لحظات الحداثة

لقد كُتب الكثير عن مسألة “الحداثة” modernité و صلة ما بعد الحداثة بها، و قد سبق لعدة مُفكرين التعمق في هذه المسألة من أجل فك إلغازاتها التي هي متعددة بتعدد الأفكار و المجالات التي تعتني بها هذه الظاهرة  على غرار ” جيل دولوز ” و ” رولان بارت ” ” جان بودريار ” ” مارتن هيدغر ” ” جاك دريدا ” و القائمة تطول، كما سبق للفيلسوف الفرنسي ” ميشال فوكو “Michel Foucault أن طرح سؤال و كتب نصاً يتعلق بإشكالية : ما الحداثة؟ و هو سؤال يُحاكي سؤال الفيلسوف الألماني ” إيمانويل كانط ” Immanuel Kant الذي تسائل حول مسألة الأنوار.

مفهوم الحداثة

إن مُختصر الكلاّم إذا أردنا أن نتعرف على مفهوم الحداثة _ التي لا يمكن حصرها في ميدان معين _ نقول بأنها كتابة عن منظومة فكرية قائمة على جملة من القيّم الفكرية و العقلانية ، و هذه المنظومة لديها تجليّات تاريخية طالما أنها و من جوفهاَ تولدت ظواهر مثل ” الثورة الصناعية ، الثورة العلمية ، فلسفة الأنوار و الثورات السياسية الكبرى في العصر الحديث كالثورة الأنجليزية و الفرنسية و كذلك الأمريكية ثم الوحدات القوميّة للأمم الأوروبية و الديمقراطية و العلمانية ” فكل هذه اللحظات التاريخية تعتبر أحداث هامة أي حلقات ضرورية من تاريخ الحداثة ، وهنا وجب علينا التأكيد و لفت النظر إلى وجوب التمييز ما بين الحداثة بماهي ظاهرة إجتماعية ، إقتصادية ، سياسية و علمية و فكر الحداثة أي فلسفة الحداثة.

إن الدارس لهذه المسألة و المُدقق في تفاصيل هذا المفهوم يؤكد بأن الحداثة لديها تاريخ تراكمي ، بغض النظر على كل تلك التعريفات التي تختزل الحداثة في منظومة فكرية تبلورت و إكتملت في القرن التاسع عشر ، فتبلور هذه الفكرة و إكتمالها هو نتيجة أوتوماتيكية لتراكم عدة لحظات هامة تاريخية قطعتها هذه الحركة بحيث تكاملت أبعادها إلى الحد الذي أثمرت هذه الظاهرة ، لهذا لا يمكن التفكير في مسألة الحداثة دون العودة بفكرنا إلى الوراء أي إلى تلك اللحظات أو المحطات التاريخية الهامة التي تشكل هذه المنظومة ، فهذا التراكم التاريخي بدأ في أواخر القرن الخامس عشر و بدايات القرن السَادس عشر و تطاول زمنياً حتى مُنتصف القرن التاسَع عشر ، لهذا لابد لنا أن نذكر أهم المحطات التي شكلت الحداثة و جعلتها ظاهرة فكرية و إجتماعية ، إقتصادية و سياسية و كذلك علمية.

1) عصر النهضة 

المحطة الأولى هي ” النهضة ” التي إنطلقت من إيطاليا ثم عمّت في باقي أوروبا ، فالنهضة بدأت على المستوى الثقافي و الفني في المقام الأول و أحدثت طَفرةً هائلة في الأفكار و في الحساسيّات الجماليّة تولدت منها مآثرٌ خارقة و عظيمة من موسيقى النهضة إلى الرسم و التشكيل و كذلك إلى المعمار من خلال الجسور و الكنائس التي بُنيت في تلك الفترة ، إذا نحن أمام مُنعطف ثقافي فني و أدبي كبير في تاريخ الإنسانية دشنتهُ هذه الحركة التي تمكنت من جمع المُثقفين للعودة بأورويا و ربطها بأصولها التاريخيّة الإغريقية و الرومانية .إن النهضة تمثل العمود الأساسي من خلاله سيبنى ذلك الصرح الفكري الذي سنُطلق عليه ” الحداثة “.

2) حركة الإصلاح الديني

في القرن السادس عشر حصل أيضاً حدث كبير كانت له أبلغ الأثار في مسَيرة التقدمَ الأوروبي ، هو ” الإصلاح الديني ” و هي كناية عن حركة تجديد و إعادة قراءة للنص المُقدس في العهد القديم فيه شقان : شقٌ فقهيٌ أو ” إكليريكيٌ ” ديني يتصل بمساجلة المُجددين “البروتستانت “مع الرواية البابوية السائدة في أوروبا حول المسيحيّة ، و شقٌ سياسي يحتجُ على النظام الكنسي أو الإكليريكي و عن السلطة الإمبراطورية التي بدأت تتمتع بها الكنيسة لا فقط في المجال الديني و إنما أيضاً في المجال السياسي ، و هذا ما يُبرر خوض أوروبا لحرب دينَية طاحنة على مدار أكثر من مئة عام منذ عام  1517 إنتهت إلى تقاسم النفوذ الديني بين المذاهب المسيحيّة الثلاث : ” البروتستانتية ” في الشمال و الغرب ، ” الكاثوليكية ” في الجنوب و ” الأرثوذكسيّة ” في الشرق.

إن هذه الحركة أي الإصلاح الديني دشنت تاريخ جديد من التحَرر العقلي في قراءة النص الديني بمعزل عن الوصايّا التي كانت تُمارسها السلطة البابوية على المؤمنين ، و بالتالي فتحت الباب أمام الإجتهاد أولاً و ثانياً أمام التسامح بين المذاهب ثم ثالثاً أمام فكرة الحرية الدينية أي حرية الأفراد في إختيار دينهم ، فهذه اللحظة هي ثاني اللحظات الأساسية في مسيرة الحداثة .

