البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول

لم تكن دراسة البلاغة حديثة ولا من مستجدات العصر، بل هي موغلة منذ القدم، على اعتبارها البحر الذي لم يصل أحد إلى نهايته مع استنفاد الأعمار، إذ ترجع إلر عصر اليونان وما جاء من مؤلفات أرسطو و أفلاطون، فضلا إلى ظهورها في الدراسات المعاصرة مع شاييم بيرلمان وزميلته تيتيكا، في أعمالهم المسماة البلاغة الجديدة.

مراحل انتقال البلاغة

فالدارس لهذه البلاغة يلاحظ أنه انتقلت في مراحل أربع هي:

  • مراحل النشأة.
  • النمو.
  • الازدهار.
  • وأخيرا الذبول.

والباحث حينما يلتمس البذور الأولى للبلاغة العربية يجد أن جذورها متأصلة منذ العصر الجاهلي، هؤلاء الذين عرفوا بمرتبة رفيعة من الفصاحة والبيان في شعرهم إلى غاية ظهور الاسلام.

ومع نزول القرآن الكريم الذي أصبح حجة قاطعة لهم بحيث كثيرا ما كان يدعوهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإتيان بمثل فصاحته وبلاغته…ويمكن القول هنا أن دراسة الاعجاز البياني كان الهدف الوحيد والأسمى الذي من أجله وضع علم البلاغة، ثم أخذت هذه الدراسات والملاحظات تتسع في العصر العباسي بحكم تعمقها الحضاري وظهور ما سموه بالبديع والبيان… هذه الدراسات ازدهرت وأينعت على يد عبد القاهر الجرجاني، السكاكي، القزويني… الذين لهم أعمال خالدة في تاريخ البلاغة.

بعدها مباشرة ستقابلنا عصور كثرت فيها ما يسمى بالملخصات والشروح وكذا التعقيد والجمود، هذا الركود والجمود الذي عرفته البلاغة العربية من انكماش وانحطاط أدى إلى ظهور باحثين جدد من أجل إحياء وبعث البلاغة العربية انطلاقا من أصلها الفلسفي، وهذا ما يسمى بالبلاغة الجديدة. خاصة مع شاييم بيرلمان وزميلته لوسي ألبريخت تيتيكا، وتولمين، وديكرو…سنة 1958.

مفهوم البلاغة

  • البلاغة لغة

    • تعتبر البلاغة أحد علوم اللغة العربية، التي حظيت باهتمام الدارسين، وهي اسم مشتق من الفعل بلغ، بمعنى وصل إلى النهاية، كما ورد ذلك في المعجم المفصل “البلاغة تعني الإنتهاء والوصول، من فعل بلغ الشيء، أي وصل وانتهى”[1].
    • حيث يمكن لنا وصف الانسان بكونه بليغ، إذا كان قادرا على ايصال المعنى إلى المستمع، فيقال “رجل بليغ، وبلغ حسن الكلام فصيحه يبلغ  بعبارة لسانه كنه ما في قلبه”[2] .
  • البلاغة اصطلاحا

    • تعد البلاغة من المفاهيم التي يصعب حصر مفهوما جامعا لها، حيث اجتهد علماء البلاغة منذ القديم في وضع تعريف لهذا العلم، فهي عند القزويني “مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته”[3].
    • أما عند أبو هلال العسكري “البلاغة كل ما تبلغ منه المعنى قلب السامع فتمكنه في نفسه لتمكنه في نفسك ما صورة ومعرض حسن”[4].
    • أما بالنسبة للبلاغة في المنظور الأرسطي، نجدها تقع بين معنيين متعارضين يدل أولهما عبل الخطاب الذي يستهدف الاقناع، وثانيها الخطاب الذي يحاول أن يكون هدف وغاية …على حد تعبير محمد الولي.” الكل يصبح خطابا جماليا”[5].

البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول

من المعلوم أن أغلب التيارات النقدية الحديثة متجهة نحو إمكانية إعادة قراءة البلاغة على ضوء المكتسبات المنهجية الجديدة، ولا شك أن هذا التوجه استند على الدراسات الغربية، التي انطلقت منذ الستينيات تؤرخ للبلاغة الغربية، وتحتوي هذه الأخيرة في التقليد الغربي على معنيين أساسين هما:

  • يهتم بالمعنى الحجاجي و الإقناعي، الذي يصب في التداولية الحديثة.
  • يهتم بالمعنى التعبيري الشعري الذي يصب في الأسلوبية.

