الواقع بين الفلسفة والفيزياء

التاريخ الفلسفي

بالعودة إلى الوراء ، تحديداً إلى القَرن السادسَ قبل الميلاد كان ” طاليّس ” مُنهمكاً بفكره و هو يحاول تمهيد الأنطلاق الجَدي و التاريخي للفلسفة ، هذا التمهيد لم يكُن مُمكناً بدون طرح سؤال، خاصةً و نحن نتعلم من القُدماء بأن السؤال أهم من الإجابة ، لذلك إجتمع مُفكري تلك الفترة مُحاولين الإجابة عن السؤال المُتعلق بأصل الوجود ، و تفسير آراءهم التي تعددت حول هذه المسألة.

فإذا كان ” طاليّس ” نفسه يؤكد بأن أصل الوجود هو الماء ، كان تلميذه ” أنكسيمانس ” يعتبر بأن ” الأبيرون ” هو أصل الوجود ، كل هذه الأفكار تُعبر عن حقيقة واحدة تتمثلُ في كون كُل ما قيل سابقاً _ أي في بداية و نشأة الفلسفة _ كان يتمحور حول الوجود الذي من خلاله يُصبح الإنسان موجود . إن هذا الوجود لا يمكن لأي إن كان وصفه فما بالك تفسيره.

أصل الوجود 

لكن ما يُثير إعجابنا من تلك الفترة هو تأكيد ” فيتاغور ” على أن أصل الوجود هو ” العدد ” ، هذه الفكرة التي نجدها نفسها أو لنقل نجدُ مثيل لها في القرن السابع عشر مع الفيزيائي الإيطالي ” غاليلو غاليلي ” الذي يؤكد بأن الطبيعة هذه كُتبت بلغة الرياضيات ، أي أن الرياضي وحده قادر على فهم هذا الكون و كل ما يحدث في أرجاءه من ظواهر و أحداث ، و من هٌنا إنشق عقل الباحث عن الإجابة المُهمة المُتعلقة بأصل الوجود إلى نصفين ، شقٌ يريد من الفلسفة مُساعدته و قيادته نحو الحقيقة و شقٌ يريد من الفيزياء بنظرياتها و مُعادلاتها الرياضية أن تُخمد حريق فضوله هذا.

من المؤكد أن كل من يبحث عن أهم الحقائق و أدق التفاصيل التي تقبعُ في أعماق كوننا هذا _ الذي يُعرفه ” كارل ساغان ” بأنه :” كُل ماهو موجود و ما وجد و ما سيوجد ” _ سيجد نفسه جامعاً بين الفيزياء و الفلسفة في آن واحد ، و بهذا الجمع يكون قد تقدم درجة و درجات في سبيل الإجابة عن أهم سؤال في عصرنا هذا وهو سؤال: ما طبيعة هذا الواقع الذي نحيّاه و نعيش فيه ؟ و بصفة أدق : كيف نفكك شفرته ؟ و هذا السؤال مُشابه لما كتبه أستاذ الفيزياء ” فلاتكو فيدرال ” _ كعنوان لكتابه الهام _ ” الواقع الذي نحياه ،،،، و كيف نفكك شفرته”.

اجتماع الحضارات لمعرفة الواقع وحياة السماء

لقد إجتمعت الحضارات مُنذ القدم أي منذ الحضارة البابليّة و المصرية ، الهندية و كذلك اليونانية من أجل معرفة الواقع و كل ما يقع في حياتنا البسيطة هذه و كذلك كُل ما يقع في حياة السماء ، و لئن هذه المعرفة تُمثل الحياة فإن الوسائل التي إتبعها القدماء إقتصرت على السحر و مراقبة السماء دون إستمرار ، لهذا كانت أراء السابقين حول هذا الكون إما خُرافة و إما ينقصها الكمال ، فرحلة إكتشاف أسرار الكون هذا و معرفة أهم التفاصيل الدقيقة التي تُشكل واقعنا عرفت عدة عراقيل و صعوبات.

فمثلاً و من أجل معرفة حجم كوكبنا الصغير إضطر العلماء المُسلمين في القرن الثامن ميلادي إلى تسلق أعالي الجبال و المشي في الصحراء القاحلة لمئات الكيلومترات ، كذلك أمر ” تيكو براهي ” الذي لم تُنهكه الليالي و هو يُراقب حياة النجوم في مضيق ” هفن ” بالدنمارك ليُصبح بعد ذلك أعظم مراقب في تاريخ ” علم الفلك ” ، هذا العلم الذي عرف تغييراً جذرياً مع البولوني ” نيكولاس كوبرنيكوس ” و كتابه ” حول دوران الأجرام السماوية ” ( De Revolutionibus Orbium Coelestium ) الذي نشر سنة 1543.

و هذا التاريخ الذي حوّل الشمس إلى مركز النظام بعد أن كانت الأرض هي محور الكون مع ” بطليموس ” و ” أرسطو ” و لابد هنا من الإشارة بأن هذه الأراء الجديدة لكوبرنيك سبقهُ من قبله العالم المُسلم ” إبن شاطر ” و كذلك ” إبن رشد ” الذي لم يكن مُقتنعاً حق إقتناع الأفكار الفلكية لبطليموس.

