سفر بلا حقائب

تنتابني منذ المراهقة رغبة مرَضية في السفر الدائم، لكن ما زَادُ تلك الرغبة الملتهبة؟زادُها هو حقيقة أن ليس لدي مركزا لحياتي، نقطةٌ أدور حولها كالدرويش الممسوس بعشق المطلق، أو كفراشة الليل التي تحترق لأجل ضوء ما،كل ما يشدني الآن غصبا تم فرضه علي دون اختياري.

تصورات عن هويتي الحقيقية

أسرة (أقدرها رغم كل شيء)، عمل بخس دون قيمة، مكعبات إسمنتية وسقف، جسد مريض، أشخاص بالجملة، أفكار ضيقة بقدر ضيق الأمكنة التي تستهلكني، والتزامات تنتزعني من السرير دون أن أختارها، عكس هذه الحالة التي لا أملك معيارا لتصنيفها، فإن الكائنات تدور جميعا حول محور معين لوجودها، الفَراشات الليلية حول الضوء، الصوفي حول الله، الإنسان حول بعضه البعض، الأرض حول الشمس، المجرة تدور في الكون، الكون حول لا أدري ماذا، كانت لدي دائما تصورات عن هويتي الحقيقية.

زائر لايقيم في أي مكان

زائر لايقيم في أي مكان، حلم رومانسي تافه ربما في أعين الآخرين، لكن الآخرين لا يختنقون معي داخل كل هذه الجدران، داخل هذا الجلد، ذلك الحلم هو بالضبط ما كنت أتصور نفسي فيه، بعد أن فشلت في ألا أكون مثل باقي الحيوانات المنوية التي تم مسحها في الغطاء، كان لدي أمل مسيحي في الخلاص عبر السفر على القدمين، إلى أن ينتهي جسدي وأسقط في وادي أو من سفح شاهق وتغمرني الأرض، الطين أو الماء، فأنتهي وأتحلل في الطبيعة وتتغذى الديدان من بقايا جلدي وعظمي.

لا يمكنني أن أدور حول أي مبدأ أو شخص أو شعور

لا يمكنني أن أدور حول أي مبدإ أو شخص أو شعور، حتى وإن كان هذا الشعور أو الغريزة مثل الأمل في السعادة،إن سخافة هذا التمني مضحكة لجميع من أخبرتهم به في قالب« المزاح »، لكنه بالضبط ما يجعلني أستمر بالانفصال عن واقعي المشوه والمكرور والميت قبل أن يولد، مثل هذه التمنيات العرجاء تجعلني أنجو من صورة نفسي ومن الأشياء التي تحيط بي، ومن ثمة لا أتعلق بها ولا أتعلق بنفسي أيضا، يمكن أن أكون خائفا مثلما كل الناس خائفون من تحطم آمالهم البسيطة.

كيف لإنسان أن يكون سحريا وخرافيا في تفكيره؟

لكنني مقتنع – وهو أمر نادر الحصول – بأنني لا أحتاج إلى آمال بسيطة في الحياة، إنه نوع من سوء الطبع كسبته من جهة مجهولة، أبي ربما (الذي حصل على الأشياء البسيطة ودمّرَ طبيعتهُ الذاتية)، لم أحلم يوما بأي شيء ثابت، تلك الأشياء الجيدة التي تُسهل الحياة في انتظار الموت، والتي لا يمكن للمرء أن يسخر منها أبدا لأنها مهمة وتنقذ أغلب الناس من غربة الذات ومن عذابات الليل والوحدة ، كانت رغبتي في سن مبكر (كي لا أقول سن الطفولة)أن أغلق عيني ثم لا أكون بسبب مشاكل الأسرة البسيطة، لكن بعد أن تبينت استحالة تلك الرغبة الطريفة، تساءلت كيف لإنسان أن يكون سحريا وخرافيا في تفكيره؟.

بعد مرور عدة سنوات

بعد مرور عدة سنوات عدت إلى الخرافة والحلم والتمنّي من جديد، لكن طبعا لكل مرحلة من مراحل وعي الواقع إكراهاتها، يتمنى المرء ألا يكون، لكنه يكتشف أن الأمنية ممكنة إذا توفر لديه القدر الكافي من الشجاعة لشطب نفسه،في هذه المرحلة من التفكير في الانتحار، اكتشفت أن شطب الذات من الوجود يتطلب أكثر من رغبة في الاختفاء، على المرء أن يعيش حالة وعي قصوى توصله إلى قناعة خاطفة، خالية من الرغبة في الظهور والاختلاف، قناعة أن كل نوازع الحياة اضمحلت داخله، وهذا بالضبط ما أعجز عن صنعه بوعيي وذاتي منذ أكثر من خمس سنوات، من ثمة تأقلمَت رغبتي في ألا أكون قليلا مع النزعة الخفية التي تجعلني أستمر، دون حذف التفكير في الانتحار كحالة وعي دائمة.

السفر كوطن في انتظار حافز حقيقي لشطب النفس

كمحفز ..هذا التأقلم أدى إلى تحول تلك الرغبة في العودة إلى لحظة ماقبل الولادة ، تحولت إلى الحلم – السخيف هو الآخر – في عيش السفر كوطن في انتظار حافز حقيقي لشطب النفس: مرضٌ عضال مثلا ،وعيي مشدود إلى عيش حالة العبور كمقام دائم، إنني ثَمِلٌ بفكرة عدم الثبات في مكان ما، أطفئ الضوء وأحلم، أحادث الأصدقاء وذهني شارد في الهروب قفزا من نافذة الحياة والركض في الغابة المجاورة دون وجهة.

