القضاء والقدر من خلال القرآن الكريم

مقدمة

إن الحمد لله نحمده ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدي الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

أما بعد

فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

ثم إن من نعم الله على هذه الامة أن أكمل لها دينها وأتم نعمته عليها ورضي لها الإسلام دينا. قال تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير).

وفي الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم ” كتب الله مقادير الخلائق “.

أهمية موضوع القضاء والقدر

تتجلى أهمية موضوع القضاء والقدر على النحو التالي:

  1. ارتباط القضاء والقدر بالإيمان بالله: فالقدر قدره الله والمؤمن به مؤمن بقدره الله، والمكذب به مكذب بقدره الله _ عز وجل _ ولارتباطه بحكمة الله _ عز وجل _ وعلمه، ومشيئته، وخلقه.
  2. كثرة ورود القضاء والقدر في أدلة الشرع: فنصوص الكتاب والسنة حافلة ببيان حقيقة القدر، وتجليته أمره، وإيجاب الإيمان به.
  3. ان القضاء والقدر من الموضوعات الكبرى، والتي خاض فيها جميع الناس على اختلاف طبقاتهم وأديانهم، والتي شغلت أذهان الفلاسفة، والمتكلمين واتباع الطوائف من أهل الملل وغيرهم.
  4. ارتباط القضاء والقدر بحياة الناس وأحوالهم، فهو مرتبط بحياتهم اليومية وما فيها من أحداث وتقلبات ليس لهم في كثير منها إرادة أو تأثير _ ولو لم يكن هناك إلا مسألة الحياة والموت، وتفاوت الناس في الأعمال والمواهب، والغنى والفقر، والصحة والمرض، والهداية والإضلال _ لكان ذلك كافيا في أن يفكر الإنسان في القضاء والقدر.
  5. القضاء والقدر باب من أبواب العقيدة، فمع أن باب القدر معلوم بالفطرة _ كما مر _ وأن نصوص الشرع قد بينته غاية البيان إلا أنه يظل أعوص أبواب العقيدة، فدقة تفاصيله، وتشعب مسائله، وكثرة الخوض فيه، وتنوع الشبهات المثارة حوله، يوجب صعوبة فهمه، وتعسر استيعابه.

المبحث الأول: تعريف القضاء والقدر لغة واصطلاحا وإطلاقاته

أولا: القضاء في اللغة

القضاء هو الحكم والحتم، وأصله القطع والفصل وقضاء الشيء وأحكامه والفراغ منه، رحمه الله – في مادة (قضى): القاف، والضاد، والحرف المعتل – أصل الصحيح يدل على إحكام أمر، وإتقانه لجهته.

وقال ابن فارس (قال الله تعالى – (فقضاهن سبع سماوات في يومين) (سورة فصلت:12) أي أحكم خلقهن،” فقضاهن” الضمير يرجع الى السماء لأنها في معنى الجمع الآيلة إليه، أي صيرها “سبع سماوات في يومين” الخميس والجمعة فرغ منها في آخر ساعة منه، وفيها خلق آدام ولذلك لم يقل هنا سواء، ووافق ما هنا آيات خلق السماوات والأرض في ستة أيام ” وأوفى في كل سماء أمرها ” الذي أمر به من فيها من الطاعة والعبادة ” وزينا السماء الدنيا بمصابيح ” ” بنجوم ” وحفظا ”.

ثانيا: القدر في اللغة

القدر مصدر الفعل قدر يقدر قدرا، وقد تسكن داله.

قال ابن فارس: في مادة(قدر): القاف، والدال، والراء، أصل صحيح يدل على مبلغ الشيء وكنه، ونهايته، فالقدر مبلغ كل شيء، يقال: قدره كذا أي مبلغه.

والقدر محركة القضاء، والحكم، وهو ما يقدره الله عز وجل من القضاء، ويحكم به من الأمور والتقدير: التروية، والتفكير في التسوية أمر، والقدر جمعها أقدار.ان التقدير تستعمل في أفعال العباد ولا يستعمل القدر إلا في أفعال الله عز وجل، والفرق بين القدر والتقدير – كما يقول أبو هلال العسكري.

