القنينات البلاستيكية في بيوت النساء البنوريات: إبداع ينسج خيوط الجمال في شكل ورود مختلفة الأشكال

بقلم: نبيل الهومي

على سبيل البدء:

بمجرد انقضاء أيام الأسبوع الدراسية بثانوية 11 يناير التأهيلية، يتملك التلميذة فاطمة التي تقطن بداخلية المؤسسة شوق دفين لملاقاة الأهل والأحباب، تستقل فاطمة كعادتها سيارة التاكسي للوصول إلى دوار زمران مسقط رأسها، بعد مدة غير يسيرة يصل التاكسي إلى الدوار، تنزل فاطمة من السيارة وتترك لعينيها فرصة إجالة النظر في الطبيعة الخلابة، والحقول الخضراء، التي تحفل بها منطقتها، فتتراءى لها بعض الأراضي، التي تسر الناظر. وعند وصولها إلى بيتها تلتقي بحياة المرأة الكفيفة التي تصنع من القنينات البلاستيكية كل يوم أزهارا، وتُصَيِّرُهَا آسًّا وبَهَارًا، من تآمل مصنوعات لآلة حياة أدرك دقة إبداعها، وجمال منتوجاتها، تتفنن أناملها في صناعة ما عجز عنه غيرها، تقودها الظروف التي عايشتها إلى إنتاج إبداع يخفف من وطأة حاجتها، ويجعلها تثبت ذاتها أمام أقرانها وسيدات دوارها، تَعْتَبِرُ حياة التفنن في خلق إبداعات بلاستيكية تجذب إليها الأنظار ضرورة ملحة مثلها في ذلك مثل الماء والهواء؛ لذلك تستيقظ كل صباح ثم تدخل محترفها الإبداعي، وكلها همة طامحة ونشاط قوي في بعث الحياة في قنينات بلاستيكية تعد بمثابة خطر زاحف يتهدد بيوتنا ويؤثر على بيئتنا.

لقد شكلت تجربة حياة المرأة الكفيفة الذائعة الصيت في سيدي بنور وصويحباتها من النساء مع القينينات البلاستيكية سفرا قاصدا، بكل ما ينطوي عليه السفر من جمال وجلال، إنه انتقال رائع لاستكشاف تجليات الإبداع، الجامعة لضروب التفنن والزينة. فريق التحقيق الصحفي اقتفى أثر هذا الإبداع، ونَدَبَ كل الجهود، من أجل تسليط الضوء على نساء جعلن من البلاستيك علامة للزينة داخل بيوتهن، ومصدر رزق يوفر لهن حاجياتهن، ويكفيهن مؤونة سؤال الأزواج، ليشكل بذلك البلاستيك على امتداد عقود سحيقة وسنين مديدة، مصدرا للعطاء وسبيلا للحياة بالنسبة للنساء البنوريات.

القنينات البلاستيكية بإقليم سيدي بنور: من خطر كبير إلى إبداع جميل ومثير

كان إقليم سيدي بنور في السابق في شكل عجوز أَعْيَتْهَا نوائب الدهر ومشاكله، فارتسمت على وجهها تجاعيد حجبت عن الناظر رؤية جمالها الآخاذ الذي تَسَتَّرَ خلف التجاعيد، ولم يعد له أي أثر أو وجود؛ حيث كان الإقليم يعاني من تراكم النفايات البلاستيكية التي جَثَمَتْ على نفس البنوريين والبنوريات، حتى لَيُخَيَّلُ لزائر الإقليم وقتئذ أنه أشبه بزهرة اعتراها الذبول وأصابها النسيان، ولعل زيارة استطلاعية إلى إقليم سيدي بنور تكفي للوقوف على الركام الكبير من النفايات البلاستيكية التي تُطَوِّقُ أنفاس سكانه، وتغصب نباتاته وتغتال حيواناته، وسيقف الزائر كذلك على الركام الكبير من النفايات البلاستيكية، -وأغلبها مُشَكَّلٌ من القنينات- التي تحوم حول الأحياء السكنية والمؤسسات العمومية المنتشرة على تراب إقليم سيدي بنور، في وضع أشبه بظلام يرخي بسواده على واقع الإقليم، ويحجب عنه كل نور قد يُرَى لزائريه وقاطنيه.

