إشكالية التأويل في الفكر العربي الإسلامي

 مقدمة

تأتي أهمية فعل التأويل من بعده المعرفي من جهة، ومن بعده الإيديولوجي من جهة أخرى؛ إذ يصعب الحديث عن ممارسة تأويلية خالصة مهما بلغت من قوة في استعمال القواعد والضوابط اللسانية والمنهجية والمعرفية المختلفة، لارتباطها بنفسية المؤول وبفهمه الخاص، وهذا أمر طبيعي يمكن تجاوزه بمعرفة قواعد وآليات التأويل وبأسسه ومداخله واستيفاء شروطه فكل هذا سيمكن لا محالة من تحقيق الفهم بين مؤول ما ومتلق معين حول قضية معرفية أو تداولية.

بيد أن الأمر مختلف تماما حينما نكون بصدد تأويل قضية عقائدية تعانق المقدس وتخاطب الناس قاطبة، ففي واقع هذا الأمر نشأ الفعل التأويلي العربي؛ وبالتالي لا غرابة في طبيعة الانتقالات والتغيرات التي عرفها والانتكاسات والمفارقات التي وقع فيها، بل إن المسار الذي قطعه منذ بدايته رغم ما سجل فيه المؤرخون من مؤاخذات وملاحظات معظمها تسيء إليه هو مسار طبيعي بالنظر إلى طبيعة الموضوع الذي اتصل به وهو “النص القرآني” الذي يجعل من ممارسته مهما بلغت من قوة في الوعي بأسس التأويل ومنطلقاته مغامرة وجرأة ما بعدها جرأة.

فالانعطافات الكبيرة التي شهدتها التأويليات العربية والانقسامات الإيديولوجية والمذهبية التي أذكتها راجعة إلى النتائج ومخرجات التي انتهى إليها خطاب المحاورة بين العقل والنقل، ففي بدايته استكان للنقل واستسلم لظاهره والاكتفاء بشرح وتفسير منطوقه، غير أن هذا لم يصمد أمام الأسئلة التي يطرحها هذا الظاهر بخصوص قضايا عقائدية غير محكمة، فرضت على العقل ضرورة التدخل لفهمها بالبحث عما يبررها، غير أن طلق العنان لعقل المؤول أدى به إلى فهوم متعددة وبالتالي خلافات متعددة هي سر ما وقعت فيه الفرق الكلامية من تفرقة وتشتت، فبزغ إثر ذلك اتجاه وجه حوار العقل والنقل بقواعد وضوابط تبين حدود كل جهة محاولة تأسيس نسق توفيقي للتأويل. فما هي خصوصية كل اتجاه؟ وما منطلقاته وأسسه في تأويله للنص القرآني؟ وما هي بعض النماذج الإجرائية التي تبصرنا بإشكالية التفسير والتأويل في الفكر العربي عموما؟

تصميم الموضوع

  • مقدمة1
  • مدخل عام3
    • 1) ثنائية التفسير والتأويل3
    • 2) في سبيل تأطير الموضوع واستشكال محاوره5
  • المحور الأول: الاتجاه الحرفي7
  • المحور الثاني: الاتجاه التأويلي10
    •  تيار المتكلمة    12
    •  تيار الفلاسفة    25
    • 3  تيار المتصوفة29
  • المحور الثالث: الاتجاه التوفيقي31
  • خاتمة34

مدخل عام

يدفعنا الالتباس والغموض الحاصل في تحديد المفاهيم وضبطها في الفكر العربي الإسلامي خاصة مفهومي التفسير والتأويل إلى وقفة تكشف عن حدود كل مفهوم وتضع المعنى المراد لكل واحد منهما في سياقه المناسب عند كل اتجاه من الاتجاهات والفرق التي غاصت في جدلية المحكم والمتشابه من دون أن تسائل حدود كل مفهوم والإبستيم المعرفي الذي يؤطره. فما هي أولا الاستعمالات المتفاوتة لهذين المفهومين في النسق العربي القديم؟ وما هي الحدود الفاصلة بينهما؟

  • ثنائية التفسير والتأويل

أولا: مفهوم التفسير:

