الحراك في لبنان العراق والسودان “أزمة الشرعية وخطاب المواطنة”

مقدمة

الملاحظ في الظاهرة الحراكية لكل من السودان، لبنان والعراق، هو بروز خطاب المواطنة بقوة، وتجاوز الأداء التقليدي الذي عرفته بلدان الربيع العربي بحيث أننا أمام تطور في الظاهرة لو سلمنا أن الموجة الاولى كانت تحمل قيم جديدة في رفض شعبي كامل للانظمة الشمولية، والمطالبة بإشراك الشعب في صناعة القرار.

إلا ان التجربة السابقة سمحت بصقل العقل اللاوعي الجمعي، وشحذه بشكل تجاوز فيه الفاعل والمحرك الوجداني الإيديولوجي للعقل العربي حدود الخطاب الديني والطائفي ليس في مفهومه القيمي الذي هو ارث و ملك للشعوب العربية، بل هو تجاوز لحدود التوظيف الغير عقلاني و العاطفي للدين والعرق، بحيث اصبح الخطاب يتمحور في حقوق المواطنة و المطالبة بالتغيير الكلي لمنظومة الحكم القديمة المصابة بعجز حقيقي في الاستجابة للطموحات شعوبها.

قد تختلف طبيعة الانظمة لدول الثلاث المذكورة انفا ، فالنظام السوداني بكونه نظام جمهوري  وظف الدين في تبرير قيامه، واستمراره ، ونظامي العراق و لبنان اعتمدا ، نظام المحاصصة لتحقيق توازن عرقي و طائفي في خلق بيئة مستقرة ، فالحراك الذي تشهده هذه الدول ، حراك متميز في كونه ، رافض لكل اشكال الاستغلال للمنظومة القيمية و الايديولوجية الدينية في بناء النظام السياسي ، و بمراجعة تاريخية لهذه الدول و الاوضاع المعيشية نستطيع فهم هذا التطور في السلوك الحراكي.

لمحة عن الأنظمة السياسية المنتفض عليها

النظام السياسى اللبنانى منذ نشأته هو نظام يقوم على الطائفية ويكرسها، توزيع المناصب السياسية الرئيسية وعضوية البرلمان وتولى الوظيفة العامة يجرى وفق معادلة طائفية رسم بعض معالمها الميثاق الوطنى فى 1943 ، وعدل بعض قواعدها اتفاق الطائف فى 1989.

و في العراق ترسخت المحاصصة الطائفية والسياسية  منذ عام 2003 عندما تم تشكيل مجلس الحكم الانتقالي برئاسة الحاكم لمدني الامريكي (بول بريمر) ، ضم 25 عضواً من ممثلي الكيانات السياسية المختلفة ، وقد راعى المجلس في تشكيلته الحجم السكاني لكل طائفة وقومية ، اذ ضم 13 عضواً من الشيعة العرب و 5 أعضاء من السنة العرب و 5 أعضاء من القومية الكردية فضلاً عن عضوين اخرين لكل من المسيحيين والتركمان بالتساوي ،  وعلى الرغم من أن الدستور لم يشر إلى هذه الإجراءات ولم ينص عليها قانوناً إلا أنها باتت عرفاً ملزماً في تشكيل الحكومات العراقية المتعاقبة منذ عام 2003.

ام السودان فا في 30  يونيو 1989  تولى البشير السلطة اثر انقلاب عسكري دعمه الاخوان المسلمون ضد حكومة الصادق المهدي المنبثقة عن انتخابات ديموقراطية ، حكم السودان الى غاية الاطاحة به في 11 افريل 2019 ، و اعتمد البشير في الربط بين الدين و السياسية و تطبيق الشريعة الاسلامية في حكمه للسودان ، واجه البشير خلال 30 سنة من الكثير من  التحديات  ، و شهد حكمه انقسام السودان الى جنوب و شمال.

دوافع وأسباب الحراك

تصاعد الاحتقان في الشارع السوداني وانطلقت موجة احتجاجات بدءًا من 19 ديسمبر/كانون الأول 2018 في بعض المدن بسببِ ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة وتدهور حال البلد على كلّ المستويات، وامتدت لتصل العاصمة الخرطوم في 20 ديسمبر وتطورت المطالب لإسقاط نظام البشير . اما في لبنان فان الاحتجاجات بدأت على اثر زيادات في تسعيرات ، فرضتها وزارة الاتصال ، كانت الشرارة لغضب شعبي ، على الوضع العام ، لازمة بنيوية في السياسة و الاقتصاد . ام الحراك في العراق ، فهو الغضب على وضع اقتصادي مزري ، عبر عليه الشباب العراقي بدون قيادات و لا تمثيل ، تبنت شعارات اخترقت به جدار الطائفية.

