قضايا حداثية: إشكالية التراث والحداثة

بقلم: إدريس الكريط

تعتبر قضية الحداثة والتراث من القضايا المستعصية التي تتأرجح حولها الآراء ولا تكاد تستقر على حال، لهذا اختلفت المقاربات فيما يخص طريقة تناول هذه القضية في الفكر العربي، فتلة من الباحثين قالوا أن مدخل الحداثة يجب أن يكون علميا، وهناك من قال يجب أن يكون سياسيا أو اجتماعيا، ورأى آخرون أن هذا المدخل يجب أن يكون فكريا وثقافيا، فأطلقوا عليه اسم الحداثة الفكرية.

ما المقصود بالحداثة والتراث؟

وهذه الأخيرة هي موضوع الدراسة والتحليل، دون أن ننسى أن هؤلاء يلتقون في فكرة واحدة ترى أن مدخل الحداثة بالنسبة لفكرنا العربي هي إعادة قراءة التراث، لكن هذه الفكرة لا تفيد عند هؤلاء معنى واحدا، فما المقصود بالحداثة والتراث؟ وكيف يتم إعادة قراءة هذا التراث؟ وكيف يمكن أن نجعل من هذا الأخير أداة من أدوات التحديث؟

إن هذه القضية التي انطلقت ولا تزال من محاولة قراءة الذات، والمقصود هاهنا بالذات هي الذات التراثية على اعتبار أن مشروع التحديث في الفكر العربي قد تأسس في تلك اللحظة التي حاولوا فيها قراءة الذات على ضوء التطورات الحضارية التي عرفها العالم، وبطبيعة الحال تتمثل هذه الذات التراثية في كل ما أنتجه العقل العربي الإسلامي في فترات متواصلة من تاريخه تتجلى في ميادين علمية متعددة مثل الفقه والتفسير والفلسفة والأدب.

وقد أجمع مجموعة من الدارسين والباحثين في هذا المجال على أن مفهوم الحداثة الفكرية هو بالأساس مفهوم غربي، ارتبط بالمسار التاريخي الذي عرفته النهضة الأوروبية، والتي كانت البداية فيها فكرية ثم علمية ثم بعد ذلك جاءت الثورة الصناعية كمحصلة لكل هذا… والفكر كما تعلمون جميعا هو مجموع التصورات التي نكونها حول الذات وحول العالم والأشياء…فحداثة الغرب كما علمنا كان المسار فيها طويلا لكن البداية كانت صحيحة وثابتة

الحداثة الفكرية هي مجموع الإنتاج الفكري

وبالتالي فالحداثة الفكرية هي مجموع الإنتاج الفكري الذي يحاول أن يستقل ولو نسبيا عن الإكراهات السياسية والإيديولوجية للبحث عن مكامن الضعف في الذات من أجل بنائها في جانبها الأهم وهو الجانب الثقافي والفكري.

إضافة إلى أن كل محاولات التحديث التي اقتصرت على الجوانب التكنولوجية والحياتية وحتى السياسية أدت فقط إلى تكريس التبعية وتعميق شعور الاتكال على الغير وزيادة مظاهر التخلف، ولعل العرب خير دليل على هذا، وهو ما أسماه الأستاذ محمد سبيلا ” الحداثة الكسيحة والتي تعني نقل مجموعة من أشكال الحداثة دون أن يرافق ذلك  تغير البنيات الفكرية والسياسية المقابلة والمرافقة لها.”[1]

ولتجاوز هذا قام مجموعة من المفكرين العرب، عبر مفاتيح النقد نقد العقل والمنهج، وطرق قراءة التراث وأداة النقد بالفعل هاهنا هي العقل، ودحض كل الرؤى التي تتصور أننا بنقل التكنولوجيا أو برفض أفكار الماضي أو بنقل بعض الأشكال الاجتماعية أو السياسية مجزأة، يمكننا أن نقيم حداثة حقيقية. فما المقصود إذن بالحداثة؟

