مقدمة

تحدثنا فيما سبق أن الموطن الأصلي لقوم نوح قبل الطوفان والذين كانوا يشكلون كل سكان العالم يمتد ما بين نهر النيل والبحر المتوسط غرباً والفرات ودجلة شرقاً، وما بين المحيط الهندي جنوباً والأناضول شمالاً، وبعد الطوفان رست السفينة على جبل الجودي، والذي أثبتنا أنه جبل أراراط في شمال العراق، وفي هذه المنطقة استقر مبدئياً أبناء نوح من الساميين واليافثيين والحاميين، وقلنا سابقاً أن هذه المنطقة تتوسط العالم، فهي من جهة الجنوب تنفتح على الشام ومصر والعراق والجزيرة العربية، ومن جهة الشرق تنفتح على آسيا كلها، ومن جهة الشمال تنفتح على بلاد الروس والبلدان الاسكندنافية، ومن جهة الغرب تنفتح على أوربا.

نظريتنا حول الموطن الأصلي للساميين

تتركز نظريتنا حول الموطن الأصلي للساميين على النقاط التالية:

أولاً: انسياح الساميين

إن الساميين لما تكاثروا بدأوا بالانسياح تدريجياً نحو الجنوب، وانتشروا في الشام والعراق وفارس ومصر، وانتقل قسم مهم ودخل الجزيرة العربية واستقروا فيها، وهؤلاء الذين دخلوا الجزيرة العربية يكونون قد عادوا لموطن آبائهم قبل الطوفان، وبالنظر لمناخ لجزيرة العربية ما بعد الطوفان نجد أنه مناخ معتدل ويتصف بكثرة الأمطار، إذ أن الجزيرة العربية كانت تعيش العصور المطيرة كما أسلفنا، وفي هذا المناخ نشأت مملكة عاد كما سنرى لاحقاً، ولما دمرها الله عز وجل بالريح الصرصر العاتية التي اقتلعت كل شيء من الإنسان إلى الحيوان إلى النبات حتى التربة بدأ التصحر يظهر في الجزيرة العربية الأمر الذي أدى إلى اندفاع السكان القاطنين فيها إلى الخارج نتيجة للزيادة السكانية وقلة الموارد.

والجزيرة العربية تحيطها البحار من الجهات الثلاث الغربية والجنوبية والشرقية، وأما حدودها الشمالية فأرى أنها تصل إلى شمال مدينة تدمر، أي أن البادية السورية العراقية تعد جزءاً منها، وتقسم الجزيرة العربية إلى عدة أقاليم هي اليمن وحضرموت وعمان والربع الخالي والأحساء والبحرين ونجد والحجاز وأخيراً البادية السورية العراقية.

ثانياً: المجموعات السكانية تتباين

إن انتشار الساميين في العراق والشام ومصر والأناضول والجزيرة العربية وفارس جعل منهم أقواماً عديدة مؤهلة للتمايز والاختلاف فيما بينها لاختلاف البيئات، فالساميون الذين قطنوا مجاري الأنهار والوديان الخصيبة امتهنوا الزراعة، ومالوا إلى الاستقرار، وشرعوا بإعمار القرى والمدن مما أدى لظهور ممالك صغيرة متجاورة تحولت تدريجياً لممالك متناحرة، وما لبث أن نشب الصراع بينها الذي غالباً ما ينتهي بانتصار إحدى هذه الممالك وسيطرتها على الجميع، وبالتالي تشكيل إمبراطورية قوية لا تلبث أن تمد سلطانها خارج حدود نشأتها.

وهناك أقوام سامية قطنت الأماكن الأخرى البعيدة عن مجاري الأنهار، أي في المناطق الجافة القليلة الأمطار، فامتهنت الرعي وتربية الماشية نتيجة الظروف البيئية التي حتمت عليها ذلك، وهذه الأقوام قطنت المناطق الممتدة ما بين بلاد الشام وبلاد الرافدين، أي في المناطق الممتدة ما بين سهول حوران الخصيبة وغوطتي دمشق ووادي العاصي والهضاب التي تليه من الشرق إلى وادي الفرات شرقاً أي في المناطق التي تسمى الآن بالبادية (بادية العراق وبادية الشام بما فيها الحماد السوري )، وهناك أيضاً أقوام سامية سكنت جنوب بلاد الشام وصحراء سيناء وامتهنت الرعي كذلك.

أما الأقوام السامية التي استوطنت جزيرة العرب فكان حالها كغيرها من الأقوام التي استوطنت باقي البلدان، فالأقوام التي سكنت الأراضي الخصبة كاليمن امتهنت الزراعة واستقرت وبدأت بالعمران وتأسيس الممالك، والأقوام التي قطنت المناطق الأقل خصوبة أو الصحراوية امتهنت الرعي وانتشرت في المناطق المتاخمة لليمن كعسير ونجد والحجاز، وكذلك انتشرت في أواسط وشمال الجزيرة العربية.

