من سوق النخاسة إلى كرسي الرياسة

“يا سيدي ما عندي عمرَ نوحٍ، ولا صبر أيوبٍ”.

تلك كانت عبارته حين عَرض عليه السلطان عبد الحميد الثاني أن يكون الصدر الأعظم للدولة العثمانية للمرة الثانية.

سيرة خير الدين التونسي

كانت بدايته من سوق النخاسة (وهو سوق بيع العبيد) في إسطنبول، بيع طفلاً صغيراً، ليعود بعد عقودٍ من الزمن إلى المدينة نفسها ليكون الصدر الأعظم للدولة العثمانية!، كيف ذاك؟

لنبدأ تلك الرحلة:

أولا: ولادته ونشأته

ولد سنة 1820م في قرية بجبال القوقاز، والده توفي في إحدى الوقائع العثمانية ضد روسيا، فأسر وهو طفل على إثر غارة، ثم بيع في سوق العبيد بإسطنبول، فتربى في بيت نقيب الأشراف تحسين بك، وانتهى به المطاف إلى قصر باي تونس (حاكمها) وجيء به إلى تونس وهو في السابعة عشر من عمره.

ثانيا: أعماله وكتاباته

أظهر براعة ونباهة من صغره، درس العلوم الشرعية، وأقبل على الفنون العسكرية والسياسية والتاريخ فأتقنها، مما جعله يحصل على منصب المشرف على مكتب العلوم الحربية، ثم أميرَ لواء الخيّالة، سافر إلى فرنسا وغيرها من البلاد الأوربية مع العديد من الوفود، فاطلع على الحضارة هناك وتلمس مواطن قوتها وتقدمها.

في سنة 1857 عين وزير للبحر فقام بالعديد من الإصلاحات والتنظيمات على أساس العدل ومحاربة الاستبداد والفساد الذي كان مستشرياً في البلاد التونسية، وخاصة بين المسؤولين، وبعد أربع سنوات من المحاولات قدَّم استقالته بعد خلافه مع الباي، بسب رفضه ممارسات وزير المالية حول أمر الاستدانة من المُرَابين الأوروبيين، فآثر الاستقالة من منصب من جميع وظائفه، ليتفرغ لكتابة تجربته وزبدة أفكاره، ليقدم لنا كتابه المهم والمفيد “أقوم المسالك في معرفة الممالك” الذي سجّل فيه الإجابة على سؤال مهم جدا: لماذا تقدم الأوربيون وتأخرنا نحن المسلمون؟

الكتاب الذي وصفه المستشرق الألماني والرحالة المعروف هاينريش فون مالتزان أثناء زيارة لتونس قائلاً أنه “أهمّ ما ألفّ في الشرق في عصرنا هذا”

ومَن يقرأ الكتاب -وخاصة مقدمته[1]– سيعرف عمق تفكير الرجل وسعة اطلاعه على تجارب المسلمين وغيرهم ممزوجاً بالتجارب العملية والواقعية، ولا نبالغ حين نقول إنه أول مَن كتب عن التنظيم السياسي وتنظيره وتأصيله من واقع عملي وليس من كتابٍ نظري.

فهو يتحدث عن الأوربيين فيقول: “وإنما بلغوا تلك الغايات والتقدم في العلوم والصناعات بالتنظيمات المؤسسة على العدل السياسي، وتسهيل طرق الثروة، واستخراج كنوز الأرض بعلم الزراعة والتجارة، وملاك ذلك كله الأمن والعدل اللذان صارا طبيعيين في بلدانهم” ص17.