الحداثة فكر قبل أن تكون مظهرا من المظاهر الحياتية أو الإبداعية

في هذا الصدد يرى الأستاذ عبد الله العروي ” بأن مايجب أن يكون معاصرا ليس هو الرسم ولكن الرسام، وليس الأدب بل الأديب… ولهذا فإنه يجب الحديث عن سيكولوجيا الحداثة أكثر من حديثنا عن سوسيولوجيا الحداثة.”[2] بمعنى أن الحداثة فكر قبل أن تكون مظهرا من المظاهر الحياتية أو الابداعية. ومن تمة فإن جعل التراث معاصرا هو جعله فكرا يتماشى مع المعاصرة وليس فقط مجموعة من النصوص المقروءة بطريقة عصرية وبالتالي، فالحداثة يجب أن تتمثل قبليا في الانسان الذي يحمل هذا المشروع على المستوى الفكري وعلى مستوى الممارسات الفكرية والتصور والرؤية.

و في نفس الطرح يقدم الأستاذ محمد عابد الجابري تعريفا للحداثة في قوله ” الحداثة لا تعني لنا رفض التراث ولا القطيعة مع الماضي بقدر ما تعني الارتفاع بطريقة التعامل مع التراث إلى مستوى ما نسميه بالمعاصرة، أعني مواكبة التقدم الحاصل على الصعيد العالمي.”[3] وبناء على هذا يتضح أن الحداثة هي أولا وقبل كل شيء حداثة المنهج والرؤية.

وبهذا يقدم الأستاذ المنهج الذي ينبغي اعتماده في قوله ” مالم نمارس العقلانية في تراثنا وما لم نقطع أصول الاستبداد، ومظاهره في هذا التراث فإننا لن ننجح في تأسيس حداثة خاصة بنا، حداثة ننخرط بها ومن خلالها في الحداثة المعاصرة العالمية كفاعلين وليس كمجرد منفعلين.”[4]

وبالتالي فالحداثة من أجل الحداثة لا معنى لها، فهي ” رسالة ونزوع من أجل التحديث، تحديث الذهنية، وتحديث المعايير العقلية والوجدانية.”[5]

الثقافة التراثية قي المجتمعات

وعلى هذا الأساس، عندما تكون الثقافة السائدة في مجتمع من المجتمعات ثقافة تراثية فإن خطاب الحداثة فيها يجب أن يتجه أولا وقبل كل شيء إلى التراث بهدف إعادة قراءته وتقديم رؤية عصرية عنه، ومن هنا طرح الأستاذ بعض الأسئلة الجوهرية مفادها: هل يمكن تحقيق حداثة بدون سلاح العقل والعقلانية…؟ وهل يمكن تحقيق نهضة بدون عقل ناهض…؟ وما المقصود بالتراث…؟

إذا كان الفكر الإصلاحي أو ما يعرف بالحركة السلفية، قد انطلق من مسلمتين اثنتين هما: أن الاصلاح لا يتم إلا بإعادة إصلاح الفكر الديني، والاصلاح لا يتم إلا بالعودة إلى المنابع الفكرية في نقاوتها، فإن فكرة الحداثة عموما تنطلق من مسلمة مفادها أن الحداثة تقتضي إعادة قراءة التراث قراءة يتواصل فيها الماضي مع الحاضر الحضاري والعلمي.

1- مفهوم التراث

إن أهم مايطرح كإشكالية فيما يخص التراث الفكري هو تحديد معنى التراث ومجاله، وإذا كان البعض واضحا في تحديد هذا الأمر فإننا قد وجدنا صعوبة في تحديد معناه ومجاله عند البعض الأخر…

أ- الجابري

في هذا الطرح يقول محمد عابد الجابري: ” عقلنة فهمنا للتراث معناه إذن الرجوع بالفكر العربي بمختلف منازعه إلى شروطه الفكرية والاجتماعية والتاريخية، أي الجمع بين ما نعبر عنه في تراثنا بأسباب النزول ( الظروف الاجتماعية والتاريخية)، وبالمقاصد ( الأهداف الإيديولوجية التي كانت في ذلك العصر. وبهذا المعنى لا أدخل في التراث النص الديني ( القرآن والسنة الصحيحة) لأن هذا الأخير يعني دائما في وعي المسلمين وفي وعي الأمة العربية نصا لا تاريخيا، أي يعلو على الزمان والمكان، وسيبقى كذلك لأمد طويل،  ولا نستطيع أن نحدد هذا الأمد.