التفسير لغة مصدر من فعل فسًر، ومنه يقال: “أسفر الصبح” بمعنى تجلى وانكشف. والتفسير على هذا الجدر اللغوي لا يخرج عن معنى الإبانة والكشف والإيضاح. واصطلاحا: ذهب بعض الباحثين منهم صاحب كتاب: “التفسير والمفسرون” (محمد حسين الذهبي) إلى أن هذا المفهوم صعب التحديد؛ بل إنه خارج عن العلوم التي يتكلف لها حد؛ على اعتبار أن قواعده عير مرسومة ومحددة في إطار واضح؛ فآلياته وأدوات اشتغاله مأخوذة من أنساق معرفية ولغوية مختلفة(علوم الفقه، علوم اللغة والبلاغة…)؛ ومنه يكفي أن نقول في تعريفه بأنه ذلك المبحث الذي يعنى ببيان كلام الله، أو أنه المبين لألفاظ القرآن ومفهوماتها”. 

ويرى البعض الآخر بأن التفسير لا يرقى إلى مستوى العلم المتسق القواعد، فهو مجرد ملكة ذهنية مساعدة، وقاعدة جزئية موظفة مع قواعد أخرى كالصرف والنحو لمقاربة خطاب ما.

ثانيا: مفهوم التأويل:

التأويل لغة من أول يؤول تأويلا؛ أي رجع يرجع رجوعا، وقيل التأويل من الإيالة بمعنى السياسة؛ فكأن المؤول يسوس الكلام، ويضعه في مواضعه، وقد جاء في كتاب أساس البلاغة للزمخشري قول يؤكد هذا المعنى الأخير، فهو يقول: “آل الرعية يؤولها إيالة حسنة، وهو حسن الإيالة، وائتالها، وهو مؤتال لقومه مقتال عليهم، أي سائس محتكم”. أما في الاصطلاح، فالأمر مختلف تماما عما في التداول والمعروف. لماذا؟ 

هو اختلاف راجع من جهة إلى الخلط بينه وبين مفهوم التفسير خاصة عند الأوائل ممن استعملوا هذا المفهوم في ثقافتنا الإسلامية، وإلى غياب إطار معرفي ونسق ابستيمي خاص بكل مفهوم يضع له حدودا وقيودا تميزه عن غيره من جهة ثانية، هذا إضافة إلى اعتبارات إيديولوجية وطائفية مختلفة.

فالتأويل عند السلف -على سبيل تأكيد هذا التداخل واللبس الحاصل بينه وبين التفسير-يعني إيضاح الكلام وتبيان المعاني التي يكتنزها والإسفار عن المراد منه سواق وافق ظاهر النص أو خالفه؛ فيكون التأويل والتفسير على هذا مترادفين.

بينما التأويل عند المتأخرين من المتفقهة والمتكلمة والمحدثة والمتصوفة يفيد معنى آخر مخالف للأول، فهو عندهم جميعا “صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به”، وهو المعنى الأقرب لدلالة هذا المفهوم اللغوية الخاصة به من الدلالة الخاصة بالتفسير؛ فهو يتجاوز مستوى الشرح والإبانة لظاهر اللفظ إلى مستوى الكشف عن المستور منها، إنه عملية ذهنية وفعل منظم يقتضي من المؤول تفعيل مطلبين اثنين:

  • الأول: أن يبين احتمال اللفظ للمعنى الذي حمله عليه وادعى أنه المراد؛
  • الثاني: أن يبين الدليل الذي أوجب صرف المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح.

فالتأويل بهذا المعنى في حاجة إلى معرفة ودراية بمسالك المعنى وقواعد المبنى خلاف التفسير المرتبط بظاهر اللفظ، وعلى الرغم من هذا فإن جدلية الخلاف والخلط في استعمال المفهومين ظلت قائمة. فهذا أبو عبيدة وطائفة معه، يستعملون “التأويل والتفسير بمعنى واحد”، فهما مترادفان، وهذا هو الشائع بين المتقدمين من علماء التفسير. وما يؤشر على هذا قول الراغب الأصفهاني: “التفسير أعم من التأويل وأكثر ما يستعمل التفسير في الألفاظ والتأويل في المعاني.

لكن هذا لا يمنع من وجود علماء خاصة بعض المتأخرين منهم استطاعوا إدراك ذلك الخيط الرفيع بين التفسير والتأويل، ومن هؤلاء: أبو طالب الثعلبي: “التفسير بيان وضع اللفظ إما حقيقية أو مجازا، كتفسير الصراط بالطريق، والصيب بالمطر، والتأويل تفسير باطن اللفظ، مأخوذ من الأول، وهو الرجوع لعاقبة الأمر، فالتأويل إخبار عن حقيقة المراد، والتفسير إخبار عن دليل المراد.” 