أراقب الأشجار من نافذة سيارات النقل وأحلم بحقيبة ظهر كبيرة وحذاء صلب، عصا وطريق طويل من الغابات والثلوج والرمال، لكن كل منحى الحياة السخيف الذي تفرضه التزامات ما بعد الولادة المتسلسلة والمترابطة يجعل الأمر أكثر بعدا من الحلم الأول، حيث يمكن للمرء ألا يكون مرة أخرى عبر الانتحار، لكنه – ومن سخافة الأمر – لا يستطيع أن يحمل حقيبته ويهرب بعيدا عن كل شيء محققا رغبته البدائية المراهقة في التنصل من ذاته والطريقة السيئة التي تنعكس بها في مرايا الآخرين.

الهذيان عن السفر والهروب من كل شيء 

إن كل هذا الهذيان عن السفر والهروب والتنصل من كل شيء (كل شيء الذي بالكاد يُوجد) انعكس في قلب كل شروط الواقع إلى نوع من إدمان معوضات صورية..السينما التي تتحدث عن الهروب والمشي في البراري حتى الموت أو « التوبة » إلى المجتمع..موسيقى عن نوع من التحرر الخيالي من قيود المجتمع، أفكار مشتتة في الكتب عن حالة البدء، من حي بن يقظان إلى روبنسن كروزو..ولكن كل شغف الفكر والصورة والفن يظل يشير إلى حقيقة واحدة ووحيدة،هي أن العالم ليس لائحة اختيار على طاولة مطعم، يمكن أن يوفر هذا المطعم/العالم بعض أنواع الطعام/العيش، في ما يكون على كل زبون.

إنسان يرغب في شيء مختلف على بساطته، غير موجود على اللائحة، أن يخادع لسانه بتخيل ذوق مكان ذوق آخر..وهكذا ، فإن هذه « القناعة » ليست حقيقة مطلقة، لأن الجميع يعتقد أنها بديهة، هي مجرد إقناع نفسي للذات بأن الاستسلام للواقع أقل ضريبة من تأجيج الرغبة عبر التخيل والحلم، لأنني بالضبط في هذه الحالة أعيش صوما حالما عما يفرض علي تماما، صوما طويلا، مهما كانت طبيعة الإفطار بعده فلن تكون بطعم عدم الوجود،

الهرب الدائم سيبقى في كل الأحوال حالة وعي صحية

لكن الهرب الدائم سيبقى في كل الأحوال حالة وعي صحية، السفر بهذا المعنى، وإن كان سفرا قصيرا فيه عودة إلى الأوتاد، أو سفرا خياليا في أحلام اليقظة، أو هذيان الكتابة ومرض القراءة، هو المطلب الثاني المتبقي بعد استحالة الانعدام، أو غياب الشجاعة الكافية للانتحار، السفر هنا في لاوعي الإنسان الذي يلفظ الحياة وتلفظه الحياة، مشجب أو منفذ أو مهرب أو تعويض عن نقص أو تنفيس بالمعنى السيكولوجي، لذلك فإني الآن – وأنا مصلوب بمسامير الواجب في أماكن محدودة.

مسافر بلا طريق وبلا حقائب

مسافر بلا طريق و »بلا حقائب »، يذكرني هذا الحال من الشرود بقصيدة « مسافر بلا حقائب » دائما، هل يوجد أتفه من أن يجعل الإنسان حياته الرتيبة مليئة بأحلام اليقظة، التي يدور معظمها حول الهروب من مدينة وقرية وغابة وصحراء إلى أخرى؟ ..أعيش دائما حالات العبور والسفر والتنصل والهروب كوعي، كشعور بالانتماء إلى اللانتماء، وحتى إن كانت هذه الحالة أو الرغبة نتيجة لاضطهاد الواقع، أو لصعوبة التأقلم، فهي الملاذ الأخير.

في ظل الفشل الذريع في الاقتناع بنقطة مركزية لوجودي، ربا أو شخصا أو مبدأ أو فكرة، لقد فقدت ربّي في سن مبكر جدا، وفقدت العلاقة ببعض الأشخاص الطيبين، الذين تعذبوا ثم ماتوا بأمراض غريبة بدون أن يرتكبوا أي ذنب، دون أدنى سبب، ومن ثمة لم يعد ممكنا –بعيدا عن سجالات الفكر والكتب واللاهوت.

أن أؤمن برب أو بأي قانون أخروي يفسر العالم ويحكمه بعدل، الأمر طبعا شبيه بالانهيارات الثلجية، فما أن سقطت اللبنة الأولى حتى توالت الأشياء في السقوط، لأنني لم أكن مدفوعا بنقد ينبع من عقيدة أخرى، فقد سقط الإيمان داخلي بأي شيء، بأي نسق، بأي شخص، بأي فكرة، بأي شعور حتّى، والآن لديّ بعض الإيمان الضعيف بأنّني أرغب في سفر كبير، في رحلة قد أجمع بعض المال طوال السنوات القادمة لأخوضها،اختبار آخر و أول ووحيد ربما، أو محاولة لإيجاد ضحية تعوّض إخفاق الرغبة في عدم الوجود، زادُ هذا السفر الخيالِي ينبضُ داخِلِي، لأنه يتغذّى من جسدِي وانفعالاتي الشعورية الحيوانية.

فيديو مقال سفر بلا حقائب

أضف تعليقك هنا