آينشتاين الفيلسوف

لم يكتفي أينشتاين على تغيير نظرتنا لهذا الكون من خلال أفكاره الفيزيائية فقط ،بل أراد أيضا أن يقدم للجميع أفكاره الفلسفية وكيفية رؤيته لهذا العالم، فهو مثل أي عالم فيزيائي كان يمتلك في أعماقه فكرا فلسفياً هاما ساعده على حل العديد من المشاكل الكونية، هذا الفكر الذي اختلفت التأويلات حوله حيث اعتبر البعض بأن الفكر الأينشتايني يميل إلى ” بيركلي ” في حين رأه البعض الأخر كانطيا و وضعياً بالإضافة إلى أنه عقلانيا و تجريبياً.

أنيشتاين والفلسفة

ومن خلال هذه المناقشات :” يتأكد لنا شيء واحد، و هو إرتباط أينشتاين الوثيق بالفلسفة ” و يتأكد لنا بأن الفلسفة مازلت ضرورية و تمثل مصدر إعجاب العالم الذي يريد فهم كيفية عمل هذا النظام الذي نجده في الطبيعة ، بالإضافة إلى أنها تعالج بعض الإشكاليات المعقدة التي تنتجها المعرفة العلمية، فالموقف الأينشتايني من الفلسفة ككل يرسم لنا العلاقة الإيجابية التي تجمع هذا الحقل بالحقل الفيزيائي، كذلك لا ينكر هذا العالم الدور الذي لعبته الفلسفة في تقديم صورة واضحة عن هذا الكون.

فهي منذ أول أمرها تحول تبسيط كل ماهو صعب و عويص و يؤكد أينشتاين هذه الفكرة من خلال قوله :” على مدى تاريخ العلوم كله من الفلسفة الإغريقية حتى الفيزياء الحديثة كانت هنالك جهود ثابتة لتحويل التعقيد الظاهري في الظواهر الطبيعية إلى بعض الأفكار و العلاقات الأساسية و البسيطة ” أي أن الفلسفة حسب هذا الفيزيائي بإمكانها أن تجيبنا على أي سؤال علمي خاصة الأسئلة التي يثيرها عالم الفيزياء ، فلا عجب إذاً بأن الفيزيائي دائماً ما يكون حاملاً لخاصتين هامتين و هما خاصية الفيلسوف و خاصية العالم فكل الأراء الفلسفية المنطقية و كذلك الميتافزيقية الطبيعية حول هذا الكون ساعدت أينشتاين على خلق نظريته أو نظرته الخاصة للكون.

هل بإمكاننا أن نتحصل على معرفة يولدها التفكير الخالص بدون الإعتماد على الإدراك الحسي؟

إن أهم سؤال فلسفي أراد أينشتاين أن يجيب عنه هو : هل بإمكاننا أن نتحصل على معرفة يولدها التفكير الخالص بدون الإعتماد على الإدراك الحسي ؟ و هنا وجد هذا العالم نفسه يتصفح في كتابات ” هيوم ” في هذه المسألة و لابد هنا أن نؤكد بأن الإطلاع على هذه الفلسفة سيؤكد لأينشتاين بأن هنالك العديد من المفاهيم كالسببية لا يمكن للإنسان أن يستنبطها بطريقة مباشرة ، فديفيد هيوم يرفض أن تكون العلاقة السببية قانون طبيعي يتصف بالضرورة ، فالتجربة لا ترينا هذه الضرورة.

وكل ما نراه هو تزامن و تتابع لحدثين و لا يوجد أي مبرر للقول بأن هناك علاقة سببية بينهما ، و هذه الأفكار الفلسفية تتناقض مع كل تلك الأراء المنتصرة و المؤمنة بمفهوم ” السببية ” ، فلا عجب إذا بأن طريقة هيوم في التفكير هي التي جعلت من أينشتاين يحاول البحث في فكرٍ فلسفي أخر لعله يجد فيه الإجابة على كل أسئلته التي تتعلق بالعالم.

هل يمكن للمعرفة أن تكون قبلية؟

وهنا نجده مهتم بالكتابات الكانطية في هذه المسألة خصوصاً و أن كانط يؤكد بأن :” المعرفة الحقيقية تستند على التفكير الخالص و تصبح بديهية في الطبيعة ” كذلك أراد أينشتاين أن يبحث في السؤال الكانطي والمتمثل في سؤال : هل يمكن للمعرفة أن تكون قبلية ؟ هذا السؤال الذي يجيب عنخ الفيلسوف الألماني بالإيجاب سيكون موضوع نقاش ساخن مع إجابات التجريبيين المعاصرين الذين يؤكدون بأن المعرفة لا يمكن أن تستقل عن التجربة ، فمن دون التجربة لا يمكن لأي إن كان أن يتحدث عن المعرفة.