وفي السياق ذاته يقول البغوي وقد وافقه الكواشي “التأويل هو صرف الآية إلى معنى محتمل يوافق ما قبلها وما بعدها، غير مخالف للكتاب والسنة عن طريق الاستنباط، والتفسير هو الكلام في أسباب نزول الآية وشأنها”

وقالت طائفة بناء على هذا الفهم الأخير: “التفسير يتعلق بالرواية، والتأويل يتعلق بالدراية”؛ وذلك لأن التفسير يكشف دلالة اللفظة بالعودة للمعجم لشرحها وإيضاحها فحسب، في حين أن التأويل يعود للمعنى في مساقاته المختلفة المعجمية أولا ثم السياقية والمعرفية والتداولية، إنه مجال للاجتهاد والترجيح والتدليل بالرجوع إلى كل ما من شأنه أن يساهم في تحقيق فهم المقصود سواء أكان داخل النص أو خارجه. خاصة النص الديني الذي يتصف بظاهر جلي يفهم بالتفسير وباطن خفي مفتاحه التأويل.

  • في سبيل تأطير الموضوع واستشكال محاوره

إن مقاربة موضوع التأويل في الفكر العربي الإسلامي منذ لحظة النشأة إلى لحظة بناء الأسس والمرجعيات مقاربة نسقية لأمر يستدعي من الباحث الوقوف بعجالة عند سياق الانطلاقة الأولى لهذا الفعل؛ لأن هذا سيسعفنا على فهم سبب ذلك الخلط الحاصل بينه وبين التفسير، واستعمال الواحد منهما مكان الآخر رغم وضوح دلالة كل مفهوم انطلاقا من المعنى المعجمي.

فهذا الاستعمال الزئبقي المتلون للمفهومين لا يعني -كما يذهب بعض الدارسين كما سبقت الإشارة- عدم وعي أصحاب هذا الاستعمال من العلماء والفقهاء العرب بحدود كل مفهوم وسماته الدلالية، فمن غير المعقول ولا المقبول أن نعتبر رجلا علامة بحاثا في حقل الفكر واللغة لا يعرف الفرق بين المفهومين، وإنما حقيقة هذا الاستعمال محكومة بأسباب مذهبية إيديولوجية أكثر منها لغوية معرفية، خاصة وأن ممارسة فعل التأويل في ذلك الحين  لم تكن بالأمر اليسير بتاتا عند المفكرين والمتكلمين العرب المسلمين.

فارتباطها الشديد بخطاب ديني وبكلام إلاهي رباني شيد حضارة مجتمع بآسره -هذا فقط في مرحلته الأولى-ووجه مسارات حياة أفراده عقيدة وسلوكا ومعاملة، أمر جعل من ممارسة التأويل مغامرة لا تسلم من مخاطر، خاصة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان الفضل في حق الحق وإبطال الباطل إذا حصل خلاف أو نزاع في تأويل آية ما يرجع إليه عليه الصلاة والسلام. 

فكان من الطبيعي أن يقع تشتت في الفهم والتباس في تأويل آي القرآن خاصة المتشابه منها؛ فتعدد فهوم الناس واختلاف وجهات نظرهم وتفاوت مستويات إدراكهم لمعاني الآيات وإحكامها واستحالة الاتفاق حول معنى واحد تسكن إليه نفوسهم أدى بهم إلى النزاع والخلاف والانقسام، ومع بداية تسرب المرجعيات الفلسفية والمنطقية استمرت سيرورة الانقسام بشكل مهول فنشأت على إثرها مذاهب واتجاهات وفرق وطوائف، لا يمكن لباحث أن يدعي القبض عليها كاملة؛ ويمكن التمييز في إطارها عموما بين ثلاثة اتجاهات كبرى وهي:

  • الاتجاه الحرفي مع الحنابلة والظاهرية.
  • الاتجاه التأويلي مع الشيعة والخوارج والصوفية والفلاسفة والمعتزلة.
  • الاتجاه التوفيقي مع الشاطبي والأصوليين السنيين عموما.