ولذلك فعقلنة فهمنا التراث عملية تنصب أساسا على أنواع الفهم التي كونها المسلمون لأنفسهم عن القرآن والسنة ولما تفرع عنهما من فقه وأصول وكلام وبلاغة وأدب، وهذا يعني أنني لا أحاول أن أعقلن الدين نفسه، فأنا لست مصلحا دينيا أو صاحب مذهب ديني يحاول عقلنة الدين، إنني أخوض فقط في القراءات والتأويلات التي عرفها تاريخنا، و أحاول أن أرجعها إلى أصولها حتى نتبين أنها كانت مشروطة بشروط فكرية وتاريخية واقتصادية ما أمكن.”[6] من خلال هذا النص الواضح فإن التراث هو ذلك الموروث الثقافي والفكري والديني والفني، كما ورد على لسان الأستاذ.

ب- أركون

إذا كان الأستاذ الجابري في محاولته عقلنة فهمنا للتراث وفصل هذا الأخير عن النص القرآني والسنة النبوية، فإن الأستاذ محمد أركون يتكلم في هذا الموضوع من منطلق مخالف للذي تناولناه عند الجابري، إذ أن التراث عنده هو النص وخصوصا النص القرآني، وهو القائل ” أما التراث بالمعنى الكبير للكلمة فهو تراث إلهي لا يمكن للبشر أن يغيروا فيه شيئا إنه تعبير عن الحقيقة المطلقة، وقد حاول هذا التراث طيلة عشرين عاما من النضال في مكة والمدينة أن يرسخ نفسه داخل ساحة اجتماعية وثقافية معادية ومضادة ثم أصبح بعدئذ التراث الإسلامي.”[7]

2- إعادة قراءة التراث:

ا- الجابري:

ينطلق مشروع الجابري في تناوله للتراث من اقتراح قراءة عصرية لهذا التراث، كما نجده يؤكد على مفهوم القراءة وهذه الأخيرة ليست مجرد بحث أو دراسة لأنها تجاوزت البحث التحليلي، ونقترح صراحة وبوعي تأويلا يعطي للمقروء معنى يجعله في أن واحد ذا معنى بالنسبة لمحيطه الفكري والاجتماعي والسياسي. وبالتالي هي معاصرة بمعنيين ” الأولى تحرص على جعل المقروء معاصرا لنفسه على صعيد الاشكالية والمحتوى المعرفي والفنون الايديولوجية وكذلك بالنسبة لمحيطه الخاص. والثانية تحاول أن تجعل المقروء معاصرا لنا ولكن فقط على صعيد الفهم والمعقولية…”[8]

وجعل المقروء معاصرا لنفسه فصله عنا… وجعله معاصرا لنا معناه وصله بنا، وبالتالي هذه القراءة تعتمد إذن الفصل والوصل كخطوتين منهجيتين رئيسيتين، وهذا يعني بشكل من الأشكال أن الدكتور يتصدى بالنقد لكل القراءات التي حاولت أن تفهم التراث بطرق غير موضوعية وغير علمية وتطوعه من أجل استخدامه لأهداف إيديولوجية.

وهاته القراءات تعرف عند الأستاذ محمد عابد الجابري بالقراءة السلفية والليبيرالية والماركسية، إنها إذن قراءات إيديولوجية وليست قراءات علمية، وبهذا فالفكر العربي بعيد عن العصرنة في تعامله مع التراث وذلك لنزعته السلفية. فيقول ” إن الفكر العربي بعيد عن العصرنة في مجمله فكر لا تاريخي يفتقد إلى الحد الأدنى من الموضوعية، ولذلك كانت قراءته للتراث قراءة سلفية تنزه الماضي وتقدسه وتستمد منه الحلول الجاهزة لمشاكل الحاضر والمستقبل.”[9]

جعل التراث معاصرا يعني قراءته بطريقة عقلانية من خلال فهمه كما أنجز في زمانه ومكانه

