دراسة في كتاب التاو تي-تشينغ للحكيم الصيني لاوتسو

يعزى كتاب التاو-تي-تشينغ إلى حكيم صيني قديم غامض السيرة يدعى لاوتسو، هذا الأخير عاش حياته خلال الفترة الواقعة بين أواسط القرن السادس وأواسط القرن الخامس قبل الميلاد، وقد مارس الكتاب تاثيرًا كبيرًا على الحياة الفكرية والروحية للصين، ويعتبر هذا الكتاب الصرح الثاني في الفكر الصيني بعد كتاب التغيرات.

من هو الفيلسوف لاوتسو؟

كتاب التغيرات هو مرجع أساسي في الفكر الصيني القديم، والذي تم تأليفه في سنة 3322 قبل الميلاد بدون معرفة كاتبه لاوتزه أو لاوتسو؛ هو فيلسوف وحكيم صيني قديم، يعتبر مؤسس المدرسه الطاويه ومعاصر كونفوشيون وواضع كتاب تاو تي تشينغ، ورغم ذلك لا تزال هناك شكوك وخلافات حول إذا كان لاوتسو شخصية حقيقيه أم لا؟ ومع ذلك يرجع تاريخ العمل المنسوب إليه الإلى ى أواخر القرن الرابع قبل الميلاد.

يرجع المؤرخون القدماء عن لقاء جرى بين كونفوشيوس ولاوتسو، عندما جاء كونفوشيوس لزيارة لاوتسو الذي كان يعمل قيما على مكتبة القصر الملكي في عاصمة مملكة تشاو، وقد صاغ كونفوشيوس إنطباعه عن ذلك اللقاء قائلا: اليوم رأيت لاوتسو ولا أستطيع مقارنته إلا بالتنين، والتنين في الصينيه القديمه كان صورة لشخص أو شيء ما غامض.

وللإشارة أن لاوتسو في الصينية القديمه تعني “الرجل الكبير في السن” نعرض ما يلي:

عاش هذا الرجل في الصين في وقت الحروب، والذي قرر انه لن يهتم بعد ذلك بشأن الحرب والعنف والكره والقتل وكل هذه الاشياء الموجودة في عالمه، فصعد على ثوره وغادر البلاد، لكن قبل ان يغادر كي يعيش وحيدًا، اعترض له حارس الحدود وطلب منه أن يضع كتابصا يلخص فيه حكمته؛ فأنجز لاوتسو كتابه تاو تي تشينغ ثم اختفى ولم يسمع به أحد بعد ذلك.

الحديث عن التاوية يقتضي بالضروة الحديث عن الكونفوشيوسية؛ لقد صاغ كل من كنفوشيوس ولاوتسو تعلمهما بطريقه حكموية بعيدة عن الطابع الديني الذي يميز تعاليم أصحاب الرسالات الدينية، كما لم يعتبر أي منهما رسولًا من قبل السماء يوصل مشيئتها الى عالم البشر، بل إنسان يعمل على التلاؤم مع النظام الكوني بأكمله فالإنسان ليس كائنًا مستقلًا عن الطبيعة وعن الكون.

ما هي نقطة التوافق بين الكونفوشيوسية و التاوية؟

يركز كونفوشيوس على القانون الاخلاقي في المجتمع باعتباره صورة عن القانون الكوني، وعلى ضروره إدراك النظام الخفي للكون، لأن الإدراك حسب كونفوشيوس من شأنه أن يضع الفرد والمجتمع في حاله التناغم التام مع الكون والطبيعه، من هنا فإن التاوي الحكمويه التي أسس لها لاوتسو تخلو من العبادات و من الطقوس بشكلها المتعارف عليه.