ثالثا: القضاء والقدر في الاصطلاح

هناك من عرف القضاء، والقدر بعمومه من دون الإشارة الى مراتبه أو أركانه ومنهم الجرجاني رحمه الله: عرف القضاء بقوله ” عبارة عن حكم الكلي الإلهي في أعيان الموجودات على ماهي عليه من الأحوال الجارية في الأزل الى الأبد .

ويمكن أن يعرف القضاء والقدر بأحد التعريفات التالية:

هو ما سبق به العلم، وجرى به القلم مما هو كائن الى الأبد، وأنه عز وجل قدر مقادير الخلائق، وما يكون من الأشياء قبل أن تقع في الأزل .ويمكن ان يعرف القضاء والقدر تعريفا مختصر فيقال: هم علم الله بالأشياء، وكتابته، ومشيئته، وخلقه لها.

  • يطلق القضاء في القرآن الكريم على إطلاقات عديدة منها:
  • الوصية والأمر: قال تعالى (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) (سورة الاسراء:22)، أي أمر وأوصى، قال مجاهد (وقضى) يعني وصى وكذا قرأ أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود والضحاك بن مزاحم ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ولهذا قرب بعبادته بر الوالدين فقال (وبالوالدين إحسانا) أي وأمر بالوالدين إحسانا.
  • الاخبار: قال تعالى (وقضينا الى بني إسرائيل في الكتاب) (سورة الاسراء:4) يقول تعالى: إنه قضى الى بني إسرائيل في الكتاب، الذي أنزله عليهم أنهم سيفسدون في الأرض مرتين ويعلون علوا كبيرا، أي يتجبرون ويطغون ويفجرون على الناس كما قال تعالى (وقضينا إليه الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين.
  • الفراغ: قال تعالى (فإذا قضيتم مناسككم) (البقرة:200)، يأمر تعالى بذكره والاكثار منه بعد قضاء المناسك وفراغها وقوله: (كذكركم آباءكم) اختلفوا في معناه، فقال ابن جريح، عن عطاء: هو كقول الصبي” أبه أمه” يعني: كما يلهج الصبي بذكر أبيه وأمه فذلك أنتم، فالهجوا بذكر الله بعد قضاء النسك، وقال (فإذا قضيتم الصلاة)  (سورة النساء:102) يأمر الله تعالى بكثرة الذكر عقيب صلاة الخوف وإن كان مشروعا مرغبا فيه أيضا بعد غيرها ، ولكن هاهنا أكد لما وقع فيها من التخفيف في أركانها، ومن الرخصة في الذهاب فيها والإياب وغير ذلك، ولهذا قال تعالى(فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم)، أي سائر أحولكم.
  • الفعل: قال تعالى (فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) (سورة طه: 72)، أي فافعل ما شئت وما وصلت إليه يدك، (إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) أي: إنما لك تسلط في هذه الدار، وهي دار الزوال ونحن قد رغبنا في دار القرار.
  • الوجوب والحتم: قال تعالى (قضى الامر الذي فيه يستفتيان) (سورة يوسف: 41)، رواه محمد بن فضيل عن عمارة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود به، وكذا فسره مجاهد، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وغيرهم. وحاصله أن من تحلم بباطل وفسره، فإنه يلزم بتأويله، والله أعلم، وقد ورد في الحديث الذي رواه الامام أحمد، عن معاوية بن حيدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ” الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت ” وفي مسند أبي يعلى، من طريق يزيد الرقاشي، عن أنس مرفوعا: ” الرؤيا لأول عابر”.
  • الكتابة: قال تعالى (وكان أمرا مقضيا) (سورة مريم: 21)، يحتمل أن هذا من كلام جبريل لمريم، يخبرها أن هذا أمر مقدر في علم الله تعالى وقدره ومشيئته. ويحتمل أن يكون من خبر الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأنه كنى بهذا عن النفخ في فرجها، كما قال تعالى: (ومريم ابنة عمران التي احصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا) (سورة التحريم:12).
  • الاتمام: قال تعالى (فلما قضى موسى الاجل) (سورة القصص: 29)، أي: الأكمل منهما، والله اعلم. قال ابن أبي نجيح، عن مجاهد: قضى عشر سنين، وبعدها عشرا أخر. وهذا القول لم أراه لغيره، وقد حكاه عنه ابن جرير، وابن أبي حاتم، والله اعلم، وقال تعالى: (أيما الاجلين قضيت) (سورة القصص:28)، يقول: إن موسى قال لصهره: الأمر على ما قلت من أنك استأجرتني على ثمان سنين، فإذا أتممت عشرا فمن عندي، فأنا متى فعلت أقلهما فقد برئت من العهد، وخرجت من الشرط، ولهذا قال (ايما الأجلين قضيت فلا عدوان علي).
  • الفصل: قال تعالى (وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون) (سورة الزمر:69)، أي بالعدل (وهم لا يظلمون) شيئا.
  • الخلق: قال تعالى (فقضاهن سبع سماوات في يومين) (سورة فصلت:12)، أي: ففرغ من تسويتهن سبع سماوات في يومين، أي: آخرين، وهما يوم الخميس ويوم الجمعة.
  • القتل: قال تعالى (فوكزه موسى فقضى عليه) (سورة القصص:15)، قال مجاهد: وكزه، أي: طعنه بجمع كفه. وقال قتادة: وكزه بعصا كانت معه. (فقضى عليه) أي: كان فيها حتفه فمات، قال موسى (هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين).