يتضح من خلال ما سبق، أن جعل التراث معاصرا يعني قراءته بطريقة عقلانية من خلال فهمه كما أنجز في زمانه ومكانه، ولكن أيضا قراءته انطلاقا من الآليات التي توصل إليها الفكر العلمي خصوصا على مستوى أدوات النقد، وبالتالي جعل التراث معاصرا يعني قراءته قراءة عقلانية، ولهذا قدم الأستاذ الجابري تصورا للعقل وللنقد ولدورهما في رسم علاقة جديدة مع الماضي يكون بإمكانها تحديد تصور جديد للذات في علاقة مع الموروث والمعاصر، فهو يحاول أن ينتقد كل القراءات التراثية للتراث من أجل الوصول إلى قراءة عصرية للتراث، ولهذا قال: ” إن الهدف الكامن وراء أية قراءة تقدم نفسها على أنها قراءة تراثية للتراث أي الفهم التراثي للتراث بل أيضا – وهذا الخطير- تجرنا إلى قراءة تراثية للعصر، أي إلى تمديد الماضي لجعله ينوب عن الحاضر والمستقبل.”[10]

ب- أركون:

لا تخرج قراءة أركون في مجملها منحى النقد، نقد الفكر العربي، ونقد الآليات التي يشتغل بها والتي تجعله في علاقة غير واضحة سواء مع ذاته أو مع عصره، ومن هنا إذا أردنا أن ننخرط في الحداثة، فأولا وقبل كل شيء، أن نجعل التراث مفهوما لنا بطريقة معاصرة، وهذا وفق الآليات والوسائل العلمية التي يعرفها العصر في مجال النقد الديني، هنا يكمن الخلاف بين الجابري، و أركون، إذ أن هذا الأخير يتحدث في مجال التراث عن الظاهرة الدينية عموما.

بينما يشير التراث لدى الجابري إلى شيء أخر، إذ أن الشيء الجديد والحديث فعلا هو أن نكشف عن حقيقة أهداف الأديان، وعن وظائفها التاريخية، وعن منجزاتها الثقافية وعن مكانتها التي لم تستطع أية نزعة إنسية حديثة أن تملأ الفراغ الذي خلفته حتى الأن بشكل كامل، أقصد بمكانتها هاهنا تلك المهمة التي لا تنتهي أبدا بالنسبة إلى الإنسان والتي تكمن في أنسنة الانسان والسيطرة على العنف ورفض الايديولوجيات الاستبدادية التي تتلبس بلباس العلم والأديان.”[11]

يتضح من خلال هذا أن العصرنة بهذا المعنى أن تعطي معنى جديدا للدين والتدين، وننزع عنه صفته الاستعلائية والطائفية ليأخذ طابعا انسانيا، وهذا الأمر يتعلق في البحث عن قيم كونية وليس عن قيم مرتبطة بدين معين، وبهذا نستطيع أن نتجاوز التوجهات الايديولوجية المرتبطة بالأديان، كما تحاول التيارات الأصولية إحياءها.

وفي مقابل هذا اللجوء إلى الثورات العلمية المعاصرة في ميدان العلم والدراسات الأنثروبولوجية لبناء فهم جديد للأديان. وبالتالي نقوم بعملية نقد شاملة للتراث الديني من أجل جعله معاصرا ومستجيبا لتحديات الحداثة التي فرضت نفسها علينا، ولهذا أوجب النظر في الظاهرة الدينية بعيون جديدة وعدم العودة إلى ” استيراد قطع متفرقة من الحداثة من أجل تطبيقها على قطاعات مختارة كالقانون والجهاز الرسمي للدولة، والمؤسسات الرسمية والعمارة والاقتصاد… إلخ.”[12]

ويمكن أن نظيف إلى هذا القيام بعملية “أرخنة النص الديني المؤسس الذي هو القرأن، وهذه الأرخنة سوف تكون الانطلاق لإعادة تحديد المكانة اللغوية والدلالية والأنثربولوجية واحتمالا اللاهوتية للوحي”[13] بناء على هذا فإن محمد أركون يدعو إلى إعادة تجديد طريقة دراسة تاريخ الأديان والبحث من جديد على موقع كوني للدين، في فكرة الأنسنة كما أشرنا أنفا، وتجاوز الفهم المغلوط للدين.