المعرفة العلمية

إن التهليل بهذا الواقع الجديد الذي يضع الشمس في مكانها العلمي المُناسب يضع فيه الفلكي الألماني ” يوهانس كبلر ” بصمتهُ من خلال قوانينه الثلاثة _ التي ساهمت أفكار ” تيكو براهي ” في صياغتها _ و هذه القوانين تُحدد المسافات بين الكواكب و تحدد سرعتها بالإضافة إلى أنها تدرس العلاقة بين الكواكب و الشمس ، و كل هذه الإنجازات العلمية سيستفيد منها أشهر فيزيائي بريطاني على مر التاريخ.

و هو من دون أدنى شك ” إسحاق نيوتن ” الذي من خلاله نتأكد بأن :” المعرفة العلمية لا يمكن بناءها إلا تدريجياً ” فنيوتن أخذ المنجم العلمي السابق لعصره من أجل دراسته و الإستفادة منه و هذا المنجم نجد فيه أفكار ” غاليلي ” و ” كبلر ” مثلاً ، و قد أثمرت هذه الدراسة العلمية على إكتشاف عدة حقائق فيزيائية جديدة تُساعدنا على فهم الواقع ، فسنة 1666 بإمكاننا أن نُطلق عليها سنة تفحص مفهوم ” الجاذبية ” عن قرب.

قانون الجاذبية الكونية

ومن خلال كتابه” المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية ” _ و الذي نشر لأول مرة سنة 1687 بتمويل خاص من الفلكي العظيم ” إدموند هالي ” _ تمكن نيوتن من الإجابة عن أهم الأسئلة العلمية التي تتعلق بالجاذبية من خلال وضع ” قانون الجاذبية الكونية ” الذي يربط حياة البشر أي حياتنا اليومية بالحياة السماوية ، حياة الكواكب و النجوم ، و كل هذه الأفكار تساهم في نقل علم الفيزياء نحو التطور.

كذلك و نحن نتحدث عن أهم كتاب علمي في تلك الفترة لابد أن نتحدث عن القوانين الثلاثة المتعلقة بالحركة التي وضعها نيوتن و فسرها بطريقة مُبسطة للغاية ، و من خلال هذه القوانين فإننا نعيش واقعاً فيزيائياً جديد تكون فيه الأفكار النيوتنية بمثابة أجوبة طال إنتظارها منذ مدة طويلة . لقد خلّص نيوتن الواقع من كل تلك الأفكار السحرية حينما أكد بأن الدقة التي تحكم الكون لم تكن محل صُدفة بل أنها سر من أسرار الطبيعة.

مفهوم الحتمية

و من هنا يحقُ لنا القول بأن هذا النظام الذي نجده في الطبيعة هو نظام نيوتن لا غير حيث تسيطر على أرجاءه ” الميكانيكا ” لتفسر للجميع ما يحدث فيه من ظواهر . إن الأفكار النيوتنية حول هذا الكون و كذلك النظام الميكانيكي الذي يسيطر على أرجاءه هو ما يجعل من عالم الرياضيات ” بيار سيمون لا بلاس ” يُحتم هذا الكون ، أي أن مفهوم ” الحتمية ” ( déterminisme) سيصبح المفهوم الأساسي الذي نربط به أحداث هذا العالم الذي لا يمكن له أن يكون فوضوي.

إن الصورة الواضحة لكوننا بإمكاننا رسمها الآن لتظهر لنا في شكل ألة ضخمة يسيطر عليها مفهوم ” الصرامة ” و هذا التمشي يجعل من لا بلاس يؤكد بأنه ينبغي أن يكون ثمة مجموعة من القوانين العلمية التي تسمح لنا بالتنبأ بأي شئ يحدث في هذا الكون.

الواقع والطبيعة ومايحدث بهما

أي أنه بإمكاننا الآن معرفة ما سيحدث في الواقع و في الطبيعة مُستقبلاً من خلال الحاضر ، أي أن هذا الواقع الذي نعيش فيه أصبح مع لابلاس قابلاً للتكهن في جميع الأوقات و الأماكن على الرغم من أن عالمنا الذي نعيش فيه يحتوي على ظواهر مُتقلبة دائماً ما كانت مصدر إزعاج و قلق للعلماء الفيزيائيين و الرياضيين و كذلك الفلاسفة . إن الأفكار التي يُدافع عنها لابلاس و قبله نيوتن و علماء أخرين سيجعل من مفهوم ” السببية ” ( Causalité ) ذلك المفهوم الهام الذي به و من خلاله نصِفُ العالم.

طالما أن كل الظواهر التي نجدها في الطبيعة تخضع لسبب و نتيجة و هذه النتيجة ستكون سبب لنتيجة أخرى و هنا يؤكد ” رودلف كارناب ” هذا الكلام قائلاً :” تكشف لنا المشاهدات التي نصادفها في الحياة اليومية و أيضاً في المشاهدات الأكثر إنتظاماً في العلم ، عن تكرارات و إنتظاماً في العالم ، فالنهار يتبع اليل دائماً و تتعاقب الفصول بنفس النظام و النار تحرق دائماً و تتساقط الأشياء عندما نتركها ” هكذا تشكل الواقع بمفاهيم عدة مثل ” الميكانيكا ” ” الصرامة ” و ” الحتمية ” ليأتي ” ألبرت أينشتاين ” فيما بعد و يُعدل عدة مفاهيم في الأفكار النيوتنية من خلال ” النظرية الخاصة والعامة للنسبية ” التي نأمل أن نتعمق فيها أكثر في المقال القادم .

فيديو مقال الواقع بين الفلسفة والفيزياء

 

أضف تعليقك هنا