهر الفرد الذي خلق منه العالم بكل أشكاله، وقد اعتنق الفلاسفة العرب وخاصة ابن سينا و ابن رشد أفكار فلاسفة اليونان و حاولوا أن يجدوا في النص القرآني ما يؤيد فكرتهم بالتأويل لبعض آيات القرآن بصورة تخالف ما اعتاده أهل السنة.

السموات والأرض

و إذا تصفحنا التوراة أو العهد القديم نجد أن خلق السموات والأرض قد أخذ مساحة كبيرة في سفر التكوين و أن الخلق بدأ يوم الأحد واستغرق ستة أيام بتفصيل ما فعله الرب كل يوم واستحسن ما صنع بيده و في يوم السبت ذهب ليستريح، وإذا استعرضنا القرآن الكريم لم نجد سورة كاملة لخلق السموات والأرض و لكن نجد ذلك في آيات متفرقة تغطي معظم سور القرآن.

و كلها إشارات لجذب التفكر في خلق السموات و الأرض أكثر منها تصريحا بكيفية الخلق و من هنا نجد أن فهم كيف خلق الله السموات والأرض تغير عند المسلمين على مختلف العصور فنجد أنهم تأثروا بقصة الخلق عند الكتب السماوية السابقة و إن خالفوهم في بعض الأمورمثل بدء الخلق يوم السبت و الانتهاء يوم الخميس و يوم الجمعة خلق الله فيه آدم و لم يتعب الله من خلق السموات والأرض ليذهب فيستريح كما يرى التوراتيون و لكنه استوى على العرش أي استقر له ملكه و تحكم فيه تحكما تاما.

العرب والفلسفة اليونانية

و عندما ترجم العرب الفلسفة اليونانية نجد أن الفلاسفة العرب وجدوا في آيات القرآن ما يتضمن أفكارهم من وجهة نظرهم كخلق السموات والأرض من الهيولي وهو العنصر الأول و جعلوه الماء وأن هذا الجوهر له قدم الخالق وقد أنكر عليهم أهل السنة رأيهم وفي العصر الحديث حين توفر للعلم الأدلة المادية من حيث رصد الموجات الرادوية الصادرة من الكون السحيق أو من معرفة عمر المادة بما فقدته النظائر المشعة من تكوينها المتناهي الصغر  أصبح لديهم تصورا تقريبيا في بداية الخلق و عمر الأرض.

عمر الأرض

و قد قدر العلماء عمر الأرض بحوالي 4.6 بليون سنة  وهو رقم يفوق كثيرا جدا ستة أيام الخلق ومن ناحية أخرى صار لديهم تصور عن كيفية الخلق الأول الصادر عن إنفجار عظيم، وإذا حاولنا أن نتأول آيات الله بما يتوافق مع نتائج  العلم الحديث فنحن ظالمون لأن ما توصل إليه العلم ليس هو النهاية ولكنه البداية فقط.

ولكن إذا تدبرنا آيات الخلق في القرآن الكريم وأمعنا النظر في كل كلمة وحرف لوجدنا عجبا سواء في الدلالات على ماهو حديث أو قديم.

القرآن الكريم

ونبدأ باستعراض مادة ( خلق ) في القرآن الكريم مع السموات و الأرض خاصة نجد أنها في صورة الماضي و نجد أن السماء عطف عليها بحرف العطف الواو ليدل على المشاركة  و معاني كلمة خلق في معاجم اللغة : ابتدع و كون على غير مثال سابق و أيضا بمعنى التقدير و أيضا أحدث بعد أن لم يكن.

وأن الفعل خلق جاء غالبا في صورة الماضي مع خلق السموات و الأرض ليدل على إقرار حدث في الزمن السحيق

قال تعالى (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) الأعراف 54

واستخدم الله مادة ( فطر ) ولكنه استخدم اسم الفاعل منها ولم يستخدم الفعل قال تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) سورة فاطر

و الفعل فطر يدل في معاجم اللغة على  الخلق وعلى التفريق و الشق فلما استخدم الحق سبحانه وتعالى اسم الفاعل فاطر فهو يدل على أن الخلق لم يتوقف بل هو مستمر فشق السموات و شق الأرض و تمديد السموات و خلق نجوم جديدة عملية مستمرة لا تتوقف و لم تكن حدث و انتهى و لا يستطيع العلم الحديث أن ينكر ذلك.

العلم الحديث

وإذا أثبت العلم الحديث أن عمر الأرض 4.6بليون سنة و لو قسمنا هذه الفترة الطويلة على مالا نهاية فإن النتيجة تساوي صفر فهي فترة لا قيمة لها في عمر الأبدية و الزمن الانهائي عند الخالق سبحانه

إذا فإن الفترة الزمنية عند الله و عند البشر تختلف تمام الاختلاف فالزمن عملية نسبية فهي عند الملائكة خمسين ألف سنة قال تعالى في سورة المعارج (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ )  وعند الموتى بعد قيامهم من الموت كل أيام وسنوات الموت و الحياة في الدنيا يوما أو بعض وذلك يوم القيامة  يقول تعالى في سورة المؤمنون (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ î قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ î قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ).