فما خصوصية كل اتجاه؟ وما أهي أبرز طوائفه والفرق المشكلة له؟ وما هي طريقة تأويلهم للنص القرآني؟ وما طبيعة الإشكالات والخلافات القائمة بينهم؟ وغيرها من الأسئلة التي ستأتي خي خضم هذه المحاولة الهادفة إلى تحليل ومناقشة إشكالية فعل التأويل في الفكر العربي الإسلامي.

المحور الأول:

الاتجاه المعرفي

واضح من صفته أن التأويل عند أصحاب هذا الاتجاه لا يتعدى مفهوم التفسير، رغم استعمالهم مفرد التأويل بغرض التنصيص على مذهبهم ليس إلا؛ والذي يمضي في اتجاه الصمت عن معنى المعنى والاكتفاء بشرح وتفسير ظاهر النص تجنبا للفتنة والنزاع والاختلاف في تخريج المعاني الباطنية المقصودة وبالتالي الوقوع في الخلاف والشقاق والفتنة.

ولذلك فهم لا يعترفون بوظيفة التأويل ويعدونها أمرا غير شرعي؛ وبالتالي فصاحبه مبتدع مسرف خاصة الحنابلة والظاهرية: “فقد كان الحنابلة يحاربون كل ميل إلى التأويل، وإن كان قليلا”؛ على اعتبار أن ذلك سيؤدي إلى متاهات غير متناهية المعنى، وبالتالي الوقوع في نزاعات وخلافات غير متناهية وفتن تضرب في المعتقدات وتزعزع الثوابت؛ وعلى هذا  فهم يوثرون الصمت عن مثل هذه المعاني ويكتفون في التأويل بشرح ظاهر النص، ومنه وصفوا بالظاهرية؛ لأن المعنى عند هؤلاء قابع في ظاهر اللفظ ولا وجود له خارج حدود الكلمات والعبارات، إنهم “يرون أن لا وجه في النص إلا الوجه الظاهر، وأن اللفظ لا يحتمل إلا معنى واحدا، فالمعنى على هذا الرأي، ظاهر بذاته، بين بنفس العبارة التي تلي أو كتب بها، ولا يحتاج إلى شرح أو تبيان

فممارسة التأويل عند رواد هذا الاتجاه ليست بالممارسة الفكرية الذهنية التي تفتح النص على مسالك المعنى المرجوح المراد في باطن لفظه بقدر ما تكون مجرد ممارسة لغوية بلاغية لسانية تقف عند ظاهر النص شرحا وإيضاحا وتفسيرا، وإذا ما وجدوا أنفسهم أمام نص يقتضي إعادة الصياغة والبناء لفهم معانيه المتشابهة فإنهم حينئذ يوثرون الصمت على الكلام حتى لا يقعوا في المزايدات الدلالية وبالتالي الخلاف والنزاع في تخريج الحكم الشرعي، فهم لا يتجرؤون بتاتا أي يضيفوا شيئا من عندياتهم تجنبا للوقوع في المغالطات ومزالق التأويل التي لا يكاد يسلم منها ممارس مؤول، ولذلك يقفون عند حدود النص اللغوية والبلاغية فهو في اعتقادهم “تنصيص على المراد، والمعنى صريح، والقول محكم، والقصد جلي واضح”.

فهذا التنصيص والتأكيد على ظاهر اللفظ لا ينبغي أن يصرفنا إلى القول باكتفاء أصحاب هذا التيار بالاستدلال في قضية عقدية ما بالجاهز من النص كما هو بل إنهم يبذلون جهدا جاهدا في إحكام دلالته لكن ذلك المجهود ينفق داخل المستويات اللغوية للنظم القرآني في حدوده الظاهرة؛ فهم بهذا الاشتغال وقعوا في مأزق اللغة وانساقوا داخل حدودها وقيودها دون المعرفة بالأغراض المرادة من استعمالها على نحو دون آخر استحضارا لأنساق سياقية واجتماعية وعقدية ظاهرة في محيط هؤلاء وفي المناخ الإسلامي وملابساته عموما، إنهم بخلاصة لم يتجاوزوا تلك المآخذ المسجلة على اللسانيين المحدثين لارتباطهم الشديد اللغة والعمل على إحيائهم والتضحية في سبيلها بأصحاب هاته اللغة أنفسهم.