ويستعرض تاريخ أوربا من أهلها، فها هو ينقل عن المؤرخ الفرنسي الشهير تيراس -بعد تجربتهم مع نابليون- قوله: “إنه لا يسوغ أن يسلم أمر المملكة لإنسان واحد، بحيث تكون سعادتها (الأمة) وشقاوتها بيده، ولو كان أكمل الناس وأرجحهم عقلاً” (ص38)

ويعود بك إلى التاريخ القديم فينقل عن أرسطو قوله: “العالم بستان سياجه الدولة، والدولة سلطان تحيا به السنة، والسنة سياسة يسوسها الملك، والملك نظام يعضده الجند، والجُند أعوان يكنفهم المال، والمال رزق تجمعه الرعية، والرعية عبيد يكنفهم العدل، والعدل مألوف وبه قوام العالم” ص32

وبالجملة فهو يرى أن طريق التقدم يعتمد على ركيزتين:

  • الحاكم ومهمته إقامة العدل والحرية وهما ملاك القوة والاستقامة في جميع الممالك.
  • الرعية ومهمتها الطاعة للملك ومحبة الوطن، وهذان “لا يحصلان إلا ببذل الجهد في النصح بجلب المصالح، ودرء المفاسد، إن قدر عليهما، وإن لم يقدر فبالامتناع عن الموافقة على ما يضره، فإن لم يفعل كانت موافقته مع العلم بما ينشأ عنها من المضرة خيانة” (ص34)

وبلا شك رجلٌ بمثل هذا التفكير، لابد أن يذيع صيته وينتشر خيره، فبعد سنوات من استقالته كلفه الباي بمهمة رئيس اللجنة المالية ثم بتوثيق الصلة مع العالم الغربي ثم وزيراً أكبر عام 1873م، ومرة أخرى تنتشر الوشايات ويتدخل المفسدون لتعطيل مسيرة تقدم البلاد لتعارضها مع مصالحهم، ليستقيل مرة أخرى ويهاجر إلى إسطنبول 1878م.

ثالثا: استلامه منصب الصدر الأعظم من قبل السلطان عبد الحميد الثاني

وما إن وصل إلى إسطنبول حتى استدعاه السلطان عبد الحميد الثاني ليعرض على وزارة العدل فيرفض ثم يوافق على أن يكون وزيراً بلا وزارة.

وفي نهاية عام 1878م استدعى السلطان عبد الحميد الثاني صاحبنا ليبلغه بتعيينه “الصدر الأعظم”(رئيس الوزراء) للدولة العثمانية، ولم يقبل منه أي عذر، قبل صاحبنا وبدأت رحلة إصلاح جديدة ولكن على مستوى أكبر.

قدَّم صاحبنا طريق الإصلاح وهو تكوين مجلس يراقب الدولة ويتابع مجرياتها المالية والعسكرية وغيرها، وله السلطة المطلقة لمحاسبة الجميع وسن القوانين، وأن يكون هذا المجلس بمشاركة الناس وإعطائهم مساحة أكبر من الحرية.

رابعا: استقالته عن منصب الصدر الأعظم

وبعد ثمانية أشهر من تعيينه وبعد صراعه وقتاله من أجل الإصلاح، أيقن أنه لا يمكنه ذلك للأسباب نفسها، فقدَّم استقالته عن منصب “الصدر الأعظم للدولة العثمانية”، قٌبِلت استقالته لكنه كان قريباً من السلطان فكثيراً ما كان يُستدعى للاستشارة.

وفي عام 1882م عُرِض عليه منصب الصدر الأعظم مرة أخرى، فاشترط تنفيذ الإصلاحات، وحين أيقن أنها لن تتم اعتذر عن قبول المنصب وقال كلمته: “يا سيدي ما عندي عمرَ نوحٍ، ولا صبر أيوبٍ”.

وبقي خارج المنصب حتى وفاته عام 1890م، ونُقِل جثمانه إلى تونس بطلب من الحكومة التونسية عام 1968م ليدفن في تونس.

أظنك عرفته إنه الصدر الأعظم خير الدين التونسي.

ما أعظم هذا الدين، رجل ليس عربي الأصل، لكنه مسلم حَمل هم العالم الإسلامي طيلة حياته بذل ولم يتردد أبداً، وفوق هذا سجَّل للأمة خلاصة تجربته وعصارة فكره، لعلها تستفيد منه بعد موته إن لم يحصل ذلك في حياته.

أرجو ذلك.

[1] وقد يسر الله لي فصل المقدمة عن الكتاب، فمَن يرغب بها عليه مواصلتي على الايميل: [email protected]

فيديو مقال من سوق النخاسة إلى كرسي الرياسة

أضف تعليقك هنا