ثالثاً: حدود جغرافية وحدود ديموغرافية

والملاحظ أن الأقوام السامية البدوية التي تنقلت مع قطعانها خلف الكلأ والماء في مناطق العبور ما بين الممالك الناشئة في الأماكن الخصيبة قد أصبحت تملك السيطرة على الطرق التجارية بين تلك الممالك، فشكلت بالتالي حدوداً ديموغرافية بالإضافة للحدود الجغرافية التي شكلتها الصحارى بين هذه الممالك، فالأقوام التي ارتحلت في مناطق شمال الجزيرة العربية ووسطها التي تشكل ممرات عبور بين ممالك اليمن وممالك العراق والشام، وكذلك الأقوام التي كانت تجوب صحارى جنوب بلاد الشام وسيناء والتي تشكل ممرات عبور بين ممالك النيل وممالك الشام، قد بدأت بالتحول التدريجي من مهنة الرعي إلى مهنة التجارة، بل يمكننا القول أن هذه الأقوام أتقنت المهنتين – الرعي والتجارة – بامتياز.

والنتيجة التي سنصل إليها: أن هناك أقواماً كانت تعيش على رعاية مواشيها وترتحل من مكان إلى آخر خلف المراعي الخصيبة ومصادر المياه، وهذه الأقوام كانت تنتشر على تخوم الأماكن الزراعية وهي على احتكاك دائم مع الأقوام الشقيقة الأخرى التي تمارس الزراعة والصناعة وتستقر في المدن والقرى، وكانت هذه الأقوام غالباً ما ترهب الدخول إلى تلك المدن والممالك والاستقرار فيها، وذلك لحصانتها وقوتها إلا أنها كانت تتوق بنفس الوقت لأن تستقر وتعيش الحياة الحضرية بدلاً من الحياة البدوية، ولكن الذي يمنعها من الإقدام على ذلك سببين:

  • الأول – إباءها ورفضها الخضوع لحكم الممالك والإمبراطوريات كونها تعيش حرة طليقة في البوادي.
  • الثاني – الخوف والتوجس الناجم عن الانتقال من أسلوب حياة معتادين عليها إلى أسلوب حياة جديدة، والذي غالبا ما يحمل الكثير من الآلام حتى يتم اعتياد الحياة الجديدة، فمهنة الرعي أسهل من مهنة الزراعة.

رابعاً: البادية والحاضرة

وإذا تصورنا البلاد السامية في العصور القديمة نجد أن الممالك قامت في اليمن والشام والعراق ومصر، وبالمقابل كانت هناك القبائل البدوية التي ما فتأت ترتحل وتنتقل من مكان لآخر، وكانت هذه القبائل تتنقل في أواسط الجزيرة العربية وشمالها وكانت كلما ازدادت أعدادها وتكاثرت وضاقت الأراضي بمواشيها تتدفق باتجاه الشمال لأنه المنفذ البري الوحيد للجزيرة العربية، وما أن تنتقل هذه القبائل باتجاه الشمال حتى تصطدم بالقبائل البدوية المنتشرة في البوادي الشامية والعراقية لتبدأ بين الطرفين حروب طاحنة غالباً ما تنتهي بانتصار الأقوام الوافدة من الجزيرة على الأقوام الشقيقة التي كانت تشغل تلك المناطق فتزيحها وتحل محلها.

مقالات متعلقة بالموضوع

وهذه الأقوام السامية البدوية كانت تجوب البوادي وحواف الحاضرات المتاخمة للبوادي، والملاحظ أن هذه الأقوام كانت تتعرض لضغوطات دائمة من الأقوام التي تليها في شمال وعمق الجزيرة العربية.

وهذه الأقوام كانت متربصة بالحاضرات القائمة في الشام والعراق، وما أن تسنح لها الفرصة في الانقضاض على هذه الممالك حتى تهاجمها وتحاول السيطرة عليها، ولكن ما يميز هجمات هذه الأقوام أنها لم تكن هجمات همجية تدميرية كهجمات القبائل الجرمانية على الحضارة الرومانية وهجمات المغول على الحضارة الإسلامية، وذلك للأسباب التالية:

  • إن هذه الأقوام المهاجمة كانت أقوام متحضرة بالرغم من بداوتها، وهي تنظر نظرة احترام للحضارات القائمة من حولها، وتعد هذه الحضارات كأنها حضارتها لكونها قائمة بسواعد أبناء عمومتهم، لذلك نجد هذه الأقوام تهب دوماً لنجدة هذه الحاضرات من الغزو الخارجي.
  • إن هذه الأقوام كانت على احتكاك دائم بالممالك القائمة، ولكنها تفضل الاستقلالية وعدم الانصياع لحكم تلك الممالك، وبقاءها محكومة بأعرافها التي اعتادت عليها.
  • عدم قبول أبناء الممالك أنفسهم لاندماج تلك الأقوام بشكل سلمي مما يؤدي لحدوث المنازعات.