فالبراديغم السني ككل بمختلف أنصاره وزعمائه من أهل السنة والجماعة مبني على القاعدة الظاهرية لإيمانهم القوي بقضية تنزيه كلام الله عز وجل؛ بمعنى تفويض المعنى الظاهر والسكوت عن الآخر الباطن خاصة إن كان متشابها متشعبا يشغل الذهن ويسوقه لمعاني تختلف من شخص لآخر فيكون مآل ذلك النزاع والخلاف وبالتالي الوقوع في فتنة الانقسام والتشتت؛ فوعيهم الشديد بعواقب هذا النوع من التأويل هو ما يفسر حرصهم على تجنب الخوض في مفهموم التأويل كلية والوقوف فيه عند مستوى التفسير فقط، ولا أدل من ذلك على قول الإمام مالك رحمه الله لما سئل عن معنى الاستواء في قوله تعالى: “الرحمان على العرش استوى” فقال: “الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة”. 

الاتجاه المعرفي يضيق أفاق التأويل

من هذا المنطق، نخلص إلى تأكيد مدى محدودية هذا الاتجاه في تضييق آفاق التأويل أو بشكل أدق التضييق على العقل ووضعه في حدود وقيود لا تسمح له بتشغيل ملكاته لفهم المعنى المقصود ودفعه فقط للاستجابة للمعنى الذي أرادته اللغة في طياتها المعجمية. لكن السؤال المطروح هاهنا هو هل عمل أصحاب هذا التوجه الظاهري يوافق الصواب؟. هل هذا هو المطوب في التعامل مع النص القرآني؟ أغاية الراسخين في العلم الذين رشحوا للتأويل كما جاء في الآية الكريمة هي شرح وتفسير ظاهر اللفظ؟.

وفي أقصى الحدود تأويل معناه لكن داخل هذا اللفظ الذي يدفعهم إذ كان مستشكلا غامضا متشابها إلى السكوت وإيثار الصمت؟ ألا يمكن أن نقول بأن فهمهم هذا يجانب بعض الصواب؟ سيما أن الأدلة على ذلك كثيرة من النص القرآني ذاته الذي يحثنا على ضرورة تشغيل الذهن تفكرا وتدبرا وإعمال قدراته التي هبانا الله إياها لفهم معاني هذا النص وتخريجها من لفظها المعجز البليغ الذي تحدى أساطين اللغة وسلطتها المتداولة على الألسن وأبكم أفواه من ادعى محاكاته من البلغاء الفطاحلة.

ولعل خير ما يؤكد على شرعية التأويل الذي عده مناصري الظاهرية بدعة، ويفند دعواهم المشددة على الاكتفاء بتفويض الدلالة الحرفية قوله عز وجل: “أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها” ، أليس الأجدر بنا أن نسخر كل ما نملك من مهارات وكفايات لغوية ومعرفية ومنهجية في سبيل تدبر الآيات ومحاولة فهم معانيها المتعددة التي تكشف سر خلود هذا النص الصالح لكل زمان ومكان؟ هي أسئلة كثيرة طرحها الفكر العربي الإسلامي على البراديغم الظاهري الحرفي ودفعتهم إلى التفكير فيها ومساءلتها في حد ذاتها فأفضت بهم إلى مأسسة تصور جديد يرد له الفضل في بلورة وتطوير التفكير التأويلي عند العرب عموما، وهذا هو مدار اشتغالها في المحور الثاني.

المحور الثاني

الاتجاه التأويلي

في سبيل البحث عن وعي جديد لتأويل النص القرآني يمكن من إحكام آياته المتشابهة وفهم معانيها الملتبسة التي لم يتجرأ عليها أعلام الاتجاه الأول، ففي دائرة هذا البحث الذي يعد كما قلنا مغامرة محفوفة بالمخاطر والأهوال بزع أصحاب الاتجاه الثاني الذين أعلنوا خاصة بعدما تمكنت بعض فرقه من أدوات اشتغالها ومنطلقاتها المستاقة غالبا من الثقافات الأجنبية اليونانية والفارسية وغيرها أعلنوا  إذ ذاك ثورة على رواد الظاهرية والحرفية.