3) الثورة الصناعية 

اللحظة الثالثة هي ” الثورة الزراعية _ الصناعية ” التي تنطلق من بريطانيا إلى جميع أوروبا ، هذه الثورة لم تفتح فقط المجال أمام الإنتَقال من إقتصاد الكفاف إلى إقتصاد الوفرة أو الإنتاج ، ولا بتحسين فرص الحيّاة و لا بتوفير فرص العمل ، بل أطلقت ديناميّات جديدة في المجتمع مع ميلاد طبقة جديدة ، إذا فالثورة الصناعية هي لحظة هامة في هذا المسار التاريخي التراكمي الذي أنتج ظاهرة الحداثة.

4) الثورة العلمية 

إن أولى الثورات العلمية هي التي شهدها ” علم الفلك ” مع البولوني ” نيكولاس و كوبرنيكوس ” و الثانية هي التي جاءت بها الأفكار النيوتنية في علم الفيزياء في بدايات القرن الثامن عشر ، هذه الثورة أيضاً لم تفتخ فقط أُفقاً أمام تعظيم فرص الإنتاج و تطوير البنية الإنتاجية و التقدم الإقتصادي الأوروبي فقط بل أشاعت الروح العلمية و التجريبية في التفكير على أوسع النطاقات في أوروبا.

5) فكر الأنوار أو فلسفة الأنوار 

في هذه الفترة بدأت أوروبا تشهد ميلاد ظاهرة و هيمنة ثقافية جديدة للمجتمع المدني و للقيّم المرتبطة به ، و هذه الهيمنة الثقافية لم تعد حكراً من أحكار المفكرين و الفلاسفة و غيرهم و إنما إنتقلت إلى مجال التعبير الرمزي في الأدب و الموسيقى و الفن بصفة عامة ، لهذا يعتبر فكر الأنوار محطة رئيسية لا يمكننا تجاهلها في هذا المسار التراكمي المُرتبط بظاهرة الحداثة.

6) الثورة السياسية و الديمقراطية و القومية

المحطة السادسة هي الثورة السياسية التي دشنتها الثورة الأنجليزية الأولى و الثانية ثم الدستور الأمريكي و أخيراً الثورة الفرنسية سنة 1889 ، وهذه الثورات السياسية أنهت عهد التحالف بين الكنيسة و الملكيّة المُطلقة و فتحت أقاق أمام تشكيل الدولة المدنية الحديثة أو الدولة القوميّة ، و كذلك أطلقت ديناميكيات أخرى لفك الإشتباك بين جملة من المُشكلات التي كان يعاني منها المجتمع الأوروبي و يعرقله نحو التقدم ، من ذلك الصلة المُلتبسة بين الديني و السياسي ، بين الدين و الدولة أي بين الكنيسة و الدولة.

هذه الثورات فتحت الباب أمام الإنتصار الحاسم للفكرة العلمانيّة في أوروبا

هذه الثورات فتحت الباب أما الإنتصار الحاسم للفكرة العلمانيّة في أوروبا سواء في صورتها البريطانية أو الفرنسية ، أيضاً هذه الثورات حسمت في مسألة تكريس النظام الديمقراطي لأن هذا النظام كان يترنحُ منذ القرن السابع عشر و إلى نهاية القرن الثامن عشر بين القيام و الكبو ، سواء في بريطانيا التي تعتبر المركز الأساسي التاريخي أو في الجوار الأوروبي هولاندا و فرنسا ، كذلك حسمت هذه الثورات في مسألة الوحدات القومية حيث خرجت أوروبا من عهد التجزئة الكيّانية مثلاً ألمانيا كانت مُنقسمة إلى أكثر من 50 إمارة و إيطاليا أيضاً و هذا ما جعل ” ماكيافلي ” يقفُ ضد هذه التجزئة و عدم الوحدة ، فالثورات أطلقت دينامية التوحيد القومي في بريطانيا أولاً ثم فرنسا و هولاندا و بعدها روسيا و الولايات المتحدة الأمريكية ، و أخر المحطات كانت ألمانيا مع ” بيسمارك ” Otto Von Bismarck و إيطاليا مع ” جوزيبي غاريبالدي ” Giuseppe Garibaldi.

7) الثورة التقنية 

المحطة الأخيرة هي الثورة التقنية أو التكنولوجية ، و هي مُبكرة بدأت بعد العقدين الثاني و الثالث من القرن العشرين لكن موجاتها تعاقبت بإيقاع طفراوي كبير ، و قد يسرت هذه الثورة مصاعب الحيّاة و سيطرت على العديد من المشكلات التي كانت تعترض الإنسانية مثل الأمراض ، الآفات الكيميائية ، الظواهر و الكوارث الطبيعية ، فهذه المحطات التاريخية تعتبر أساسية و هامة في مسيرة الحداثة الغربية ، حيث لا يمكننا أن نقرأ هذه الظاهرة بمعزل عنهم.

إن الحداثة بهذا المعنى ليس نموذجاً فكرياً واحداً و إنما حركة تاريخية متنوعة ، متعددة ، مختلفة و مُتغايرة ، لنقل في النهاية و نؤكد بأن الحداثة هي حداثات أي ليس هنالك حداثة واحدة ، و هذا ما جعل من هذه المنظومة تعيش أزمة و تكون أرضية مُناسبة للنقد من طرف المفكرين الذين يحاولون إعادة النظر في يقين هذه الحداثة.

فيديو مقال لحظات الحداثة

 

أضف تعليقك هنا