دم وتراب

أيهما أهم التراب أم الدم؟

في غرفة مكتبي، وبين أوراقي والعديد من الملفات التي تتناثر من حولي، وتحت إضاءة مناسبة أستعين بها على النظر في أوراقي، وخلف ظهري وسادة أستعين بها على طول البقاء على مكتبي، خاصة وقد ضعف من البصر، وانحنى من الظهر، جاءتني بخطواتها الهادئة، وبقدميها الصغيرتين ترفع إحداها وتضع الأخرى، وبجسدها الصغير تعلو ظهري وتتسلق كتفيَّ، وبراحتيها الناعمتين تغمض عينيَّ، قائلة: من يغمض عينيك؟ هل تجبني؟ وكل ظنها أنني لا أعلمها، ولن أصل إلى تخمين من تكون، فقلت لعلك: كذا، قلت لا، قل: إذن أنت…. وبصوتها الرقيق تسألني في براءة الأطفال: أبت، أيهما أهم؟ ألتراب أم الدم؟

وفي لحظة اندهاش من سؤالها، وعجب لمقالها، ابتدرتها بمثل سؤالها …. وأنت ماذا ترين؟ أيهما أهم؟ ألتراب أم الدم؟ قالت بصوت عذب؛ تسكن بين حروفه الطفولة بكل جمالها، وبين كلماتها الرقة بكل معانيها: الدم يا أبت أغلى ما لدى الإنسان، هكذا أخبرتنا معلمة العلوم، فقد أوضحت أن جسم الإنسان يعتمد في العديد من وظائفه في الغذاء والحركة والعمل على الدم الذي يسري في عروقه، وينبض به قلبه.

الإنسان والحياة

قلت: صدقت، وصدقت معلمتك، الدم إكسير الحياة، يسري في عروقه، لا حركة للإنسان بدونه، ولا قيمة له من غيره، يمنحه القدرة على العمل، والنشاط في الحركة، والقوة والجهد والكثير مما لا غنى للإنسان عنه، لو توقف عن الجريان لحظة واحدة لفارق الحياة من توه، ولغاب عنه الوعي إن لم تكن النجدة لإنقاذه، والسرعة في علاجه، لكن التراب ليس به من ذلك شيئًا، بل هو يؤذي بدن الإنسان وثيابه، وقد يصيب بدنه بالعديد مما يلوث بيئته، من غبار وأتربة تحمل معها ما لا يمكن عده من جراثيم تقتل الإنسان أو تمرضه …. أترين يا بنيتي ما قلته صوابًا؟ قالت: ومن غيرك يقول الصواب يا أبت؟!

التراب هو أغلى ما في الوجود

وبضحكة عالية مدوية، أرسلتها من صدري، وبذراعي القويتين أخذت ألفها من وراء ظهري، وأحيط بجسدها النحيل، وأمسكها بيدي، بعد أن نجت عيني من يديها الصغيرتين، وقلت لها: بنيتي حبيبتي …. لكنك لم تنتبه إلى أن التراب هو أغلى ما في الوجود، وهل خلق الله الإنسان إلا من تراب، خلق أبانا آدم بيديه من حفنة من تراب الأرض، شاءت إرادته أن يعمرها وذريته، ووهبه فيها الخلائق كلها: حيوانًا ونباتًا و….. وسكنها فصارت له وطنًا وموطنًا.

أعلمت يا بنيتي …ماذا يعني التراب بالنسبة للإنسان؟ هو جسده الذي يعيش فيه، ووالداه اللذان كانا سر وجوده، وإخوانه وأهله و…. إنه وطنه الذي يسكنه ويعيش عليه ويحيا بين جنباته …. وهل للدم قيمة بغير التراب؟! ذلك الذي منه طعامُه وغذاؤه، وماؤه وشرابه.

الوطن 

التراب – يا بنيتي – هو “وطن” …. كلمة من أحرف ثلاثة، لكنها حوت ضمن حروفها: وفاء بحقوقه، وطموح في رفعته، ونور يسكن أرضه، “وطن” …. لا يحيا الإنسان إلا به، ويحيا هو بغيره، “وطن” …. على قدر عطائك لرفعته، وولائك لقيمه يعطيك تقديرًا بين الخلق، ورفعة بين البشر.

ومن مثل بلادي رفعة، ومن في مثيلها شموخًا وعزة، ليس على وجه الأرض أطهر منها بقعة، ولا أعظم منها تاريخًا، ولا أشرف منها مجدًا وسؤددًا، حوى تربها أعظم الخلق، ومشى على ثراها سيد الأمم، وتوسط بيت الله أرضها، ورفرفت راية التوحيد على جنباتها، ولم تطاوع نخلة العز شدة رياح الغدر ولم تنحنِ، وأبى سيف الحق إلا القضاء على أعدائه في حزم لا يلين … لا حد له، وفي عزم لا يفتر … لا منتهى له.

ولقد ذكرت حين لم أنس قول من قال:

وَطــــنِــــي أحِـــبُّـــكَ لاَ بَــدِيــــــلْ.

أتُـــريــــدُ مـِنْ قَـــــوْلِي دَلِــــــيـــلْ.

سَـــيَــــضَلُّ حُبُّـــــكَ فِــــي دَمِـــي.

لَا لَــــنْ أَحِـــــــيدَ ولَنْ أَمِـــــــــيلْ.

سَيَضَلُّ ذِكــــــــرُكَ فـــــي فَمِــــي.

وَ وَصِــــيَّــــــتِـــي فِي كُــــلِّ جِيلْ.

حُبُّ الوَطَـــــن لَيْسَ إدِّعَـــــــــــــاءْ.

حُبُّ الوَطَـــــــــنِ عَمَـــــــــــلٌ ثَقِيلْ.

بلادي حياتي

ومن مثل بلادي في كل نازلة لأهل الأرض تشمرُّ، وفي كل ضائقة بالعالم تفرِّج، هي …. حياتي من جمالها، وروحي من هواؤها …. ترابها وتبرها …. سهولها وجبالها …. وديانها وبحارها …. أرضها وسماؤها …. شعبها وتاريخها …. ملوكها وأمراؤها …. دنياها ودينها … هي روحي ودمي، وهل يكون الدم بغير تراب …. أفهمتي يا حبيبتي …؟

فيديو مقال دم وتراب

أضف تعليقك هنا