فأينشتاين يصرح بأن ” العلم الذي يربط بين النظرية و التجربة لم يبدأ فعلياً إلا مع أعمال غاليلو ” كذلك يعتبر أينشتاين من خلال إطلاعه على موقف هيوم و كانط بأن هذا الأخير عالج موقف هيوم ، لكن هذه المعالجة تبقى نسبية، فأينشتاين على خلاف كانط لا يرى بأن المعرفة تأتينا بصفة بديهية قبلية ، أي أن ” معرفتنا بالعالم الخارجي تنبع من الواقع من خلال العمل الذهني على نتائج الإحساس ” كذلك ما يعيب كانط حسب أينشتاين هو إهتمامه بالهندسة الإقليدية التي يعتبرها ضرورية و مهمة في عملية التفكير.

الإنسان والإدراك

لهذا لا عجب بأن هذا الفيزيائي على الرغم من إطلاعه على الإتجاه المثالي في الفلسفة فإنه لم يكن ينتمي تحت رايتها، كذلك أراد أينشتاين أن يتفحص أفكار ” ماخ ” الإبستيمولوجية ومثلما عودنا دائماً فإنه لن يأخذ من هذه الأفكار إلا القليل ” لقد فشل محتوى أراء ماخ الفلسفية في أن يكون الأساس الذي يعتمد عليه أينشتاين في نظرته للعالم ” ففي حواره مع ” بيندرانت طاغور ” يؤكد أينشتاين على ضرورة الشعور بأن هنالك واقع مستقل على الإنسان بالإمكان إدراكه ، أي أن هذا الفيزيائي أصبح على يقين تام بأن هنالك عالماً موضوعياً يوجد وراء الإدراكات الحسيّة التي يعتبرها أينشتاين بمثابة الصور الذهنية لهذا العالم.

كذلك تجدر الإشارة إلى أن قرأة هذا الفيزيائي لكتابات إرنست ماخ لا تكفي لكي نؤكد بأنه يميل إلى المذهب الوضعي في الفيزياء :” لقد أدرك أينشتاين أن إصرار الوضعيين على التقليل من مهمات الفلسفة و العمل على نتائج الإحساس و إنكارهم لدراسة جوهر ظواهر العالم الخارجي يحمل أخطاء عميقة ذات نتائج مهلكة ” كذلك تجدر الإشارة إلى أن أيشتاين أراد أن يتجه بفكره الفلسفي إلى أبعد الحدود ، أراد أن يتجه نحو ما يعرف بالعالم الموجود موضوعياً الذي لا يمكن للإنسان أن يتدخل فيه على الرغم من أن هذا الفيزيائي يؤمن : بطاقة و قدرة العقل البشري على حل الألغاز الصعبة للكون “.

لماذا يكون على المرء أن يحدق في النجوم إذا لم يكن مقتنعاً بوجودها فعلاً؟

أيضاً من بين الأسئلة التي حيرت بال أينشتاين هو سؤال :” لماذا يكون على المرء أن يحدق في النجوم إذا لم يكن مقتنعاً بوجودها فعلاً ؟ ” فكل تلك العقبات الفيزيائية التي إعترضت أينشتاين لم يكن ليتفادها دون إمتلاكه لفكر الفلاسفة و قوة العقل ، حيث يخلص هذا العالم الفيزيائي موقفه من وجود عالم خارجي حينما يؤكد بأن ” الإيمان بوجود عالم خارجي مستقل عن الذات المدركة هو أساس علم الطبيعة ” هذا ما يعزز تلك الفكرة القائلة بأن أينشتاين دائماً ما يفترض وجود الواقع الموضوعي خلف كل تلك الإدراكات الحسية ، أي أن هذا الفيزيائي حينما إنطلق في المسائل الأبستيمولوجية.