فهم يمضون في التيار المعاكس الذي يؤمن بأن ظاهر الحرف أو النص لا يجود بمعناه على قارئه إلا بعد مباشرة فكر ونظر إزاءه ومقابلته بوعي وتشغيل فكر وفهم متقد النظير؛ إن المعنى “لا يكون ظاهرا بذاته بينا بنفس عباراته الأولى، بل يحتاج دوما إلى إعمال واستقصاء أو استخراج واستنباط، فالمعنى في نظرهم ليس صريحا ولا يعطى مباشرة، بل هو خفي مبطن، أو غامض مستغلق، أو ملتبس مختلط، أو معمى ملغز”. فالمعنى وفقا لهذا القول المحتبك يبنى ولا يعطى، يصنع ولا يؤخذ.

ولما توفرت الشروط الموضوعية كان من الطبيعي أن تظهر فرق وطوائف تعنى بالبحث عن المعنى المقصود لتسديد المتشابه والملتبس الظاهر في لفظه، ولعل أبرز الشروط المحفزة على خوض هذه المغامرة بعد المسافة بين زمن التنزيل وفعل التأويل، هذا الأخير الذي كان في مأمن مع زمن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم، إضافة إلى بزوغ خلفيات معرفية وفلسفية تدعوا إلى مدى أهمية الفكر والتفكر والتفكير في تحقيق فهم الكل بدءا من الذات إلى الوجود.

هذا إلى جانب الالتفات إلى أن الكثير من آي القرآن تدعو إلى ضرورة ممارسة التفكير وإعمال التأويل لأجل فهم وإفهام المقاصد والمرامي البعيدة الخفية في ظاهر النص القرآني، سيما أن الكثير من آياته مستغلقة على فهوم الناس وقد تؤدي بهم إلى الكثير من المغالطات العقائدية إذا هم استسلموا في فهمها لظاهرها اللساني، ودرءا لمثل هذه العواقب والفتن فقد خص الله العلماء والراسخين في العلم لخوض مهمة التأويل وأمانة إفهام معانيه وأغراضه المرادة دون غيرهم، لذلك نجد في سياقات عديدة ومختلفة عبارات تؤكد وتنصص على ضرورة تدخلهم بحكمتهم لتأويل آياته عز وجل.

تأسيس علم الكلام

وفي جو هذا المناخ الملائم تأسس علم الكلام الذي تزعم ممارسة فعل التأويل لإزالة اللبس والغموض على الكثير من المسائل العقائدية الدينية بهدف التصدي للشكوك والفتن والرد على التحديات التي تطرح أسئلة على بعض الآيات المتصلة بصفات الله تعالى والقضاء والقدر وقد بلغت ذروتها لما انفتح الفكر العربي على ديانات الأجنبية القديمة، خاصة تلك الموجودة ببلاد الرافدين مثل الزراديشية والحركات الشعوبية إلى غيرها من التيارات التي أسهمت في نشأة هذا العلم.

وبالتالي أصبح فعل التأويل في خضم هذه الأوضاع شرطا لتحديها ومقاومتها، وسبيلا مكن علماء الكلام من مقاربة الكثير من الإشكالات العقائدية الإيمانية المطروحة، غير أن نشاطه الحقيقي ووجوده المفصلي لم يتحقق إلا في اللحظات التي غدت فيها التأويليات منهجا لكسب السلطة الإيديولوجية والسياسية معا؛ فهي المحرك الخفي لكل ممارسة تأويلية، فهذه الأخيرة لم يكتب لها البزوغ بمعناها الحقيقي إلا مع زمن” الصراع حول السلطة؛ حيث يقع التنازع على السلطة يقع التنازع حول من يملك النص؟ وهي سلطة أخرى رمزية تحضر بقوة لتشكيل الكتل الاجتماعية والسياسية ولخلق الحدث التاريخي، طبعا تشترك عوامل أخرى في خلق هذا، ولكن يبقى للرمز النصي حضوره ومعاودة نشاطه، ولذلك كانت النزاعات متمركزة في أغلبها حول علاقة القراءة بإشكالية الإمامة في الثقافة العربية الإسلامية”.

