عقولنا وما بعد الإنسانية

بقلم: محمد عبد

ما معنى مصطلح ما بعد الإنسانية؟

يعتبر الفيلسوف الألماني بيتر سلوتيرجيك هو أول من صك مصطلح ما بعد الإنسانية (posthumanism) وذلك بحدود العام ١٩٩٩م، وصنف هذا المصطلح على أنه يشير إلى تيار أو توجه، أو حركة فكرية تدرس العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا الحديثة، وتأثير هذه التكنولوجيا على مستقبل الإنسان، وتركيبته، وعاداته، ونظرته للحياة الحديثة بشكل عام.

ما معنى الإنسانية الانتقالية؟

وأما مصطلح الإنسانية الانتقالية (Transhumanism) والذي يصب في نفس الجانب، أو بما يمثل تحوير طفيف للمصطلح الأول، فإنه كان مرحلة تمهيدية لما ستكون عليه حركة ما بعد الإنسانية، وما ستستقر عليه في ما بعد، على إن ما يراد صنعه من خلال هذه الحركة بشكل وجيز هو إيجاد إنسان فائق الذكاء، أو ما يدعونه (بالهوموديوس) أي الإنسان الإلهي وهو إنسان معدل، متجاوز أو متطور عن الإنسان الحالي، لكنه يزيد قدرة عن الإنسان الذي دعى إليه الفيلسوف نيتشه الإنسان الكامل، والمتفوق (السوبرمان)، فحركة ما بعد الإنسانية تلح على وجود إنسان لا تحده حدود على الإطلاق.

ويراد بما بعد الإنسان بأنه ذلك الكائن البشري الذي ستحوله التكنولوجيا المتطورة إلى إنسان مركب من قطع غيار متعددة يتم تصنيعها وتجهيزها في المختبر، وهنا نتحدث عن إنسان معدل وراثيا، إنسان آلي أو شبه آلي يتجاوز النقص البشري.

إن هذه الحياة الجديدة التي ستنتج من خلال مناهج هذه الحركة ستكون مجردة من الغباء، والجهل، وجميع الصفات الأخرى الذميمة التي شكلت تكوينة عقولنا، ستكون هذه الحياة أيضا مجردة من الشيخوخة، والموت، ومجردة من القيود والعقائد، والتقاليد عديمة الجدوى.

آراء العلماء حول حركة ما بعد الإنسانية 

إن علماء ما بعد الإنسانية، وجميع مناهضي هذه الحركة يدعوننا دوما للكشف والتحري عن آفاق هذه الحياة العظيمة، عند الحديث عن التقدم التكنولوجي، وما آلت إليه التقنيات الحديثة فإننا لا نعرف من أين نبدأ؟ ودائما ما نجد أنفسنا بعيدين كل البعد عن هذا الركب، ومحصورين في زاوية صغيرة من التطلع، لا نجرؤ على الخروج من الصندوق، لأن عقلنا العربي يتميز بانغلاقه، وتفكيره الروحاني، على عكس العقل الغربي الذي يتميز بتفكيره المادي، وانفتاحه.

وهذا الرأي كما لا يخفى على كثيرين، هو واحد من أهم الآراء التي طرحها الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري. وليس هنا ما يشكك بصحة هذا الرأي إطلاقا فهو ينطوي على قراءة عميقة للتأريخ، والتراث، والواقع، والاجتماع العربي بكل تشكلاته.

يضعنا هذا العقل في المحصلة بمأزق كبير جدا، واجهنا، وسنظل نواجه أنواعا شتى من الصعوبات في إمكانية إيجاد الحلول للخروج من الأزمات، والمشكلة الكبرى هي أن هذا العقل بتفكيره لا يدعنا نستقر أبدا، فهو يقف عائقا أمام فهمنا لكثير من القضايا الراهنة، والانخراط في ركب الحياة السائلة.

إننا بأمس الحاجة إلى تشتيت هذا العقل، وإعادة بنائه، وتخليصه من كافة عوالقه، ومن أجل ذلك يجب علينا أن نفهم الحياة بصورة جديدة، صورة خالية من أي رتوش، فبأي حيلة كانت سنجد أنفسنا يوما في حياة جديدة لا نعلم شيئا عن ملامحها، وتفاصيلها.

ومن هنا نجد غرابة الأفكار التي نطالعها دوما، ونرى أن هذا التيار -أقصد حركة ما بعد الإنسانية- لا يجد الأرضية الخصبة لنموه من بين جميع التيارات الأخرى المضادة، والتوجهات والآراء التي لا تمتلك قدما واحدة في جادة التقدم، والتطور البشري.