انطلاقا من هاذين المعنيين، نستنتج أنهما يتجهان نحو استرجاع ثنائية البديع والبيان في نشأة البلاغة العربية، وذلك باعتبار أن البلاغة؛ أي الدرس البلاغي مفعم بالحركة والتجديد.

ولعل خير دليل على هذا أن أليفي روبول يرى “في المفارقات أن البلاغة القديمة أستدعيت لعلاج قضايا حديثة لا تعود إلر مجال الخطاب واللغة بل تعدت إلى علم النفس والصورة، وعموما فالبلاغة عادت إلى مجال اللغة عبر مباحث غير لسانية”[6].

من هنا نرى أن إحياء بلاغة جديدة من منطلق قديم يستدعي الوقوف على أصول البلاغة من منظور فلسفي… ومن رواد هذه البلاغة الجديدة نجد شاييم بيرلمان، لوسي ألبريخت تيتيكا، وديكرو… وآخرون، هؤلاء جميعا استطاعوا أن يجعلوا من البلاغة مبحثا علميا عصريا، فبيرلمان ومن معه مثلا يصرح إلى أن الوجهة الصحيحة لحجاج ناجع متمثل في بلاغة أرسطو… وهكذا.

لمن يعود الفضل لعودة البلاغة لمكانتها في عصرنا هذا؟

ويرجع الفضل في استعادة البلاغة من مكانتها في هذا العصر إلى العمل الذي قدمه العالمين بيرلمان ولوسي ألبريخت تيتيكا في كتابهما المصنف في الحجاج، البلاغة الجديدة سنة 1958. والذي لقي نجاحا كبيرا نظرا لمحاولة التجديد التي نستشفها بين ثناياه، فقد عرف الحجاج في العصر الحديث مفهوما أدق، وأوضح من المفاهيم السابقة، كما أن كلمة(بلاغة) العربية. تقابلها في الثقافة الغربية ريطوريك التي تتردد بين ثلاث مفاهيم كبرى هي:

  • أولا:

    • المفهوم الأرسطي:

      • الذي يخصصها لمجال الإقناع وآلياته، حيث تشتغل على النص الخطابي في المقامات الثلاث المعروفة (المشاورة، والمشاجرة، والمفاضلة)، وهي بهذا المفهوم تقابل بوتيك التي تعنى بالخطاب المحاكي المخيل؛ أي الشعري حصرا، وهذا هو المفهوم أعاده بيرلمان وآخرون صياغته في اتجاه بناء نموذج منطقي للإقناع.
  • ثانيا:

    • المفهوم الأدبي:

      • الذي يجعلها بحثا في صور الأسلوب، هذا المفهوم الذي استقر لها عبر تاريخ من الانكماش، ورسم بارت خططه العامة في محاضرته المشهورة عن تاريخ البلاغة القديمة، وقد تمة إعادة صياغة هذا الاتجاه حديثا باعتباره بلاغة عامة أحيانا، كما هو الحال في الدراسة المشهورة لجماعة مي تحت عنوان البلاغة العامة.
  • ثالثا:

    • المفهوم النسقي:

      • الذي يسعى إلى جعل البلاغة علما أعلى يشمل التخييل والحجاج معا، أي يستوعب المفهومين معا من خلال المنطقة التي يتقاطعان فيها موسعا هذه المنطقة أقصى ما يمكنه التوسيع، وقد حدث خلال التاريخ أن تقلص البعد الفلسفي التداولي للبلاغة وتوسع البعد الأسلوبي حتى صار الموضوع الوحيد لها، فكانت نهضة البلاغة جديثا منصبة على استرجاع البعد المفقود في تجادب بين المجال الأدبي(حيث يهيمن التخييل) والمجال الفلسفي المنطقي واللساني (حيث يهيمن التداول)”[7].

نستنتج أن البلاغة العربية تأسست على ثلاث مفاهيم:

    • أولها

    • المفهوم الفلسفي:

      • الذي يخصصها لمجال الاقناع و آلياته وهذا المفهوم هو الذي انطلق منه بيرلمان وآخرون في بناء نموذج منطقي للإقناع.
  • ثانيها

    • المفهوم الأدبي:

      • الذي يجعله بحثا في صور الأسلوب الذي أعاد صياغته بارت صياغة حديثة …
  • ثالثهما

    • النسقي:

      • الذي يسعى لجعل البلاغة علما أعلى يجمع التخييل والحجاج معا… إلا أن عملية الجمه هذه قد تؤدي به إلى فقدان طابعه الاشكالي النسقي.