كل هذا وغيره مما لا يتسع المجال لذكره أذكى فعل التأويل وغذا منهجا عند أهل الكلام بمختلف طوائفه وفرقه لأجل تبرير منطلقات كل فرقة الإيديولوجية ومساقات ففهمها الخاص للقضايا العقائدية والاستدلال على أوجه صحتها وكسب رهان السلطة بالأخص من خلال الاتكاء على الممارسة التأويلية. فكيف تعاملت كل فرقة مع هذه الممارسة؟ وما منطلقاتها الكبرى في ذلك والسمات الدالة عليها عموما؟

قبل التصدي لمقاربة هذه الأسئلة التي ستبرز تجليات التأويل عند تيارات هذا التوجه الأكثر انسجما مع حقيقة هذا المفهوم على خلاف ما وقع فيه أنصار التوجه الحرفي الظاهري لابد بداية أن نشير إلى معطى أساسي ييسر عملية فهم طبيعة الممارسة التأويلية عند المؤولين العرب متكلمة كانوا أو فلاسفة دون إغفال المتصوفة أيضا؛ يتصل هذا المعطى بآليات التأويل التي ينبغي أن نميز في إطارها بين آليات خاصة (النحو، والصرف، والبلاغة..)  وهي مشتركة بين جميع هذه التيارات وتعد منطلقا لولوج بنية النص القرآني لسانيا، وآليات عامة مرتبطة بالمرجعية الخاصة بكل تيار وبنسقه المعرفي والإيديولوجي الذي يشتغل ضمن حدوده ومفاصلة ويوجه نتائجه ومخرجاته؛ وستتضح معالم هذا الصنف الثاني في خضم هذه المحاولة، ولتفعيل معطيات هذا الاتجاه ومقاربته نسقيا فإننا سنقتفي منهجية نركز فيها على خصوصية كل تيار؛ إذ إننا يمكن حصر هذا التوجه التأويلي ككل في تلاث تيارات كبرى وهي:

  • تيار المتكلمة
  • تيار الفلاسفة
  • تيار المتصوفة

وسنركز في كل تيار على النموذج الأكثر تمثيلا له؛ فالتيار الأول سنبرز أهم تصوراته لفعل التأويل تصورا وممارسة انطلاقا من بعض فرقه خاصة الخوارج والمعتزلة والشيعة، وسنقتفي المنهج نفسه في التيارين المتبقيين.

  1. تيار المتكلمة

تشير بعض الدراسات إلى أن تسمية علم الكلام قد ظهرت في عهد المأمون العباسي عبد الله ابن هارون الرشيد (198-218ه) ومع فرقة المعتزلة تحديدا باعتبارهم من الأوائل الذين أخذوا على عاتقهم مهمة الدفاع عن العقيدة الإسلامية من الشبهات التي تتسلل إليها من فرق واتجاهات متعددة، فسلكوا ردا على ذلك طريقا منطقيا استدلاليا على طريقة أرسطو، غير أن بدايات هذا العلم وإرهاصاته الأولى كانت قبل المعتزلة، ونجد في قول صاحب الممل والنحل (الشاهرستني) ما يؤكد هذا: “ثم طالع بعد ذلك شيوخ المعتزلة كتب الفلاسفة حين فسرت أيام المأمون، فخلطت مناهجها بمناهج الكلام، وأفرزتها فنا من الفنون”.

 ولعلنا غير مغالين في القول بأن الفضل في بعث هذا العلم يرجع إلى فرقة الخوارج باعتبارهم الأسبق لفعل التأويل وإعمال الفكر والنظر في الكثير من القضايا المحددة ضمن مجال هذا العلم، كقضية صفات الله وغيرها من المواضيع ذات الصبغة العقدية الإيمانية من جهة والملمح الاستدلالي العقلي من جهة ثانية. فمن هم الخوارج أولا؟ وما تجليات التأويل عندهم ثانيا؟

  • التأويل عند الخوارج

من المفيد منهجيا ومعرفيا قبل البدء في تأويليات الخوارج أن نقف عند مصطلح “الخوارج” وعلاقته بممثليه وسياق نشأته عموما، فلفظ الخوارج كما هو بين من صيغته مشتق من فعل خرج يخرج خروجا، بمعنى اعتزل موضع ما واستقل منه إلى موضع آخر، وعلى هذا الأساس اللغوي الواضح اتصلت صفة الخوارج  بطائفة من الناس لخروجهم عن الإمام علي كرم الله وجهه، وعن مذهب الناس عموما، فاتخذوا لنفسهم موضعا واتجاها مستقلا، وفي هذا يقول الشاهرستاني: “كل من خرج على الإمام علي الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجيا، سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين أو كان بعدهم على التابعين لهم بالإحسان و الأئمة في كل زمان”.