المحور الثاني: التراث أداة من أدوات التحديث

قبل الخوض في الحديث عن التراث بوصفه أداة من أدوات التحديث، وجب طرح التساؤل التالي: لماذا أصلا يتم التركيز على قضية التراث:للإجابة على هذا السؤال في نظري من خلال بحثي في هذا الموضوع، أن الأمر يعود إلى سببين اثنين:

الأول أن الصراع في المجتمعات العربية لا يزال حامي الوطاس بين مدافعين بكل قواهم عن التراث بكل حمولاته ومضامينه، وهذا يؤدي إلى إصباغ خصائص التبجيل وحتى القداسة على كل ماهو ماض، مما يؤدي إلى رفض الأخر ورفض العصر والحداثة، وبين من يدافع عن الحداثة بكل تجلياتها، و هذا ما يدعو إلى إعادة قراءة التراث وفهمه للتوحيد بينهما.

ضرورة إحداث ثورة فكرية داخل الوطن العربي

السبب الثاني: ببساطة هو ضرورة إحداث ثورة فكرية داخل الوطن العربي، تزعزع بعض المنطلقات الدغمائية التي ينبني عليها، وينفتح العقل العربي على أفاق جديدة، وهذا ما أطلقنا عليه في ما سبق الحداثة الفكرية، إذا فقراءة التراث والعناية به لا تدخل في إطار الترف الفكري، بل هي عملية ضرورية من أجل جعل هذا التراث أداة من أدوات التقدم، وبطبيعة الحال أن أول ما يجب أن يستوعب هذا المشروع ويساهم فيه هم أهل الفكر، الذين يعتبرون قاطرة التحديث والتغيير في كل مكان، في هذا الشأن يقول الدكتور محمد سبيلا.

” إن تاريخ المجتمعات هو تاريخ النخب، فالمجتمعات لا تسيرها الجماهير، على الرغم من شيوع المقولة الماركسية المتعلقة بالجماهير، فهذه تقاد ولا تقود، فالنخب وخاصة النخبة الثقافية والسياسية والادارية والعسكرية والمالية والتكنولوجية، هي التي تقود إلى التغيير وعلى رأس هذه النخب كلها تنتصب النخبة المثقفة، والسياسية، أي الفكر والادارة أو السلطة، فعندما تكون هاتان النخبتان، مقتنعتان بشكل جذري وراديكالي بالحداثة والتحديث، إذاك فقط يمكنهما أن تقودا المجتمع في هذا الاتجاه، فالمجتمع يقاد ويقتاد عبر نخبه.”[14]

كما نجد أيضا الأستاذ محمد عابد الجابري أبان واستبان وبين هذا الأمر في كتابه اشكالية الفكر العربي المعاصر، وهو يتحدث عن علاقة الوعي المحلي داخل البلدان المستعمرة، بألة التدمير الثقافي التي مارسها الإستعمار…

نستنتج مما سبق أن حسن توظيف التراث هو التوجه إلى إعادة قراءته ونقده، من طرف النخب الفكرية العربية، كفيل بأن يساعد على إحداث هزة فكرية نستطيع بها مواجهة التحديات والدخول إلى عالم الحداثة، وهذا ما اصطلحنا عليه سابقا التراث أداة من أدوات التحديث، أي استعمال هذا التراث من أجل إحياء الفكر العربي وتنشيطه، وإحياء الكفاءات الابداعية والتأملية للانفتاح على عالم الحداثة، والقيام بعملية إصلاح حقيقية، وبهذا يكون التراث جسرا للحداثة وليس تكريسا للتخلف.

أ- الجابري:

يحدد الأستاذ الجابري طريقة الاستفادة من التراث واتخاذه وسيلة من وسائل النهضة في الطريقة التي نتعامل بها معه، ولذلك يجب التعامل مع التراث ” تعاملا عمليا ينبغي أن يكون على مستويين: مستوى الفهم ومستوى التوظيف أو الاستثمار.”[15] ونفهم من هذا القول أنه علينا أولا أن نفهم تراثنا ونستوعبه، ثم بعد ذلك التوجه إلى حسن توظيفه واستعماله من خلال ما هو صالح منه ويستجيب لهمومنا الحاضرة، الأمر إذن هاهنا لا يتعلق بإحياء واستعادة التراث، وإنما بالعمل على جعله في خدمة ما نحن محتاجون إليه.