أساس النسق البلاغي

إن الحديث عن علمي التخييل والتداول بكونهما خطابين يتخذان اتجاها نحو قطبين تفصلهما مسافة متباعدة، يفرض بيان العنصر الجوهري الذي يجمع بينهما ومدى الانتاجية الإضافية المترتبة عن هذا الجمع…

ومن المعلوم أن العنصر الجوهري الذي يجمع بين التخييل والتداول هو عنصر الاحتمال. يقول محمد العمري ” إن التخييل والتداول(أو الحجاج بشكل أدق)، يلتقيان في أنهما خطابان قائمان على الاحتمال؛ الاحتمال توهيما أو ترجيحا، التوهيم في التخييل والترجيح في التداول الحجاجي، فحتى تعريف أرسطو لا يعد وجهة الاحتمال وجودا وعدما. فخطاب الشاعر كذب محتمل الصدق، وكلام الخطيب صدق محتمل الكذب…”[8]

الفصل بين الشعرية والخطابية

إن بول ريكور فحص عناصر الاختلاف والائتلاف بين الشعرية والخطابة في مقال مركز تحت عنوان الخطابية، الشعرية، التأويلية… في قول محمد العمري ” وتلتقي الشعرية مع الخطابية في كونها هي الأخرى تعالج انتاجا لنصوص نواتها الاحتمال، فإذا لم نقف حسب عبارة ريكور عند اعتبار الوزن والإيقاع فارقا وحده بين الخطابية والشعرية، فسيكون من الصعب التفريق بين المبحثين. ذلك أن poiesis تعني هي الأخرى عند أرسطو انتاج الخطاب… وبهذا فإن الشعري والخطابي يتقاطعان في منطقة المحتمل”[9].

نقاط الالتقاء والاختلاف بين الشعرية والخطابية

من هنا نستنتج أن نقاط الالتقاء والاختلاف بين الشعرية والخطابي يلتقيان في معالجة النصوص، يكون مركزها الاحتمال، فالشعرية عند أرسطو كما سبق الذكر هي نتاج الخطاب. أما الخطابية هي تركيب الخطاب. ويتقاطعان في كونهما مختلفي الوظيفة والأهداف. فالشعري هدفه خلق الحكايات ( الإمتاع ). أما الخطابي فهدفه يكمن في تقديمه الحجج والبراهين ( الإقناع).

في حين ذهب الاتجاه الثاني إلى الإقرار بإمكانية التداخل بين التخييل والتداول في إطار ما يسمى بلاغة عامة، تجمع بين الاقناع والامتاع، وهذا الاتجاه مثله بلاغيون كثر..

من خلال تبعنا لمسارات البلاغة العربية عامة، والبلاغة الغربية خاصة، نخلص إلى مجموعة من النتائج مفادها:

أن البلاغة شغلت حيزا في حقول المعرفة خاصة مع ظهور البلاغة الغربية الجديدة التي حضيت باهتمام اللسانيين والنقاد في كل من الدرسين اللغويين العربي والغربي، وهذا بعد صدور الكتاب الأساسي الذي يعتبر إنجيل البلاغة الجديدة، المعنون بالرسالة في الحجاج، البلاغة الجديدة لبرلمان وزميلته تيتيكا، هذان الأخرين اعتبرا أن الحجاج هو بلاغة جديدة.

المراجع

[1] – أنعام فوال عكاوي: المفصل في علوم البلاغة العربية (المعاني، البيان، البديع)، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة 2، 1996.

[2] – ابن منظور: لسان العرب، دار المعارف، مادة بلغ، الجزر 1.

[3] – جلال الدين القزويني: الإيضاح في علوم البلاغة، دار الكتب العلمية، ط1، ص:13.

[4] ‘ أبو هلال العسكري: الصناعتين، الناشر عيسى البابي الحلبي، ط1، ص:19.

[5] – محمد الوالي: الاستعارة في محطات يونانية وعربية وغربية، دار الأمان، الرباط، ط2، ص:19.

[6] – أيت أعراب صونية، كتكوت ليلى: رسالة الماجيستر، البلاغة الجديدة وتحليل الخطاب، ص:21.

[7] – محمد العمري: البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول، إفريقيا الشرق 2012، الطبعة2، ص:12.

[8] – محمد العمري: البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول، مرجع سابق، ص: 15.

[9] – نفس المرجع. ص: 17.

فيديو مقال البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول

أضف تعليقك هنا