فإنه إنطلق من الوجود الموضوعي للعالم الذي ينعكس في وعي الإنسان من خلال إدراكاته الحسية ، فهو يصرح في هذا السياق قائلاً :” إننا نحاول بمساعدة النظريات الفيزيائية إيجاد طريقنا في متاهة الوقائع التي نلاحظها ، كما نحاول ترتيب عالم إنطباعاتنا الحسية و فهمه ” فالعقل الإنساني حسب أينشتاين بإمكانه أن يصف لنا حقيقة هذا العالم الذي نعيش فيه ، كذلك يؤكد لنا هذا الفيزيائي بأن الرياضيات بإمكانها أن تجيبنا على العديد من الأسئلة المزعجة التي تأتي من خلال تفحصنا لكل إلغازات هذا الواقع ، فأينشتاين أدرك أن الرياضيات كانت ” مرتبطة بالعالم الخارجي ليس فقط من ناحية منشئها ، بل من خلال ماضيها كما يقال إن فرضياتها تعكس الواقع دائماً ” وهذه الفرضيات يعتبرها أينشتاين تستند على مواضيع خيالنا أكثر من مواضيع واقعنا.

إدراك العالم الواقعي

إن إصرار أينشتاين وتأكيده بأن هذا العالم قابل للتعقل يأتي من خلال تأكيده بأن الطبيعة قد وجدت قبل الإنسان، وفي هذا السياق ربما يخطو أينشتاين خطوة هامة للإجابة عن أسئلة ” إنجلز ” التي هي :” هل إن فكرنا قادر على إدراك العالم الواقعي ؟ هل نستطيع من خلال أفكارنا و ملاجظاتنا عن العالم الواقعي صياغة إنعكاس صحيح عن الواقع ؟ ” فأينشتاين آمن بإمكانية إدراك العالم الخارجي من خلال العقل البشري ما دامه يؤمن بالإستمرارية أو السببية التي توجد في الطبيعة و بالتالي فإن ” نتائج االإحساس بالنسبة لأينشتاين هي إنعكاس العالم الخارجي “.

ومن هنا فإن النظريات العلمية لابد أن تنشأ من خلال الإرتباط بالواقع و يؤكد أينشتاين هذا الكلام من خلال قوله :” إننا ننوي بالأحرى رسم الخطوط العريضة لمحاولات الفكر البشري الرامية إلى إيجاد ترابط بين عالم الأفكار و عالم الظواهر ” ومن هنا لابد من تنقيح المفاهيم العلمية حتى تكون مرتبطة بالتطور العلمي و تتلائم مع كل التطورات المتعلقة بإدراك العالم الخارجي.

أي أن هذا الواقع و ملاحظتنا له بإمكانها أن تتغير بتغير المفاهيم في حد ذاتها ، فنسبية المعرفة بصفة عامة و المعرفة الفيزيائية بصفة خاصة لم يجبر أينشتاين على نبذ العالم الخارجي و الحقيقة الموضوعية ، و مثلما أكدنا سابقاً فإن نظرة هذا الفيزيائي الفلسفية للعالم لا يمكن لها أن تكون متطابقة مع نظرة الفلاسفة المثاليين ، لكن كل ما يمكن قوله هو أن موقف أينشتاين تجاه العالم الخارجي كان موقفاً مادياً عفوياً و ديالكتيكياً يظهر بصفة مباشرة في نظرياته الفيزيائية التي ساهمت في تعديل المفاهيم القديمة حول الزمان و المكان مثلاً ، وهنا يصرح هذا العالم بأن العلم ” ليس مجموعة من القوانين أو بيان بوقائع غير مرتبطة ببعضها البعض.

إنه إبداع العقل الإنساني بأفكاره و مفاهيمه المبتكرة بحرية ” و في هذا كله إعلاء لقيمة العقل الشري القادر على تجاوز كل الصعوبات التي توجد في طريقه العلمي ، فلا عجب إذاً بأن أينشتاين يؤكد بأنه ” يكمن وراء بحث علمي على شئ من الأهمية إقتناع يشبه الشعور الديني بأن العالم معقول يمكن فهمه ”

قائمة المصادر والمراجع:

ألبرت أينشتاين و أنفلد ليوبولد ” تطور الفيزياء ” ترجمة : علي المنذر ، مراجعة : د ،  محمد دبس ، بيروت_لبنان ، أكاديميا ، الطبعة الأولى 1993 .

د ، ب ، جريبانوف و أخرون ” أينشتاين و القضايا الفلسفية لفيزياء القرن العشرين ” ترجمة : ثامر الصفار ، الأهالي للطباعة و النشر و التوزيع ، الطبعة الأولى 1990.

فيديو مقال آينشتاين الفيلسوف

أضف تعليقك هنا