خامساً: الاستقرار الجزئي

وهذه الأقوام كانت تبدأ عادة بالاستقرار الجزئي، أي تبدأ باتخاذ مراكز لها في المناطق القريبة من الحاضرة كأسواق البيع أو مخازن التموين، ثم تدريجياً تبدأ عمليات البناء والاستقرار، ولكن مع ذلك يستمرون  بالترحال في أعماق الصحارى، ثم يعودون لأماكن استقرارهم، وعملية انتقالهم ما بين مسكنهم الثابت ومسكنهم المتنقل تحكمها الفصول الأربعة، فغالباً ما يستقرون في مسكنهم الدائم أثناء فصل الشتاء، أما باقي فصول السنة فينتقلون مع مواشيهم خلف المراعي والماء، وتسمى هذه المرحلة من حياة البدو بمرحلة نصف الاستقرار، ويسمى البدو فيها بالبدو نصف المستقرين.

وتدريجياً تتأهل هذه الأقوام البدوية للتحضر، وما أن تلوح في الأفق فرصة السيطرة على مملكة متهالكة حتى ينقضون عليها ويتولون فيها مقاليد الحكم، ولكن غالبا ما كانوا يقرون الأقوام المغلوبة على ما هم عليه من الدين والثقافة والعادات والتقاليد، بل ويتأثرون بهم، فتجدهم بعد السيطرة على الحكم يأخذون من الأقوام المغلوبة أكثر مما يعطونهم.

سادساً: التوزع الديموغرافي

وبالنظر للتركيبة الديموغرافية للجزيرة العربية نجد أن جنوب الجزيرة ووسطها (اليمن وحضرموت وعمان والربع الخالي والأحساء والبحرين ونجد والحجاز) كان يسكنه العرب، وهم العرب البائدة كعاد وثمود وطسم وجديس وغيرهم، أما شمال الجزيرة العربية (البادية السورية العراقية) فإنها كانت مسكونة بأقوام بدوية سامية عربية كالعموريين والكنعانيين والآراميين وغيرهم.

وبرأينا أن المنطقة الأسخن والأكثر أهمية في تأثيرها على مجريات الأحداث التاريخية للشرق القديم هي منطقة البادية السورية العراقية (بادية الشام)، والتي تشكل مثلثاً كبيراً قاعدته تمتد من خليج العقبة في الغرب إلى خليج الكويت في الشرق، ورأسه يصل إلى منطقة حلب في الشمال السوري، ويبلغ عرض هذه البادية في أوسع نطاق لها أكثر من ألف كيلو متر.

وإذا تصورنا التركيبة الديموغرافية لهذا المثلث في بداية الألف الثالث قبل الميلاد نجد أن العموريين كانوا يجوبون الضلع الشرقي لهذا المثلث أي المناطق المحاذية لنهر الفرات من البصرة إلى الرقة، ونجد أن الكنعانيين كانوا يجوبون الضلع الغربي لهذا المثلث أي المناطق المحاذية لحوضي الأردن والعاصي من جهة الشرق، بينما نجد الآراميين في الخلف والوسط من هذا المثلث إذ أنهم كانوا لا يشكلون كثرة بشرية في ذلك الوقت بحيث تدفعهم نحو الشمال.

إذاً فالموطن الأصلي للساميين برأينا هي الأقاليم التي انتشروا فيها بعد الطوفان والتي تمتد من فارس شرقاً إلى الشمال الإفريقي غرباً ومن المحيط الهندي جنوباً إلى البحر الأسود شمالاً، وأن الساميين أصحاب الهجرات المتتالية والكبيرة هم من الساميين الذين عادوا لوطن أجدادهم في الجزيرة العربية.

فيديو مقال الموطن الأصلي للساميين (2)

أضف تعليقك هنا
شارك

Recent Posts

الحُب الصامت

بقلم: محسن العويسي (الحب الصامت يأتي بهدوءً قاتل ويذهب بجُرحٍ عميق) ومابين غسق الليل ونور… اقرأ المزيد

% واحد منذ

الاتجاه نحو الطريق المنحدرة

بقلم : قاسم الجهني  يشهد العالم في الوقت الحالي ثورة تكنولوجية عظيمة، والتي صاحبها انتشار… اقرأ المزيد

% واحد منذ

التنوع الاقتصادي والصيغ النموذجية

بقلم: إبراهيم جلال أحمد فضلون تمثل الصيغة النموذجية لوثيقة تأمين المسؤولية المهنية لجهات تفتيش أعمال… اقرأ المزيد

% واحد منذ

“التمثيل السياسي: حقوق الأقليات المهمشة”

بقلم: المستشارة زهراء التميمي إن أبعاد طوائف الأقليات عن الساحة السياسية والسلطة الحاكمة يمكن أن… اقرأ المزيد

% واحد منذ

سيدي احذر هذا الفخ

بقلم: عادل عبد الستار العيلة شاء القدر اليوم أن أقرأ تلك السطور التاليه (لا اعرف… اقرأ المزيد

% واحد منذ

دليل شامل لتعلم برمجة الويب بالطريقة الصحيحة

في عصر التكنولوجيا الحديثه والتطور الرهيب الذي نشهده في جميع القطاعات,تعد البرمجة أحد أهم المجالات… اقرأ المزيد

% واحد منذ