إن الإحساس الحزين بتراكم النفايات البلاستيكية على محيط سيدي بنور، والذي أزهر في نفوس ساكنة الإقليم، سيدفع النساء البنوريات إلى إجلاء السواد وتبديد الظلام الذي يتهدد بيئتهم وبيوتهم، مشيعين بذلك نور الإبداع في مناطق مختلفة من الإقليم، بشكل أضفى جمالا وبهاء على بيوتهن، وزاد بيئتهن حسنا ورواء، حتى ذاع صيت هؤلاء النسوة وانتشر خبر إبداعهن في مختلف ربوع الوطن، في رحلة مكانية انتقل فيها بلاستيك سيدي بنور من طابعه المحلي إلى الوطني بل العالمي، فاتحا بذلك للعالم فرصة اكتشاف الحس الإبداعي للنساء البنوريات، والوقوف عند ورود ومزهريات بلاستيكية انقدح في لب صانعتها عشق الإبداع، فحولن القنينات البلاستيكية المنتشرة في الأراضي إلى إبداع تجذب الناظر إليه هالة الإعجاب وحالة الإكبار.

القنينات البلاستيكية: وسيلة لإخراج إبداعات النساء البنوريات من طَوْقِ الْجُمُود إلى دائرة الوجود

تتوفر البَنُّورِيَّات على همم طامحة تتوقد حماسا ونشاطا، فَهُنَّ يساعدن الرجال في أعمال الأرض الشاقة والمضنية، ويسهرن كذلك على تربية أبنائهن، مما ينبئ عن الدور الكبير الذي تلعبه المرأة البَنُّورِيَة في حياة زوجها وأبنائها، غير أن هذه المهام التي تلعبها البنوريات لا تعدو أن تكون بالنسبة لهن أمورا ضرورية وجب عليهن القيام بها، وهذه الأمور كما تُصَرِّحُ نعيمة -التي تعمل على تحويل القنينات البلاستيكية إلى ورود للتزيين- تجعل المرأة خاملة الذكر لا أثر لها في الحياة، ولا عمل لها تكسب به قُوتَهَا وتعيل به زوجها، وهو ما سيدفع بنساء سيدي بنور إلى التفكير في عمل يدر عليهن مدخولا، ويُثْبِتْنَ من خلاله ذواتهن، ويكتشفن طاقاتهن، ونظرا لكثرة القنينات البلاستيكية في ببيوت النساء البنوريات وفي البيئة المحيطة بهن، فكرن في استغلال هذه المادة الخام وتطويعها لتصير إبداعا ينسج خيوط الجمال في شكل ورود مختلفة الأشكال، وقد مكن هذا النشاط النسوة من بث روح الحياة في القنينات البلاستيكة التي كانت تشكل عبئا على البيئة المحلية، فَحَوَّلْنَهَا إلى أكسسورات رائعة ورائقة تجذب العيون وتأسر العقول وتستميل القلوب.

لقد مكن هذا الإبداع المتمثل في تحويل القنينات البلاستيكية إلى ورورد تنبض حياة وعطاء، نساء سيدي بنور من الوقوف على مؤهلاتن، واكتشاف آيات الإبداع المستكنة في أناملهن، فَزَيَّنْنَ من القنينات بيوتهن، ثم امتد الأمر بعد ذلك إلى تسويق إبداعاتهن على المستوى المحلي والوطني والعالمي، لتنعش بذلك نساء الإقليم سوقا كبيرة في بيع الورود البلاستيكية، وتثرين الساحة البيئية التي جَمَّلَتِ القنينات، بعد ما كانت مصدر قهر وممات يتربص بالبيوت والمؤسسات.

سيدفع تكاثر النسوة اللواتي يُصَيِّرْنَ القنينات البلاستيكية إلى أكسسورات تزين البيوت، جمعيات المجتمع المدني إلى الالتفات إلى هؤلاء النساء وتأطيرهن ورعاية منتوجاتهن الإبداعية حتى يَشِيعَ وَهَجُهَا في كل الآفاق، وينساب نَفعُهَا إلى كل الأنحاء.