هذه نقطه الاختلاف بين الكونفوشيوسية و التاوية؟

لكن مع مرور الوقت سيتم تحويل التاوية الحكموية إلى طقوس دينية التي ستتبنى العديد من الممارسات اليوغية الهادفه إلى السيطرة على الجسد، كما دخلتها ممارسات وأفكار خيميائية (أصل الكيمياء) وسحرية، وهذا ما تعرضت له أيضا الكنفوشية الحكمويه التي تحولت هي الأخرى إلى طريقة دينية طقسية عقب ظهور الكونفوشيه الجديده في القرن 12م.

والتي تبنت العديد من العناصر التاوية والبوذية والكنفوشية الحكموية القديمة، إضافة إلى عناصر من الموروث الصيني القديم، ورغم ذلك فقد بقيت كلمات المعلم الأول لاوتسو فاعلة في الحياة الفكرية والروحية للشعب الصيني عبر العصور، وساهمت بشكل فعال في تكوين موقف الإنسان الصيني من الكون والمجتمع والحياة.

ما هو رأي العلامة جوزيف نيدهام حول التاوية؟

يقول العلامة جوزيف نيدهام المتخصص في علم الصينيات في كتابه “العلم والحضاره في الصين” بأن التاوية قد قدمت للعلم الصيني أكثر بكثير مما قدمته الكنفوشية، فبينما كان الكنفوشيون يدسون أنوفهم في الكتاب على الدوام ويحرسون على اتباع لقواعد واللوائح.

كانت التاويون يراقبون الطبيعة، لقد حفلت أدبيات التاوية بالملاحظات والتعليقات الكبيرة بخصوص النباتات والمياه والرياح وسلوك الحيوانات والحشرات، في الوقت الذي اقتصرت فيه أدبيات الكنفوشية على المسائل السياسية والإجتماعية.

إلى أي مدى لعب التاو دورًا مهمًا في تاريخ الفكر الصيني؟

تعزيزًا إلى ما سبق، المقارنة بين الكونفوشية والتاوية في نظرتهما إلى المعرفة؛ تتجلى في أن الكنفوشية شغلت نفسها بمسائل الأخلاق والتشريعات والتربية والطقوس، وبشكل عام كل ما يشكل معرفة تقليدية؛ أما التاوية فقامت بالتخلي عن هذا النوع من المعرفة، وتركز بالمقابل على المعرفه التي تأتي عن طريق استلهام الطبيعة الأصليه للإنسان.

لقد لعب التاو دورًا مهمًا في تاريخ الفكر الديني والفلسفي الصيني منذ البدايات المبكرة لتاريخ الصين، جاء في الكتاب “التاو-تي-تشينغ أن التاو هو الماضي والحاضر، الشكل والهيولي الوجود، والعدم أنه وحدة الثانويات والمنبع البدئي لكل بداية ونهاية.

أين يوجد ذلك الذي تدعوه التاو؟

دار نقاش بين تشاونغ تزو وحكيم كونفوشي يدعى تونغ كاوتزو حول سؤال أين يوجد ذلك الذي تدعوه التاو؟ فأجابه تشوانغ تزو: إنه في كل مكان، فقال تونغ كاو: أين بالتحديد؟ فأجابه تشوانغ تزو: إنه في النملة، فقال تونغ كاو: كيف له أن يوجد في هذه الدرجة السفلى؛ فتابع تشوانغ تزو قائلًا: إنه يوجد في روث البهائم، مبرزًا في النهاية أنه لا وجود لأي شيء بدون التاو، فالتاو لا يوجد في شيء محدد ومع ذلك فهو موجود في كل الأشياء.

أتى التاو بمعنى الطريق ولكن ليس بالمعنى المتعارف عليه، فماذا يعني إذن؟

التاو في اللغة الصينية يعني الطريق؛ ولكن ليس بالمعنى المتعارف عليه الذي يرى في الطريق خطًا يصل بين مكانين محددين، وإنما بالمعنى الشمولي الذي يدل على جوهر الكون والطبيعة، بمعنى الثابت الذي يؤدي الى كل حركة (الطريق هو أصل الحركة)، وفي الوقت نفسه جذرها الثابت؛ إنه الخفي الثابت.