يطلق القدر في القرآن الكريم على عدة إطلاقات منها:

  • التضييق: قال تعالى (وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن) (سورة الفجر:16)، وكذلك في الجانب الآخر إذا ابتلاه وامتحنه وضيق عليه في الرزق يعتقد أن ذلك من الله إهانة له.
  • التعظيم: قال تعالى (وما قدروا الله حق قدره) (سورة الأنعام:91)، يقول تعالى: وما عظموه الله حق تعظيمه، إذا كذبوا رسله إليهم، قال ابن عباس ومجاهد وعبد الله بن كثير: نزلت في قريش. واختاره ابن جرير، وقيل: نزلت في طائفة من اليهود، وقيل: في فنحاص رجل منهم، وقيل: في مالك بن الصيف.

ثم قال بعضهم: نزلت هذه الآية الكريمة في المشركين، كما قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح حدثنا الحسين بن واقد عن يزيد عن عكرمة والحسن البصري قالا (قال تعالى) (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) إلى (ان الله غفور رحيم) نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم من قبل أن تقدروا عليه، لم يكن عليه سبيل تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد، إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله، ثم لحق بالكفار قبل أن يقدر عليه، لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصاب.

ورواه أبو داود والنسائي من طريق عكرمة عن ابن عباس: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا) نزلت في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصابه.

  • التدبر: قال تعالى (فقدرنا فنعم القادرون ويل يومئذ للمكذبين) (سورة المرسلات:23)، أي دبرنا الأمور. (ويل يومئذ للمكذبين) أي ويل لمن تأمل هذه المخلوقات الدالة على عظمة خالقها ثم بعد هذا يستمر على تكذيبه وكفره.
  • تحديد المقدار، او الزمان، أو المكان: قال تعالى (وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمين) (سورة سبإ:18)، أي جعلناها بحسب ما يحتاج المسافرون إليه، (سيروا فيها ليالي وأياما آمين) أي: الأمن حاصل لهم في سيرهم ليلا ونهارا.
  • الإرادة: قال تعالى (وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر) (سورة القمر:12)، أي نبعث جميع أرجاء الأرض حتى التنانير التي هي محال النيران نبعث عيونا “فالتقى الماء” أي من السماء والأرض “على امر قد قدر” أي أمر مقدر.
  • القضاء والأحكام: قال تعالى (نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين) (سورة الواقعة:60)، ثم قال: (نحن قدرنا بينكم الموت) أي: صرفناه بينكم.