الأسباب البنيوية

تعد لبنان و العراق الوحيدتين المحكومين بنظام المحاصصة الطائفي الذي افرز فشل ذريع في أدارة الدولة , و انعدام الفلسفة السياسية و الاقتصادية , و ضعف الحكومات التي تشكلت على أساس هذا النظام , حيث تولي غير الكفؤين و الانتهازيين للمناصب العليا , و ارتفاع مؤشر الفساد الإداري و المالي , المحسوبية و تردي الخدمات تحت غطاء المحاصصة و الاسوء ان المحاصصة الطائفية في العراق و لبنان ، القت بسلبياتها على المجتمع الذي تأثر بفعل الجماعات الطائفية التي كانت تعكس صراعاتها على الشارع فاستخدمت هذا الجماعات الطائفية بصراعاتها ، الوسائل الاعلامية و منابر المساجد و العشائر و الميليشيات المسلحة ، مما ادى الى زيادة الاحتقان الطائفي بين المكونات ، ترافق مع تردي للوضع الامني , و زيادة للعنف الطائفي , ارتفع معهم التعصب للطائفة على حساب الهوية الوطنية.

اذاً نظام المحاصصة هو العقبة التي تقف في طريق عملية التحول الديمقراطي و بناء دولة و مؤسسات ، كما ان نظام المحاصصة بات خطراً  يهدد الوحدة الوطنية و المواطنة  ، و لكن الشعبان العراقي و اللبناني ادركا حقيقة نظام المحاصصة الطائفية و ان كل ما جرى خلال السنوات  الماضية هو سياق فرضه النسق الدولي لاحلال نوع من الاستقرار ليس الا فالمحدد الخارجي هو الطاغي و ليس المحدد الداخلي ، وذلك في الرجوع الى الشعوب و تركها تقرر مصيرها بنفسها.

في الحالة السودانية فان وصول البشير بانقلاب عسكري  للحكم ، متحالفا مع حسن البشير الذي انقلب عليه مستقبلا ، يرجع الى القراءة الخاطئة لإشكال الهوية في السودان ، و الرد الصلب على متمردي الجنوب ، و إغلاق العملية السياسية و اتجاه نظام البشير الى الشمولية و الإقصاء ، و التوظيف السيئ للدين و الهوية، كان وراء كوارث مثل الانقسام ، الفساد ، و غيره من الآفات السياسية.

ختــــــاما

فقدان النظام لحاضنته الاجتماعية ولأدوات الهيمنة  بتعبير المفكر السياسي أنطونيو غرامشي هو الدافع الرئيسي لهذه الاحتجاجات فان الانظمة العربية ، و بتعقيداتها البنيوية ، لم تستطيع فك شفرة الشرعية ، و بناء انظمة لها استمرارية ذاتية تستمد قوتها من شعوبها ، فالنخب السياسية في العالم العربي مطالبة ، باعادة النظر في كيف حكمت بلدانها و التعمق في الاسباب الحقيقة لهذه الظاهرة و ليس بالاكتفاء بنظرية المؤامرة.

فالوحدة الاساسية والحجر الاساس هو الحاضنة الشعبية وكسب رضى الشعوب ليس بالخطابات الهوياتية و الشعبوية، بل عمل عميق و قاعدي يعتمد في الاساس على علاج المشاكل الحقيقية للشعوب و اشراكها في التنمية و دفعها لخوض معارك المواطنة الحقيقية ، في بناء اقتصاد قوي و تقوية الجبهة الاجتماعية.

فالشباب المنتفض في البلدان العربية ، يريد وطن يعيش فيه باحترام و يضمن سبل العيش الكريم  لا ان تأخذه النخب الى المعركة الخطأ بجهلها بواقعها ، و محيطها ، أيا تكون نهاية الحراك السياسى الحالى فى كل من لبنان والعراق، والسودان فلا شك أنه أصبح يمثل نقلة مهمة فى وعى المواطنين حول مدى صلاحية الصيغ الطائفية و الهويتية التى تقوم عليها انظمتها السياسية فى علاج الأزمات المعاشة ، و ان شعوبها تحررت من الوصاية مهمها كان مصدرها ، و ان الارث الديني و الهوياتي غير قابل للمزايدة و الاستغلال السياسي.

فيديو مقال الحراك في لبنان العراق والسودان “أزمة الشرعية وخطاب المواطنة”

أضف تعليقك هنا