التدوين (تاريخه ومستقبله)

إن الإنسان تميز عن باقي المخلوقات بقدرته على النطق والتحدث بلغة معينة، فالله سبحانه وتعالى منح الإنسان ملكة تختلف عن باقي المخلوقات وهي النطق الذي أعطاه القدرة على التخاطب مع أبناء جلدته وتبادل المعلومات، فالإنسان الأول كان ناطقاً يتحدث مع من حوله بكلمات مركبة من حروف تواطئ الجمع الإنساني على فهم دلالاتها ومعانيها، وبالتالي المقدرة على نقل الكلام وتداوله وتحليله، وهذا أدى إلى تقديم الخبرات العملية بشكل نظريات مجردة يتم تناقلها شفاهاً عبر الأجيال بالإضافة للتطبيق العملي، ورويداً رويداً شعر الإنسان بالحاجة لحفظ هذه المعلومات بطريقة ما بسبب الموت المفاجئ لمن يحملها فنتج عن ذلك التدوين.

والتدوين نوعان:

النوع الأول:

ويتعلق بالخبرات العملية مثل كيفية بناء البيوت وصيد الحيوانات وصناعة الأسلحة والملبوسات وغير ذلك، وهذه الخبرات يتم نقلها من جيل إلى جيل بالتجريب العملي من صاحب الخبرة إلى المتعلم، ولم يشعر الإنسان بحاجة لتدوين تلك المعلومات، بل اكتفى ببعض الرسومات التي تعبر عن تلك الحالات كنوع من الفن البدائي الذي كان يثير إعجابهم، وهذه الرسومات تحولت تدريجياً إلى شعارات خاصة بكل جماعة من الجماعات البشرية الأولى لتصبح علامة تميزها عن غيرها.

النوع الثاني:

ويتعلق بمحصلة الإنتاج الفكري للإنسان والمتمثل في القصص والتاريخ والشعر والحكمة وغير ذلك، وهذه المعلومات كان يتم تناقلها شفاهاً عبر الأجيال ناقلةً محصلة الإنتاج الفكري والأدبي للأجيال اللاحقة، فظهر تدوينها على شكل رسومات تمثل بطولات أبناء القبيلة، ولاحقاً بسبب تطور المجتمع الإنساني وتشعب علاقاته ونشوء تطورات جديدة تتعلق بالزراعة والتجارة والصناعة وفرض الرسوم والضرائب وشيوع عمليات البيع والشراء ومن ثم التبادل التجاري بين مناطق أبعد وظهور الأديان وتطور المعتقدات ونشوب الحروب بين الجماعات التي شكلت دولاً، كل ذلك أدى إلى ضرورة تدوين ما يجري في الحياة العامة.

أشكال التدوين:

إن التدوين بدأ على شكل رسومات تعبر عن المشهد بشكل إجمالي ثم تدريجياً وبسبب تطور الحياة فإن شكل هذه الرسومات صار يعبر عن كلمات مدلولة، فمثلاً الرسم التصويري للعين كان يعبر عن كلمة العين أو الرؤية، ثم تطورت الأمور لتعبر العين عن حرف معين هو حرف العين، وبالتالي فإن أشكال التدوين بحسب مراحل التطور هي:

أولاً – التدوين بالرسومات:

بدأ الإنسان الأول بخط رسوماته ومن ثم حروفه على الرمال والتراب ليشرح للآخرين أفكاره، وكان هذا التدوين سريع الزوال، ورويداً رويداً انتقل لتشكيل رسوماته على الحجارة والصخور لأنه لاحظ دوامها لفترة أطول، وقد اقتصر الإنسان في رسوماته على الصخور بتدوين أهم الأحداث الواقعة، وكثيراً ما كان يختار جداراً صخرياً مرتفعاً في أحد الجبال ويدون عليه تلك الرسومات التي تخلد ذكرى جماعته.

ثانياً – التدوين بالنقش على الحجر:

ولاحقاً بسبب تطور مناحي الحياة انتقل الإنسان من الكتابة التصويرية العامة التي تعتمد الرسومات التي تعبر عن الحالة بشكل عام إلى الكتابة التصويرية الخاصة التي تخصص كل رسم بكلمة معينة، وقام بالتدوين على الحجر بواسطة حجر آخر أو أداة معينة معبراً عن أفكاره وقاصداً نقلها للأجيال اللاحقة.