وبهذا يصرح الجابري أن ” استراتيجيته لا تبغي الهدم و إنما تبحث عما يمكن أن يساهم في إعادة بناء الذات العربية، وهي المهمة المطروحة في الظرف الراهن.”[16] وبالتالي فالجابري لا يعامل التراث على أنه منهل للمعارف، كما لا يهتم بالمحتوى المعرفي، ولا تهمه التلوينات التي يتخذها كل مفهوم، بل إنه يشتغل بالتراث بهدف إنجاز مشروع في الحداثة الفكرية على صعيد العالم العربي، مشروع لا يقطع تماما ولا كلية مع تراث الماضي، ولا يرى في هذه التحولات التي طرأت في التاريخ أي فرق، وإن كانت هناك تحولات وحركة فهي للوظائف الايديولوجية لا للمادة المعرفية، ” والتاريخ هو تاريخ الإيديولوجية لا تاريخ الفلسفة.”[17]

ب- أركون:

من المعلوم أن محمد أركون يمثل أهم أقطاب العقل الاسلامي والقارئ الممتاز للنص برؤية حداثية، إذ نجده يؤكد على ضرورة النظر إلى النص على أنه مجموعة متراكمة ومتلاحقة من العصور و الحقبات الزمنية رجوعا في الزمن إلى الوراء بتفكيكها، لأن التفكيك يمثل ألية مهمة لاختراق مضمرات النص، فنجده في جل إن لم نقل كل مؤلفاته يشير إلى أنه يحرص على الالتزام بمبادئ المعرفة العلمية واحترام حقوقها مهما يكن الثمن الإيديولوجي والسيكولوجي والاجتماعي، وبهذا فإن النص القرآني يغدو بالنسبة لأركون المنطلق من أجل إقامة فكر حداثي، وتأسيس حداثة فكرية.

ولهذا لم يعد نصا خارجا عن ضرورة المساءلة النقدية، وفي هذا الصدد نجد الأستاذ هاشم صالح يعرض منهج أركون والغاية التي يتوخاها من مشروعه المنهجي النقدي فيقول: ” هكذا نجد أن التفكيك يتمثل في اكتشاف الأجزاء المخفية أو المطموسة في خطاب ما، أو من نص أثري، أو من أي عمل أو أثر ثقافي، ثم نقوم بعد ذلك بفرز هذه الأجزاء المخفية بعد نشبها ونشرها على طاولة التحليل لمعرفة كيف تمارس دورها ضمن البنية العامة للفكر، وبالتالي معرفة نقاطها الضعيفة والقوية الصالحة والطالحة، وعندئذ نتوصل إلى امكانية أكبر وفعالية أكثر في نقد شروط إنتاج ثقافة معينة والوظائف التي تملؤها هذه الثقافة وتقوم به، إن الهدف الأقصى للتفكيك يمثل بإتاحة معرفة أفضل للظواهر البشرية والاجتماعية والتاريخية، ومعرفة كيف تشكلت وانبنت.”[18]

وبالتالي هذه العملية هي التي تعيد تشكيل كثير من المسلمات الفكرية المعيقة للتقدم، وتقوم بجهد نقدي لإعادة النظر في كثير من الأفكار المتعلقة بمفاهيم الاسلام والايمان وتاريخ الأديان، ودور الدين في حياة الفرد والمجتمع.

بناء على هذا يقول محمد أركون ” لو استطعنا أن نقوم بكتابة تاريخنا بشكل نقدي لحررنا الأجيال التالية من التصورات الإيديولوجيا والتقديسية للتراث لكن قدمنا صورة تاريخية عن التراث تحل محل الصورة التقليدية الموروثة… ولذلك فإني أتحدث عن التحرر الثاني للمغرب العربي ولكل البلدان العربية الاسلامية باعتبار أن التحرير الأول قد حصل ( أقصد التحرر السياسي) ولكن ما ينقصنا الأن هو التحرر الفكري.

