هجرات الساميين (1)

إن هجرات الساميين التي يتكلم عنها المؤرخون وعلماء الآثار تمثل هجرات الأقوام السامية العربية وهم الأكاديون والعموريون والكنعانيون والأنباط والتدمريون وغيرهم …..، وإذا تصورنا البلاد السامية في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد أي حوالي 3500 ق.م، وذلك بعد انهيار مملكة عاد العربية التي أسستها قبيلة عاد العربية بعد الطوفان مباشرةً، نجد أن الأقوام السامية التي استقرت في مجاري الأنهار والوديان الخصيبة قد امتهنت الزراعة وبدأت بتأسيس الممالك والإمارات، فنشأت في جنوب العراق المملكة السومرية، وظهرت مملكة مصر القديمة التي وحدها الملك مينا، أما في اليمن فتشكلت بعض الإمارات ولعل أقدمها مملكة قتبان، بينما نجد العديد من الممالك الصغيرة في بلاد الشام ومن أهمها مملكة إيبلا أو عبيلاء.

أما الأقوام التي امتهنت الرعي فبقيت تجول بقطعانها عبر البوادي الممتدة ما بين الشام والعراق وشمال ووسط الجزيرة العربية، أي في مثلث البادية السورية العراقية (بادية الشام) الذي تكلمنا عنه سابقاً، وهذه الأقوام تعد جميعها من العرب الساميين، وهي قبائل متعددة لم تردنا أسماءها بشكل تفصيلي بل وصلنا اسم عام لها هو العموريون، وذلك من الكتابات السومرية القديمة والتي تعني سكان الغرب، وينطوي تحت هذا المسمى كل من الأكاديين والبابليين والآشوريين والكنعانيين وغيرهم من الأقوام التي لم تردنا أسماءها.

نطاق ترحال الأقوام العربية السامية

وهذه الأقوام كان نطاق ترحالها وتنقلها يشمل مثلث البادية السورية العراقية (بادية الشام)، بل يزيد عليه في كثير من الأحيان، فقد تتوغل في أعماق صحاري الجزيرة العربية، ومن ثم تعود للبادية، وقد تدخل مناطق الحاضرات في الشام والعراق بعبورها لنهري دجلة والفرات شرقاً ولنهر العاصي غرباً.

وهذه الأقوام تتنقل من الأطراف الشمالية لوسط الجزيرة العربية جنوباً (أي من الحدود الشمالية لهضبة نجد) حتى أعالي الفرات شمالاً، ومن أطراف الهضاب الشامية غرباً حتى ضفاف الفرات شرقاً، والأقوام العربية السامية هذه  تعد من السكان الأصليين لمنطقة مثلث البادية، والتي استقرت فيها بعد الطوفان، إذ لا يعقل أن تبقى هذه المنطقة بدون سكان بينما تملأ القبائل السامية الجزيرة العربية، وهم تكاثروا في هذه المنطقة وازدادوا عدداً وقوةً، وبدأوا يطمحون في السيطرة على الحاضرات القائمة في العراق والشام، وبالتالي شكلوا رافداً بشرياً لهذه البلدان.

فمثلث البادية يرفد العراق والشام وحتى مصر بدمٍ جديد، بينما ترفد الجزيرة العربية مثلث البادية بدمٍ جديد آخر يحل محل الدم القديم الذي ذهب للحاضرات في الشام والعراق ومصر، والأقوام التي أقامت في مثلث البادية ذلك الوقت لا تعد من العرب العاربة، وإنما سكان وسط وجنوب الجزيرة العربية في ذلك الوقت يعدون عرباً عاربة، ومنهم قوم عاد الذين أسسوا أقدم مملكة في التاريخ كما سنرى لاحقاً.

وبما أن المنفذ البري الوحيد للجزيرة العربية يقع في الشمال، فإن ذلك سيدفع بالقبائل العربية التي ستهاجر عبر هذا الاتجاه إلى مثلث البادية، فيضغطون بذلك على الأقوام التي تقطن في ذلك المثلث، مما يدفعها للاقتراب من الحاضرات أكثر وحالما تهرم الممالك القائمة في هذه الحاضرات وتشيخ حتى تبدأ هذه الأقوام بالسيطرة التدريجية عليها.

نظريتنا المسماة بالهجرة المزدوجة أو الإزاحة الديموغرافية

وفقاً لدراستنا السابقة لهجرات الأقوام السامية العربية، فإننا توصلنا لنظرية مفادها أن هذه الهجرات تتمثل بهجرتين متتابعتين، تكون الأولى على يد الأقوام الأبعد عن بادية الشام أي التي تجيء من شبه الجزيرة العربية، وهجرة تلك الأقوام تنتج عنها الهجرة الثانية من بادية الشام نحو الحاضرات في الشام والعراق، فحسب رأينا لا بد من التمييز بين شكلين للهجرة هما:

((الهجرة الأولى من الصحراء إلى البادية، والهجرة الثانية من البادية إلى الحاضرة)).

فالهجرة الأولى تنطلق من صحاري الجزيرة العربية نحو بادية الشام لتضغط على القبائل القاطنة هناك، فتندفع هذه بدورها لتضغط على الحاضرات في الشام والعراق، مما يولد الهجرة الثانية من البادية إلى الحاضرة، ويمكن أن نسمي نظريتنا هذه في الهجرات والتحركات البشرية بنظرية الإزاحة الديموغرافية أو الهجرة المزدوجة.

فالقبائل العربية في الجزيرة العربية تندفع للخارج لأن مناخ الجزيرة العربية وقلة مواردها يشكل عامل طرد ونبذ لسكانها نحو الخارج، وحيث أن المنفذ البري الوحيد هو الشمال وينفتح على مثلث البادية (بادية الشام) فإنها ستندفع نحوه، ولن تنطلق نحو الحاضرات فوراً لأن الانتفال الاجتماعي للحاضرات لم ينضج بعد، وهذه القبائل غالباً ما تكون قوية ومتعصبة وشديدة البأس، بينما القبائل التي تسكن بادية الشام والتي مضى على استقرارها فيها بضع مئات من السنين، نجد أنها أصبحت أقل صرامة وتعصباً، وقد نضجت للدخول في الحاضرات والاندماج بها، وهي تندفع نحو الحاضرات بعامل جذب نحو تلك الحاضرات ناتج عن رغبتها في الاستقرار والتمدن.

وغالباً ما تنتصر القبائل الوافدة من الجزيرة العربية على القبائل المتواجدة في بادية الشام، بسبب شدتها في القتال وتعصبها الأعمى، إلا أن الطور الاجتماعي الذي تعيشه يجعلها في حالة صراع وكر وفر بين الصحراء والبادية، فما أن تتحسن ظروف الصحراء حتى تعود بسرعة إليها، وعندما تسوء تعود نحو البوادي وهكذا…..

بينما القبائل التي اندحرت في البادية تقترب من الحاضرات أكثر وأكثر وتدور في فلكها، فتنتقل للاستقرار الجزئي أو ما يسمى بحالة نصف الاستقرار، وتدخل في عملية كر وفر بين الاستقرار والترحال، حتى تستقر تدريجياً وتندمج في الحاضرات لتستقر في الأرياف وتمتهن الزراعة، أو في المدن وتمتهن النشاطات التجارية أو العسكرية والإدارية.

فيديو مقال هجرات الساميين (1)

أضف تعليقك هنا