ثالثاً – التدوين على الرقم الطينية:

إن نشوء المدن والقرى وتطور الزراعة وحدوث التبادل التجاري أدى إلى تعقيد كافة نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فاحتاج الإنسان للتدوين أكثر وأكثر وظهر التدوين اليومي للأحداث والمعاملات، واضطر الإنسان لحمل تلك المدونات بدلاً من تركها ثابته على الحجارة والصخور، فنشأ نظام جديد للكتاب وهو الكتابة على الألواح الطينية والتي تسمى بالرقم الطينية، حيث يتم تجهيز اللوح الطيني وتدوين المعلومات عليه وهو ما يزال طرياً ثم تجفيفه إما بحرارة الشمس أو بفرن مخصص لذلك، وهذه الرقم الطينية سهلت عملية التدوين بعد اضطرار الإنسان للكتابة أكثر من ذي قبل حيث ظهر كم هائل من المعلومات التي تحتاج للتدوين كالعقود التجارية وعقود الزواج وعقود الإيجار والحسابات العامة للإنتاج الزراعي والحيواني وغير ذلك.

رابعاً – التدوين على الورق:

وبالتدريج انتقل الإنسان من الكتابة على الرقم الطينية إلى الكتابة على جلود الحيوانات ليصل به الأمر إلى اختراع الورق، وقد تطور الورق من ورق البردي على يد المصريين إلى الورق الذي نستعمله حالياً على يد الصينيين، والورق أحدث ثورةعظيمة في تدوين المعلومات وسهولة انتقالها، فتطور الحياة حتّم على الإنسان التوسع في التدوين ليواكب الكم الهائل من المعلومات الناتجة عن ذلك التطور، فظهرت صناعة الورق وتطورت وظهر معها النساخون الذين دونوا كل شيء.

والناظر لظهور الكتابة على الورق ومنافستها للكتابة على الرقم الطينية يجد أن الانتقال للاعتماد على الورق في التدوين احتاج لآلاف السنين، حيث أن الصراع في المجتمع الإنساني بين القديم والجديد يظل ظاهراً فترة طويلة، فالديمومة التي يظهرها اللوح الحجري والرقيم الطيني في حفظ المعلومات أمام الورق سريع العطب والإتلاف قد جعلت الإنسان ينظر للتوثيق الورقي نظرة عدم اطمئنان مقارنة بالرقم الطينية والحجارة.

لذلك حاول دوماً حفظ الأشياء المهمة إما بحفرها على الحجر أو على ألواح معدنية لضمان بقاءها فترة أطول ولحمايتها من العطب السريع، وترك للورق فقط الأشياء الآنية والروتينية، فحال الحفظ الورقي أمام الحفظ الرقيمي أو الطيني أو الحجري هي كحال ظهور الحفظ الالكتروني ومزاحمته للحفظ الورقي، فظهور الأقراص المسماة بالفلاشة الالكترونية ما زالت تشعر الإنسان بعدم الاطمئنان لحفظ المعلومات فتجده يجنح دوماً نحو الحفظ الورقي بالتوازي مع الحفظ الالكتروني.

خامساً – التدوين الالكتروني:

ظهرت الثورة الرقمية وأحدثت قفزة هائلة في تطوير المعلومات وتداولها، والحقيقة أن تطور التدوين من الرسومات الحجرية إلى الكتابة بالحروف المجردة على الرقم الطينية ثم الورق وصولاً للثورة الرقمية كان نتيجة لازمة لتطور الإنسان، فالإنسان كلما ارتقى في سلم التطور ظهرت لديه أفكار جديدة وبالتالي نظريات جديدة لينتج عنها تطبيقات جديدة، وهذا الكم الهائل المتراكم من المعلومات حتّم على الإنسان ابتكار طرق أسهل وأسرع لحفظ المعلومات وتداولها، ففي العصور القديمة كان تدوين المعلومة يقتصر على عدد محدود من الناس وتداولها كان يتم ببطء، ثم تطورت الأمور في العصور الوسطى باستخدام الورق، وكان ذلك ناتجاً عن حاجة الإنسان لتدوين معلومات أكثر مما سبق تماشياً مع تطور الحياة، وكان من المتوجب تناقلها بطريقةٍ أسهل، ثم تدريجياً وصل الإنسان لتداول المعلومة خلال لحظات ليصل أخيراً لتداول المعلومة بلحظة تدوينها.