الخلق خطوات

و بناء على ذلك فإن أسبوع الخلق تقسيم زمني  طبقا للزمن الإلاهي الذي لا يعلمه إلا الله ولكنه صورة تقريبية ليفهم الخلق خطوات خلق الأرض وليس المقصود به الزمن الأرضي لخلق الأرض فمهما طال الزمن فهو عند الله قليل كما تقر الآية السابقة

و قد اختلف علماء المسلمين قديما أيهما خلق أولا هل السماء أم الأرض

و استشهد كل منهم بآية من القرآن الكريم يقول تعالى في سورة النازعات (أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا î رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَاî وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا î وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا).

ويقول تعالى في سورة الدخان (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَî وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَî ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَî فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا ).

السموات السبع

ويقول المرجفون أن القرآن يناقض بعضه بل الأحرى أنهم لم يفهموا الآيات في ضوء بقية الآيات المتصلة بهذا الأمر
فمن ناحية عدد الأيام فهي ستة أيام كما تقر بقية آيات القرآن المتضمنة قضية الخلق يقول تعالى في سورة الأعراف (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ  )   و تقسيم يومي خلق الأرض ثم أربعة جعل فيها الجبال وبارك فيها وقدر أرزاق خلقه فهذه الأربعة تشمل يومي خلق الأرض و ليست فترة منفصلة عنها و لم يستخدم الله فيها الفعل (خلق) ولكن استخدم الفعل (جعل ) لأن الجبال وجدت في الخلق و لكن الله أبرزها بطريقة يفهمها علماء الجيولوجيا ثم يومي تسوية السماء وتقسيمها سبع سموات فهذه ستة أيام أو ست فترات زمنية إن صح التعبير.

خلق الكون

وهناك حديث شريف يعتبر حجة علمية دينية لمن لا ينطق عن الهوى ذكره الطبري في تفسيره يجب علينا ذكره في هذا الشأن
حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج عن ابن جريج قال : أخبرني إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع ، مولى أم سلمة عن أبي هريرة قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال : خلق الله التربة يوم السبت ، وخلق الجبال فيها يوم الأحد ، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء ، وخلق النور يوم الأربعاء ، وبث فيها من كل دابة يوم الخميس ، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعات الجمعة ، فيما بين العصر إلى الليل .

وإذا استعرضنا الأيام الستة التي ذكرها الحديث نجد ست فترات الفترة الأولى خلق التراب وهذا يعني أن الماء كان يغطي سطح الأرض ثم تكونت الجبال بفعل البراكين والزلازل ثم الحياة النباتية و أشار إليها بخلق الشجر ثم الكائنات الحية و أشار إليها بقوله فبث فيها من كل دابة ثم خلق آدم آخر أيام الخلق و لا شك أن هذا الترتيب النبوي لخلق الحياة هو الترتيب الزمني الذي أقره علم الجيولوجيا و علم الأحياء فمن أين علم هذا النبي الذي ولد في الصحراء هذا الترتيب الدقيق لخلق الحياة؟

خلق السموات أولاً أم الأرض؟

أما أيهما خلق أولا السموات أم الأرض فهناك حديث لوهب بن منبه  يشرح لنا كثير مما أشكل علينا في هذا الشأن ذكر في تفسير الطبري يجب علينا ذكره في قوله تعالى في سورة هود (وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء).

حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال حدثني عبد الصمد بن معقل قال : سمعت وهب بن منبه يقول : إن العرش كان قبل أن يخلق الله السماوات والأرض ، ثم قبض من صفاة الماء [ قبضة ] ، ثم فتح القبضة فارتفع دخانا ، ثم قضاهن سبع سماوات في يومين . ثم أخذ طينة من الماء فوضعها مكان البيت ، ثم دحا الأرض منها ، ثم خلق الأقوات في يومين والسماوات في يومين وخلق الأرض في يومين ، ثم فرغ من آخر الخلق يوم السابع.

الحياة والكون

و إذا تصورت ما ذكره بن منبه في ضوء علمنا الحديث أتخيل أن الله أخذ قبضة من بحر عظيم تحت العرش نجهل جميعا طبيعة تكوينه زودها الله بطاقة عظيمة انفجرت فصارت دخانا هذا الدخان شكل الله منه الأجرام السماوية و منها الأرض بالطبع ثم أمد الله في بعضها طاقة هائلة فجعل منها النجوم وبقية الكواكب خاملة ولا بد من وجود ماء فيها بصورة أو بأخرى و قد اختص الله الأرض بوفرة الماء دون سائر الكواكب الأخرى ليخلق منه الحياة وقد أكون مخطئا في تصوري فالله أعلم وأجل

وقد يقول مرجف كيف يكون الماء ولم توجد أرض و الحق أن ذلك يدل على جهل القائل فلو أن أحد رواد الفضاء سكب الماء في منطقة انعدام الجاذبية لسكن في الفراغ ما لم يحركه شيء و لا يستنكر على قدرة الله أن يكون هناك بحر محيط بالعالم كله عليه عرش الرحمن  أخذ منه قبضة فخلق منها السموات و الأرض هذا و الله أعلم

By Abdelrazik Tantawy

المراجع

1-  عبد الجليل هويدي، محمد أحمد هيكل (2004). أساسيات الجيولوجيا التاريخية. مكتبة الدار العربية للكتب.

2- تفسير الطبري

3- تفسير ابن كثير

4- حمدي الراشدي أساطيرالخلق عند مختلف الاديان

5- لسان العرب لابن منظور

6- أرثور سعدييف و توفيق سلوم / الفلسفة العربية الإسلامية

 

بقلم: عبدالرازق طنطاوي

أضف تعليقك هنا