أصوات الرصاص، قصة حقيقية

المطر لا يكاد يتوقف، إنها مجرد عشر دقائق من الغيث، لكنك تشعر وكأنها تمطر منذ الأزل، تتوقف الحافلة المثقلة بشتى أصناف المنكوبين، نُقذف خارجها كما لو كنا حشرات تسحق بدون أي رحمة أو شفقة، التعليمات واضحة، كلٌ يحمي نفسه، لا تنظر خلفك إطلاقاً، بل لا تنظر أمامك حتّى.

لقد جُنِّدنا من أجل هذه اللحظة

فقط احنِ رقبتك واركض، أسرعت نحو موقعي، لقد جُنِّدنا من أجل هذه اللحظة، بل إنها كل ما نفكر فيه منذ زمن… حسنًا لا أستطيع أن أجزِم بهذا الخصوص، لكن حتمًا منذ زمن بعيد… حرصت على اتِّباع التعليمات بحذافيرها، جهِّز سلاحك، لقِّم السلاح، مشِّط المنطقة، راقب العدو… كلها تعليمات حفظناها عن ظهر قلب.

الجندي الذي يسقط يوضع على جسده وسام الشجاعة

كيف لا وقد تلقيناها في أقذر الظروف، إنهم لا يريدون عودتنا داخل صناديق الصنوبر تلك، أجسادًا طريحة العَلَم، وأرواحًا تمتزج مع عبير هواء الوطن… لا، حثما لا يريدون ذلك، وإن حدث وسقط أحدنا، وضعو على صدر جثته وسام الشجاعة، ليعودوا ليلًا قصد نبش القبر واسترجاع قطعتهم المعدنية، حسنًا، لم تكن من نصيبنا منذ البداية.

أخذت المنظار وشرعت في مراقبة ساحة المعركة، دخان منتشر هنا، ورصاص متطاير هناك، هذا أحدهم يحشر سكينه في أعماق قلب عدوه، وذاك فاشل يتجرع قطرة سَمٍ هروباً إلى عالم أقل قسوة، في ظروف كهذه، كل ما يمكنك سماعه هو الصراخ، صراخ شبيه بذلك الطنين الوهمي الذي يرتفع كلما آمنت بأنه حقيقة، حتى يتمكن منك في النهاية.

الشعور بالسعادة لا يُفرز إلا بإسقاط العدو، هكذا رؤى التجنيد

تشعر وكأن رأسك قد انفجر ونُسِف إلى أشلاء، ربما الطنين وعويل الحرب ذاك كانا يتشاركان في نقطة الوهم، لكن من يستطيع أن يجزم أيهما كان وهما… حقيقة أن زميلي يغرس سِكِّينًا في جسد مواطن من بني جنسه فينتزع أحشاءه ليَتلطَّخ وجهه بالدم المتطاير من شرايين الثائر الممزقة.

فيبدأ في الصراخ بشكل هستيري ناظرًا إلى السماء في لوحة بربرية أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها الهمج بعينه، أم وهم أرض الأحلام تلك التي تخيلها البائس قبل تجرع آخر قطرة سم من قنينته الزجاجية داكنة اللون، ربما مقياس الوهم والحقيقة يسقطان في سبيل معايير أخرى عند هؤلاء البشر.

معايير من قبيل الإنسان تجاه أخيه الإنسان، لكننا تعلمنا ونحن جنود متدربين أن نتجرد من صفاتنا الإنسانية، تعلمنا أن الشعور بالسعادة لا يفرز الا بإسقاط العدو، والشعور بالحزن لا يعبر عنه إلا بسقوط القائد، أما الشعور بالحب والحنين، فللبندقية ورائحة البارود فقط.

تقولبت المشاعر حسب رؤى التجنيد، فهل تحول المجند إلى محض مترجمٍ لتلك الرؤى؟

توقف إطلاق النار فترجلت من مكاني لأعاين اضرار هذه الحرب الأهلية البئيسة بؤس تضحية عيسى بل وأكثر، لقد اعتدنا أن نشاهد إشراق الشمس من جديد في أفلام هوليود بعد نهاية الحرب، لكن صدقوني، لقد ازدادت شدة المطر، والوحل قد امتزج مع الدماء فأصبح أكثر تعلُّكًا.

لقد كانت الحافلة الشاحبة اللون والتي طُلِيَ أطرافها بلون الطين العكر واقفة متجمدة هناك كما هي عادتها كل يوم، بل على مدار الساعة، تحمل المنكوبين نحو مكاتب العمل فِداءً للوطن، وما المقابل؟

حفنة من المال يسترجعونها في أول أسبوع بعد سدادها لنا، فهي لم تكن من نصيبنا منذ البداية… وهاهي حافلة صفراء يتوصطها خط الحداد الأسود تقل الأطفال نحو مدارس تجندهم حتى يصبحون رجال ونساء المستقبل كما يخبرونهم، فتشكل أحلامهم وتجردهم من إنسانيتهم وتعلمهم كيف يشعرون ومتى يشعرون ولأي أسباب وجب الشعور.

كيف يحول الوهم المجندين من نفوسٍ طيبة إلى شريرة؟

في الزاوية هناك يرتكن ذلك الفاشل البائس وفي يده قنينة زجاجية داكنة اللون مملوءة عن آخرها بحبوب مهلوسة، حبوب تأخذه من عالمنا هذا الى آخر أقل قسوة، لكن عندما يستيقظ، فإن كل ما يسمعه هو الصراخ، صراخ أشبه بالطنين، لقد ظن البائس أنه قد إنتقل إلى الحقيقة، لكن لا شيء حقيقي.

كل شيء ماهو إلا وهم أو امتداد للطنين، إننا نحشر السكاكين في قلوب بعضنا كل يوم، نؤلم بعضنا البعض، نكبت المشاعر الجميلة ونطلق العنان للشر داخلنا، نسيل دماء الكرامة، نجرح قلوب الضعفاء، نحول المنافسة الشريفة إلى حرب باردة…
حسنًا…! قد تكون كلها سكاكين من الوهم، لكن من يستطيع أن يجزم أيهما كان وهمًا.

فيديو مقال أصوات الرصاص، قصة حقيقية

 

 

 

أضف تعليقك هنا