ما الأسباب التي تجعل العرب لا يتقبلون فكرة ما بعد الإنسانية؟ 

ثمة خلل كبير في تكوين بنيتنا الفكرية، وثغرة فاضحة في وعينا العربي؛ إذ إن البنية الاسطورية، والمثالية تسيطر على عقولنا، وتفكيرنا كما يقول المفكر الجزائري محمد اركون، وذلك بسبب بضعة مسلمات هي بمثابة قواعد بناء أساسية لكل رؤية تتشكل عندنا وهي واضحة في فكرنا العربي على النحو التالي:

أولاً: العالم الدنيوي ليس هدفا وإنما وسيلة للعبور إلى عالم الخلود الأبدي، وهنا يضع الدين كل قيوده وإمكانياته ليشل ديناميكية العقل.

ثانياً: الوعي الأسطوري الذي يتغلب على الوعي التأريخي دون أن يلغيه، حيث تقف تلك الأساطير حجر عثرة في طريقنا للنهوض.

ثالثاً: الإنسان كمخلوق يتمتع باستقلالية القرار ضمن مقياس خاضع للكلام المقدس (التنزيل) حصرا ولا يخرج عن حدوده، مما جعلنا نجد الحرية والانفتاح كابوسا فوضويا.

رابعاً: ويتميز الفكر عندنا بأنه ثبوتي، جوهري، ماهوي حيث تدل الكلمات على الأشياء دائما، وتلتصق بها وتصبح جزءا منها، وهذا التطويع سيعمل على تفريغ العقل من كافة مشاحناته النهضوية.

خامساً: هناك دائما زمنا ومكانا مقدسين.

وعلى الرغم من احتواء هذه المسلمات على قدر كبير من الأهمية، لا يمكن التطلع إلى أمل كبير إلا مع استحالة فعالية هذه المسلمات بشكل يجعلنا نؤمن بأننا قادرين على الإنتاج، والإبداع في كافة مجالات الحياة، وبالتالي ليس هناك بادئة أمل في إمكانية بناء وتأسيس فكر ما بعد الإنسانية مع وجود هذه المسلمات الخمس.

إلى أي زمن تعود فكرة ما بعد الإنسانية؟

يعتقد بعض المفكرين أن حركة ما بعد الإنسانية لم تتشكل من فراغ، بل إنها نتيجة امتداد لفكر متجذر يمت الصلة بمسألة الخلود، ونهاية الحياة، وكل ما تذهب إليه الأديان من آراء لحياة ما بعد الموت، وأعتقد أن هذا الرأي لا يخلو من خطأ، إن لم يكن بمجمله مبنيا على تصورات خاطئة.

فتشكل فكر ما بعد الإنسانية جاء من نتائج التكنولوجيا، ولم ينولد من رحم أي فكر ديني، أو روحاني. وثمة سياقات جديدة لم يكن لها وجود قديما هي من صنعت ملامح هذا الفكر، ومن جانب آخر فإن أفكار ما بعد الحداثة والفلسفات التفكيكية هي من ساعدت على شيوع فكر ما بعد الإنسانية، ورسم ملامحه الكبرى.

فكما نعرف مسبقا أن الفلسفة التفكيكية كانت إعلانا لموت الحداثة، والتشكك في المقولات الكبرى التي كانت تمثل قواعد الفكر البشري: (الآيديولوجيات، والتأريخ، والعقل، والتحرر، والأخلاق) كل هذه المقولات أخذت طابعا جديدا في ما بعد الحداثة، مما زاد من رقعة فكر ما بعد الإنسانية، وساعد على نهوضها.

لو بحثنا في التكنولوجيات الدقيقة، والتكنولوجيا الحيوية، وعلم صناعة المواد الحديثة، ومجال الاتصالات، وصناعة الطائرات المسيرة بدون طيار، وكافة تقنيات الحرب الحديثة، والروبوتات، والماكينات التي تدار ذاتيا، والكومبيوتر، والبرمجيات، وبالاضافة إلى ذلك تكنولوجيات النانو، والذكاء الاصطناعي، فسنجد إننا خارج إطار كل هذه الحدود، غير أن هناك القليل من اللحاق ببعض هذه الجوانب، لكن لا يكاد يكون ملحوظا، في النهاية فإن عقولنا بعيدة جدا عن تصور هذه العلوم أو تقبلها وهذا هو ما يتم قراءته في الواقع الراهن.

لمعرفة المزيد حول الموضوعات الواردة في المقال يتوجب الرجوع إلى المصادر التالية:
جاك الدريدا والتفكيك/ مجموعة مؤلفين
هل هناك عقل عربي/ هشام غصيب
التنبؤ العلمي ومستقبل الإنسان/ حسن صالح
ما بعد الإنسانية قراءة نقدية/ خالد الادريسي

بقلم: محمد عبد

 

أضف تعليقك هنا