وقال الضحاك: ساوى فيه بين أهل السماء والأرض.(وما نحن بمسبوقين) أي: وما نحن بعاجزين.

  • الصنع بمقادير معينة: قال تعالى (قوارير من فضة قدروها تقديرا) (سورة الانسان:16)، وقوله: (قوارير قوارير من فضة) فالأول منصوب بخبر” كان ” أي: كانت قوارير. والثاني منصوب إما على البداية أو تمييز، لأنه بينه بقوله: (قوارير من فضة)

قال ابن عباس ومجاهد والحسن البصري، وغير واحد: بياض الفضة في صفاء الزجاج، والقوارير لا تكون إلا من زجاج، فهذه الاكواب هي من فضة، وهي مع هذا شفافة يرى ما باطنها من ظاهرها، وهذا مما لا نظير له في الدنيا.

المبحث الثاني: العلاقة بين القضاء والقدر

وقع الاختلاف في التعبير عن العلاقة بين القضاء والقدر في كلام السلف رحمهم الله، إذا تباينت اقوالهم في تحديد ذلك، وللعلماء في التفرقة بين القضاء والقدر أربعة أقوال:

الأول: القضاء هو العلم السابق الذي حكم الله به في الأزل

القدر وقوع الخلق على وزن الامر المقضي السابق يقول ابن حجر العسقلاني وقال العلماء هم الحكم الكلي الإجمالي في الازل، والقدر الجزئيات ذلك الحكم وتفاعله وقال في موضع آخر القضاء الحكم بالكليات على سبيل الإجمالي في الأزل. والقدر الحكم بوقوع الجزئيات التي لتلك الكليات على سبيل التفصيل.

الثاني: عكس القول: القدر هو الحكم السابق والقضاء هو الخلق

والفرق بين القضاء والقدر: القضاء حكم لا إرادة لي فيه، ولكن القدر هو ما قدرت أن يحدث كذا فتأتي الأمور على وقف التقرير فإذا كتب وزير الزراعة تقريرا عن القطن فقال أننا نزرع عدة كذا فدانا وحالة الفدان كذا متوسط انتاج الفدان كذا. فتقدر أن يكون انتاج هذا العام كذا قنطارا، فهو يقدر أنه علم وعلمه قد يصيب وقد يخطىء لظروف لم تكن في الحسبان، ولكن حين يقدر الله سبحانه وتعالى، فلن يغيب عنه أمر، فتأتي الأمور في الكون على وفق ما قدره الله، فالقضاء أمر لا اختيار لي فيه كالمرض والموت، وعندما يقدر الله أن أفعل كذا في أمر اختياري فهو لم يجبرني على فعله ولكنه قدر، وعلم أزلا أنني سأختار هذا الطريق.

الثالث:

ذكر بعض العلماء ان القدر بمنزلة المعد للكيل، والقضاء بمنزلة الكيل، وهذا كما قال أبو عبيدة لعمر رضي الله عنه لما الفرار من الطاعون، قال: (افر من قضاء الله الى قدر الله).

الرابع:

قول الماتريدية، وقد فرقوا بينهما: بأن القضاء هو خلق الراجع الى التكوين، أي الايمان على وفق القدر السابق، والقدر هو ما يتعلق بعلم الله الازلي، وذلك يجعل الشيء بالإرادة على مقدار محدد قبل وجوده.

القول الخامس والسادس:

قول الاشاعرة وجمهور اهل السنة

  1. ان القضاء هو إرادة الله الازلية المتعلقة بالأشياء على وفق ما توجد عليه في وجودها الحادث .
  2. II. القدر إيجاد الله الأشياء على مقاديرها المحددة في كل ما يتعلق بها.

بقلم: محمد ياسين باعقا

 

أضف تعليقك هنا