التحرر الفكري

ولأن هذا التحرر الفكري لم يحصل فقد استطاعت الأصولية أن تنتصر شعبويا و أن تحل محل الإيديولوجية القومية والتحديثية السابقة التي فقدت مصداقيتها، ونجد أنفسنا الأن أمام مهام جسيمة يحسب لها حساب… ولهذا فنحن الأن بحاجة إلى ثورة فكرية حقيقية، تذهب إلى أعماق الأشياء وتغيير منظورنا جذريا للتراث، وهكذا وبدلا من أن يستمر التراث كقوة معيقة تشدنا إلى الخلف في كل مرة، يصبح قوة تحريرية تساعدنا على الإقلاع والانطلاق الحضاري، ولكن هذا لن يتم قبل القيام بمسح تاريخي شامل للتراث.”[19]

الحداثة تقتضي اعتماد منهج نقدي عقلي

وعلى هذا الأساس، وبهذه الطريقة سيصبح التراث عامل تقدم وليس عاملا يستغل لتكريس التخلف ورفض الحداثة.نستطيع من خلال ما سبق أن نصل إلى الخلاصات التالية:إن عملية التحديث هي أساسا عملية فكرية ومنهجية يجب أن تتوجه إلى تغيير طرق التفكير وفهم الذات وإعادة بناء الماضي.من الضروري البداية من إعادة قراءة التراث من خلال فهم جديد ومنهج جديد، من أجل عصرنته وجعله قادرا على خدمة القضايا الحداثية المعاصرة.الحداثة تقتضي اعتماد منهج نقدي عقلي انطلاقا مما جد في مناهج الفكر والعلم ومن خلال منجزات العصر.

[1] – عوائق الحداثة بين الثقافة والمدرسة. ادريس جبري ، مجلة فكر ونقد. عدد 42 الرباط. ص: 130.

[2] – الحداثة والإسلام. عبد الله العروي. ط: 2. 2001. ص: 71.

[3] – التراث والحداثة. دراسات ومناقشات. محمد عابد الجابري. المركز الثقافي العربي ص: 18.

[4] – نفسه ص: 19.

[5] – المغرب في مواجهة الحداثة. محمد سبيلا. ص:19.

[6] – محمد عابد الجابري. استجواب مع مجلة أفاق، مجلة دورية يصدرها اتحاد كتاب المغرب الرباط. عدد 2. سنة 1992. ص: 68.

[7]– محمد أركون. الفكر الإسلامي قراءة علمية. ترجمة هاشم صالح. المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء. ط: 2. 1996. ص: 19.

[8]– محمد عابد الجابري نحن والتراث. قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي. المركز الثقافي العربي. ط: 1ص: 11\12.

[9]– نفسه. ص: 16.

[10] – محمد عابد الجابري. التراث والحداثة. دراسات ومناقشات. مرجع سابق. ص: 50.

[11] – محمد أركون. من فصل التفرقة إلى فصل المقال، أين هو الفكر الاسلامي المعاصر، ت. هاشم صالح. ط:2. ص 42.

[12] – محمد أركون. قضايا في نقد العقل الديني. كيف نفهم الاسلام اليوم. ترجمة وتعليق هاشم صالح. دار الطليعة للطباعة. ط: 1. ص: 38\39.

[13] – – نفسه. ص: 53.

[14] – محمد سبيلا. دفاعا عن العقل وعن الحداثة. مركز فلسفة الدين. ط: 1. ص: 88.

[15] – محمد عابد الجابري. نحن والتراث. مرجع سابق ص: 88.

[16] – كمال عبد اللطيف. أسئلة الفكر الفلسفي في المغرب. المركز الثقافي العربي. 2003. ص: 79.

[17] عبد السلام بن عبد العالي. قضايا الفكر العربي في نهاية القرن، مجلة أفاق عدد 63\64. سنة 2000. ص: 3\36.

[18] – هاشم صالح. مقال التراث العربي الإسلامي والطفرة العلمية الحديثة. مجلة الوحدة. الرباط. العدد 20. ص: 33.

[19] – محمد أركون. قضايا في نقد العقل الديني – كيف نفهم الإسلام اليوم- مرجع سابق. ص: 223\224.

بقلم: إدريس الكريط 

أضف تعليقك هنا