إن التدوين الالكتروني جعل كل إنسان على سطح الكرة الأرضية قادراً على تدوين المعلومة التي يعرفها وتداولها مع باقي الناس طالما أنه يمتلك وسائل التكنولوجيا الحديثة من حاسب أو هاتف ذكي.

ولكن ما مخاطر التدوين الإلكتروني أو الحفظ الإلكتروني:

إن الحفظ الالكتروني للمعلومات مكّن الإنسان من حفظ كم هائل من المعلومات في مساحات متناهية في الصغر، فلو حاولنا أن ندون معلومات محفوظة على قرص الكتروني حجمه مئة جيجا بايت مثلاً لاحتجنا لآلاف المجلدات الورقية ولملايين الرقم الطينية.

إن الانتقال التدريجي لحفظ المعلومات التي اكتسبها الإنسان عبر آلاف السنين من خلال الحافظات الالكترونية سيجعل هذه المعلومات مهددة بخطرين محدقين هما خطر الاحتكار وخطر التلف:

  • خطر الاحتكار:

إن خطر احتكار المعلومة قائم منذ القدم، فمن يستطيع القراءة والتدوين يستطيع احتكار المعلومة لنفسه، ولكن خطورة احتكار المعلومة المحفوظة الكترونياً أكبر من غيرها لضخامة حجم المعلومات المحفوظة في حيز صغير يمكن الاحتفاظ به بسهولة وبأبسط وسائل السرية، لذلك فإن الدولة القادرة على صناعة الحافظات الالكترونية وتطويرها ونشرها عبر العالم تستطيع تجميع أكبر قدر ممكن من المعلومات ومن ثم ضرب الحافظات الموجودة لدى الدول الأخرى الكترونياً من خلال برامج الفيروسات.

  • خطر التلف:

إن الخطر الداهم الذي تواجهه المعلومات المحفوظة الكترونياً هو خطر تلفها الفجائي مع عدم تمكن  الإنسان من استرجاعها، فالمعلومات المحفوظة ورقياً لا يحتاج استعراضها لأدوات مساعدة،  فالكتاب يتم فتحه يدوياً ونهل المعلومة منه، أما الحافظة الالكترونية فتحتاج لجهاز مساعد ليتم فتحها واستعراضها، وهنا تكمن الخطورة … فالحفظ الالكتروني وسرعة الوصول للمعلومة جعل من ذاكرتنا ذاكرة كسولة وسيجعلها في الزمن القادم معدومة، حتى يمكنني القول أن ذاكرة الإنسان ستضمحل لأبعد الحدود، فلا يقوى على حفظ أية معلومة طالما أنه يتأبط حافظته الالكترونية الحاوية على أية معلومة تهمه، وفي حال عدم وجودها في حافظته يمكنه التحصل عليها من حافظات الآخرين الذين يشاركهم المعلومات أو من خلال المكتبات الالكترونية الضخمة المنتشرة عبر وسائل الاتصال العالمية.

إن حفظ المعلومات الكترونياً ربما يؤدي فجأة لضياع الإرث الإنساني الذي جمعه الإنسان عبر آلاف السنين، فالورق بدأ يتراجع تدريجياً فاسحاً المجال أما التدوين الالكتروني وهكذا حتى نجد أنفسنا لا نستخدم الورق في التدوين كما حدث في اضمحلال الرقيم الطيني أمام الورق، وإذا ما حدث في يومٍ من الأيام أن كافة المعلومات التي وصلت إلينا أصبحت محفوظة الكترونياً، فإن خطر زوالها الفجائي قائم في حال حدوث كارثة كونية بفعل الإنسان أو الطبيعة وأدت إلى تدمير الأدوات التي تمكننا من تداولها، وبالتالي تتلف كافة المعلومات ولا نستطيع استردادها.

فيديو مقال التدوين (تاريخه ومستقبله)

أضف تعليقك هنا