هجرات الساميين (2)

إن دراستنا للهجرات السامية والتي تعد أغلبها هجرات عربية فإننا نميز ست موجات رئيسية من هجرات تلك القبائل تفصل بين كل هجرة مدة زمنية تصل لألف عام، مع وجود هجرات صغيرة هنا وهناك تخلل تلك الفترات، فحركة ترحال القبائل العربية لم تهدأ على مر السنين.

الموجات الرئيسية لهجرات القبائل العربية

وإليكم هذه الموجات عبر تسلسلها الزمني:

  • الموجة الأولى:

    • بالعودة للحركة الديموغرافية في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد، نجد أن قسماً كبيراً من القبائل العربية اتجهت شمالاً، وذلك نتيجة القحط والتصحر الذي حل بالبلاد إثر انهيار مملكة عاد بالريح الصرصر العاتية، وكان من ضمن هذه القبائل بقايا عاد.
    • وهذه القبائل بدأت تشكل ضغطاً على الأقوام السامية الموجودة في مثلث البادية، الأمر الذي دفع ببعض هذه الأقوام باتجاه الحاضرات القريبة، ولعل أول قوم استطاعوا اجتياح الحاضرات هم الأكاديون الذين اقتحموا المملكة السومرية مؤسسين بذلك مملكة صغيرة إلى جوار المملكة السومرية، وتدريجياً دانت لهم جميع العراق لتتحول مملكتهم إلى امبراطورية واسعة تسيطر على أغلب الشرق القديم وذلك حوالي عام 2500ق.م.
    • ولا بد أن هذه الحركة قد دفعت ببعض القبائل في عمق مثلث البادية، لتندرج تحت اسم العموريين الذي ظل يشمل كل القبائل القاطنة في مثلث البادية باعتباره يقع إلى الغرب من بلاد الرافدين، إذاً فأول هجرة مزدوجة من الصحراء إلى البادية ومن البادية إلى الحاضرة كانت في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد، والتي رفدت من خلالها الجزيرة العربية مثلث البادية بدمٍ جديد الذي بدوره رفد الحاضرات في الشام والعراق بدمٍ جديد أيضاً.
  • الموجة الثانية:

    • أما الموجة الثانية من هذه الهجرات المزدوجة فجاءت في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد، حيث هاجرت العديد من القبائل العربية من جنوب الجزيرة العربية وبالأخص اليمن، ومن بينها قبيلة جرهم باتجاه الشمال، ونتج عن ذلك أنها دفعت بأقوام عديدة من العموريين باتجاه بلاد الرافدين كالبابليين الذين سموا بهذا الاسم فيما بعد نسبة لمدينتهم بابل، وكذلك القوم الذين أسسوا مملكة ماري، والآشوريون الذين اندفعوا إلى شمال العراق، كما دفعت هذه الهجرات أيضاً بالكنعانيين إلى داخل بلاد الشام حتى الساحل ليؤسسوا هناك إمارات عديدة، ودفعت أيضاً بالآراميين من قاعدة مثلث البادية نحو أعماق سورية، ليتنقلوا على طول البادية السورية من أطراف غور الأردن الشرقية جنوباً حتى بادية حماه شمالاً.
  •  الموجة الثالثة:

  • أما الموجة الثالثة من هذه الهجرات المزدوجة فكانت في منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، إذ اندفعت العديد من القبائل من جنوب الجزيرة العربية ووسطها باتجاه الشمال، فضغطت على الأقوام المقيمة في مثلث البادية، واضطرتها لأن تقتحم الحاضرات القائمة في الشام والعراق، ولعل أهم الأقوام التي تعرضت لهذا الضغط مما دفعها لاقتحام الحاضرات هم الآراميون، ولا تطالعنا الروايات التاريخية بأسماء الأقوام التي اندفعت من جزيرة العرب، واجتاحت مثلث البادية ولكن هناك أسماء لأقوام جاء ذكرها مقروناً بذكر الآراميين كالخابيرو والأخلامو.
  • الموجة الرابعة:

    • أما الموجة الرابعة من هذه الهجرات المزدوجة فكانت في منتصف الألف الأول قبل الميلاد، إذ اندفعت العديد من القبائل العربية كالأنباط والتدمريون وغيرهم شمالاً ليزيحوا الأقوام المقيمة في مثلث البادية باتجاه الحاضرات مولدين بذلك الهجرة الثانية من البادية إلى الحاضرة، وكان الكلدانيون من أهم الأقوام التي دُفعت باتجاه الحاضرات، حيث أسسوا إمبراطورية واسعة اجتاحت جميع البلدان بما فيها الجزيرة العربية.
  • الموجة الخامسة:

    • أما الموجة الخامسة من هذه الهجرات المزدوجة فكانت في منتصف الألف الأول بعد الميلاد، إذ اندفعت العديد من القبائل العربية كالغساسنة والمناذرة باتجاه الشمال لتشكل كل منها إمارات على أطراف مثلث البادية الذي كان يشكل في ذلك الوقت حداً فاصلاً بين الروم والفرس، وتتوجت هذه الهجرة بخروج العرب المسلمين في القرن السابع الميلادي والتي تعد من أعظم الهجرات وذلك أنها لم تكن هجرة من الصحراء في الجزيرة العربية إلى مثلث البادية كغيرها من الهجرات السابقة وحتى اللاحقة، بل كانت هجرة مباشرة من أعماق الصحراء إلى أعماق الحاضرات، وذلك لكونهم يحملون رسالة حضارية تعد من أشرف الرسالات ألا وهي رسالة الإسلام.
  • الموجة السادسة:

    • أما الموجة السادسة من هذه الهجرات المزدوجة فكانت في منتصف الألف الثاني بعد الميلاد، إذ اندفعت العديد من القبائل العربية كقبائل عنزة وشمر وغيرها باتجاه مثلث البادية لتزيح الأقوام التي كانت تجوب هذا المثلث، وتدفعها باتجاه الحاضرات في الشام والعراق، ومن ذلك إزاحة قبائل عنزة لكل من بني صخر والموالي باتجاه فلسطين وسوريا الداخلية، وإزاحة شمر للكثير من القبائل باتجاه الجزيرة السورية ووسط العراق.

والهجرات الأخيرة استمرت حتى القرن التاسع عشر الميلادي، وبلغت أوجها باندفاع القبائل العربية باتجاه بلاد الشام ضمن ثورة الشريف حسين وابنه فيصل، إلا أنها لم تصل لحد السيطرة على البلاد وتأسيس مملكة فتية لعدة أسباب من أهمها:

  • الاستعمار الأوروبي للبلاد.
  • وتأسيس المملكة العربية السعودية.
  • واكتشاف النفط.
  • والطفرة العمرانية في بلدان الجزيرة العربية.
  • كل ذلك أدى إلى حدوث هجرة عكسية من مثلث البادية باتجاه الجزيرة العربية بلغت أوجها في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين.

وبناء على هذه الهجرة العكسية ونتيجة انتقال غالبية سكان الجزيرة العربية من نمط الحياة البدوية إلى نمط الحياة المدنية، فإن البداوة اضمحلت هناك بل تلاشت، الأمر الذي يعني أن الرافد البشري النابع من الجزيرة العربية قد نضب بسبب انتهاء التجمعات القبلية المتنقلة، مما يعني عدم حدوث هجرات كالهجرات السابقة من الصحراء إلى مثلث البادية.

وإذا ما انتهت الأسباب المؤدية للاستقرار المدني في الجزيرة العربية كتلاشي المخزون النفطي، فإن ذلك سيدفع بهجرة تختلف تماماً عن غيرها من الهجرات السابقة إذ أنها ستكون هجرة طاقات بشرية وأموال باتجاه الحاضرات في الشام والعراق وغيرها، ما لم تؤدِ الاستثمارات الضخمة في الجزيرة العربية إلى إعادة تأهيلها من جديد بالزراعات والصناعات المتطورة، وبالتالي تتحقق نبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم من أن الساعة لن تقوم حتى تعود جزيرة العرب مروجاً وأنهاراً.

فيديو مقال هجرات الساميين (2)

 

 

 

أضف تعليقك هنا