يصف التاو بأنه ليس كمثله شيء، ويقول بأنه وراء الشكل والصوت والمادة، ومعنى ذلك؛ أنه لا ينتمي إلى عالم الظواهر رغم حضوره فيه، التاو هو ما وراء الأشياء، لا يمكن أن يحمل اسمًا، فبمجرد أن تطلق عليه اسمًا يتلاشى؛ لأن الأسماء هي دلالة على وجود الأشياء؛ إذن انطلاقًا مما سبق فإن التاو لا يمكن أن نؤطره داخل إطار محدد، مما يعني أنه غير مجسد ولكنه مع ذلك موجود.

ما هي حقيقة ماهية التاو؟

التاو ليس سيدًا للكون يمارس عليه سلطته من موقع مفارق، بل هو عين لنظام الداخلي للطبيعة، التاو وراء الثنائيات وفيه تتلاشى الأقطاب، هو المتخلل في كل شيء، والمحيط بكل شيء، والموجود في كل شيء، لا يمكن رؤيته، ولا يمكن سماعه، ولا يمكن أيضا لمسه، ليس له بداية ولا نهاية؛ يكفي أن نقول بأن التاو سرمدي إذا قلنا أنه الصورة التي لا صورة لها، والشكل الذي لا شكل له فهو التاو.

التاو يحافظ على موقع الوسط بين الأقطاب؛ بمعنى أنه محايد بينهما، ولا ينحدر نحو هذا القطب أو ذاك على ذكر الأقطاب “اليانغ والين” يقوم التفكير الصيني منذ أقدم العصور على النظر إلى الحياة والإنسان والوجود بأكمله؛ على أنه نتاج حركه قوتين ساريتين في كل مظاهر الوجود هما:

“اليانغ والين” الموجب والسالب، المذكر والمؤنث، وهاتان القوتان على تعارضهما فهم متعاونتان، ولا قيام لأحدهما بمعزل عن الأخرى، يتجلى دور الأقطاب (الخير والشر، النور والظلام، الحياة والموت…) هذه الأقطاب ليست في صراع مع بعضها البعض من سيادة واحدة على الأخرى، بل إنها تنشئ معًا، ويتخذ كل ضد معناه من ضده، حيث لا نور بلا ظلام…

ما هي العلاقة التي تقوم عليها أقطاب الفكر الفلسفي الصيني؟

يبدو جليًا إذن، أن مفهوم الأقطاب في الفكر الصيني، لا تتصارع على السيادة وعلى إلغاء الأخر، ولكنها في حركة تعاونية، وتوازن الكون هو نتيجة لتعاون هذه الأقطاب على كل صعيد، بمعنى كل ضد يأخذ معناه ووجوده من ضده وقد تم تمثيل قوتي “اليانج والين” بصريا، على شكل دائرة تحتوي على مساحتين؛ واحدة مظلمه والأخرى مضئة.

وقد صورتا هاتين المساحتين في وضع دوراني يدل على التناوب الأبدي بينهما، أما الخط الفاصل بينهما فهو يعبر عن ظهور الأقطاب إلى حيز الوجود، وبما أن اليانغ لا يتجلى في حالته الصرفة ولا الين كذلك؛ فقد صور القسم المظلم من الدائره وفيه بقعه صغيرة بيضاء على أنه “الين”

وصور القسم المضيئ وفيه بقعة صغيرة سوداء على أنه “اليانغ” ويوضح ذلك أن لكل إيجاب بعض من السلب، وفي كل سلب بعض من الإيجاب، تدعى هذه الدائرة بدائرة التاو؛ فهي المبدأ الأول قبل ظهور الموجودات وهي القاع لكل الثابت قبل ظهور التغيرات، وتتخذ هذه الدائره مكانه البؤرة في التفكير الصيني.

فيديو مقال دراسة في كتاب التاو تي-تشينغ للحكيم الصيني لاوتسو

أضف تعليقك هنا