جمعية المعرفة بإقليم سيدي بنور: ملاذ يَبُثُّ الحياة في تلابيب القنينات

عُدَّ تأسيس جمعية المعرفة بإقليم سيدي بنور رافعة مساعدة للبنوريات المبدعات على نشر منتوجاتهن والترويج لها، فقبل تأسيس هذه الجمعية كانت النساء تعتمدن على ذواتهن في الإشعاع للأكسسورات، وتتكفلن بمهمة البحث عن الزبناء وبيع المنتوجات، غير أن ميلاد جمعية المعرفة سيكفي البنوريات صعاب نشر الإبداع والبحث عن مُحِبِّيهِ وعشاقه؛ ذلك أن الجمعية عملت ومنذ تأسيسها على خلق شراكات تسعى إلى تسليط الضوء على الإبداع البلاستيكي، وكان أهمها اتفاقية الشراكة المبرمة بينها وبين الوزارة المنتدبة المكلفة بالبيئة حول مشروع خلق قيمة مضافة للمواد البلاستيكية وتحويلها إلى أكسسورات نوعية، وفي سياق هذه الشراكة كانت الجمعية تنظم معارض لمنتوجات النساء المستفيدات من المشروع، ومن خلال هذه المعارض أبرزت البنوريات علو كعبهن وأصالة إبداعهن، عن طريق صنع أكسسورات وديكورات تتخذ من البلاستيك مادة لها. وقد أفضى إشعاع الجمعية داخل إقليم سيدي بنور إلى استقطاب نسوة أخريات من هواة التفنن في إبداع الديكورات وبث روح الجمال والحياة في صفائح القنينات.

سيفضي تكاثر النسوة العاشقات للإبداع والساعيات إلى إنقاذ البيئة من خطر البلاستيك، إلى تشجيع العمل البيئي داخل الإقليم؛ حيث ستكثر الجمعيات التي تعنى بالبيئة حتى وصل عددها إلى 20 جمعية، مما دفع النسوة إلى الإسهام القوي في إنقاذ إقليم سيدي بنور من خطر البلاستيك.

القِنِّينَاتُ الْبّْلاَسْتِيكِيَّة فِي بُيُوتِ النِّسَاءِ الْبَنُّورِيَّات: نُورٌ يَحْجُبُ سَوَادَ الظَّلاَم وَإِبْدَاعٌ يَنْسُجُ خُيُوطَ الْجَمَال

تشتغل حياة المرأة الكفيفة المعروفة في أوساط البنوريين على البلاستيك يوميا، تستيقظ في صباح كل يوم فتقوم بأعمال البيت، ثم تتوجه إلى غرفة في بيتها تجتمع فيها هي ونساء دوارها، تقطع لالة حياة القنينات البلاستيكية إلى قسمين فتطليها بطلاء، ثم تُثَبِّتُهَا في عصي، لتصير بعد ذلك ميسما للزينة يضفي طابع الجمال على البيوت.

فقدت حياة بصرها في الصغر، واستطاعت مع ذلك أن تكافح صعوبات الحياة، وتتغلب على مظاهر الحزن والمعاناة التي غَصَّ بها بها واقعها، وجدت في البلاستيك عزاء كبيرا لها عن بصرها المفقود، لذلك أولت عناية كبيرة بالقنينات، وصَيَّرَتْهَا إلى أشكال دالة تلقى الانبهار والافتنان. تقول حياة: “لقد جعلتني القنينات البلاستيكية أخترق منافذ الأفق المظلم، لأصل إلى تبديد سواد الحياة القاتم وأشيع بياض الإبداع الساحر، وبالتالي فتح لي البلاستيك السبيل واسعا لأثبت مهاراتي وقدراتي وأظهر تفنن أناملي. إن تحويل البلاستيك إلى ورود -تضيف حياة- مكنني من تجاوز فَقْدِ بصري وضنك معيشتي، وجعلني أتسوغ بالعفاف، وأتبلغ بالكفاف، لأنه يدر علي مدخولا جيدا يوفر لي حاجياتي ويقيني مغبة سؤال الناس”.

لقد تمكنت نساء سيدي بنور من استغلال القنينات البلاستيكية استغلالا جيدا، فقمن بحماية البيئة، ثم توفير مدخول يضمن لهن تلبية حاجياتهن وإعالة أزواجهن، تبصرهم صباحا وهن يجتمعن ويتشكلن على شكل مجموعات للبحث عن القنينات البلاستيكية المترامية هنا وهناك، ثم يعدن إلى بيوتهن وينشغلن بأعباء البيت، وفي المساء يجتمعن في غرفة حياة ويشرعن في تقطيع القنينات إلى نصفين ثم صباغتها وتشكليها على شكل ورود تعيد الحياة إلى قنينات ترامت في الأحياء السكنية وعلى جنبات المؤسسات.

على سبيل الختم: تصنع المرأة البنورية ورودا بلاستيكية تجذب الأنظار، وتصيب الناظر إليها بالإعجاب والانبهار، فتحمي بيئتنا من الخراب والدمار، وتضمن بذلك للأجيال القادمة حق الاستمرار.

بقلم: نبيل الهومي

أضف تعليقك هنا