وقد ارتبطت نشأتهم بقصة ذو الخويصرة وهو مؤسس فرقة الخوارج كما وردت في الصحيحين وكتب الحديث النبوي والفقه، وقد اختلف الرواة في تحديد سبب وتاريخ النشأة (والأقوال في ذلك كثيرة) فهناك من يرد نشأتهم إلى أيام الرسول عليه الصلاة والسلام مع الخويصرة، وبعضهم يربطها بأيام عمر رضي الله عنه، لكن الراجح المتداول في كتب المؤرخين هو جعل نشأتهم لصيقة بفترة خلافة علي خاصة في معركة الصفين. فمنذ لحظة الخروج اتخذوا لنفسهم شعارا دالا على مذهبهم في مسألة الحكم والإمامة وهو:” لا حكم إلا لله”>

وهو الشعار الجامع بينهم رغم التفرق والتشتت الذي حصل بينهم لما تبلورت أسسهم في الكثير من الفروع، فأصبحوا فرقا وشيعا، لعل من أشهرها: الأزارقة، الاباضية، الصفرية، النجدة…). ولا بأس أن نشير إلى هذه الأصول التي تعد خلفية ومرجعية لتأويلاتهم، ولعل أبرز ما يميز أصول عقائد الخوارج أمران اثنان هما: تكفير مرتكب الكبيرة، والخروج بالسلاح على أئمة المسلمين وعامتهم الذين يخالفونهم، وعلة هذا الخروج تفسر بالعلة الأولى: فالذي خالف حكمهم المتمثل في شعارهم يعد مرتكبا لكبيرة وشأنه شأن من يتبعه ويسير على نهجه رغم ارتكباه لكبيرة الخلافة>

وبالتالي فهما مها في كفة واحدة، الأمر الذي يقتضي تكفيرهم، والتكفير يستوجب القتل، واستبدال الحاكم بآخر يستجيب ومذهبهم ويسلك طريقهم ويقتفي آثرهم، كما يتجلى في قول ابن حزم: “ومن وافق الخوارج من إنكار التحكيم، وتكفير مرتكب أصحاب الكبائر والقول بالخروج على أصحاب الجور، وأن أصحاب الكبائر مخلدون في النار، وأن الإمامة جائزة في غير قريش هو خارجي، وعلى هذا فإن الخوارج سيخرجون في كل زمان”.

وقد كان لهذه المبادئ العقائدية آثرا كبيرا في تأسيس مذهبهم ومن ثمة اعتباره مرجعية في تأويل النص الديني كآليات عامة تحدد مساقاته ومسارات المعنى عندهم، بدءا من تسميتهم التي جعلوا لها أصلا في القرآن الكريم وفندوا بها المعنى الثابت عليهم لغة واصطلاحا فهم “يرون أنّ لقبهم مأخوذ من الخروج في سبيل الله، وطلب الشهادة في سبيل الحق، مستشهدين بقوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[النساء:100].”، فكأنهم بهذا يحددون موقعهم من النص القرآني ويجعلون لأنفسهم بذلك الشرعية لمذهبهم حتى يتسنى لهم ممارسة فعل التأويل الذي استندوا عليه في تعضيد مذهبهم؛ ومن نماذج تأويلاتهم التي تؤكد ذلك نجد:

تأويلهم بأن الدليل على تكفيرهم لعلي قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}[البقرة:204].  

 في حين أنهم أعلوا من مكانتهم ومن منزلة قائدهم ابن مُلجم وقالوا: إنّ الله أنزل في شأنه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}[البقرة:207]! “

بل إنهم ذهبوا أبعد من ذلك حينما قالوا بأن المخصوص بتأدية الزكاة في حكم الآية: “خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم، وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) سورة التوبة/الآية: هو الرسول عليه الصلاة والسلام؛ إذ رأوا أنه هو وحده من عليه دفعها؛ لأنه هو الذي يطهرهم، وليس لغيره هذه الخاصية، ومن ثمة لا يدفعون الزكاة.

واستندوا في علة وجوب قتلهم للأئمة وخروجهم عن حكمهم على قوله عز وجل: “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون”(المائدة/33).

والناظر لتأويلاتهم هذه سيلاحظ منذ الوهلة الأولى خروجها عن أي سياق يحكمها نصيا كان أو خارجيا محددا في أسباب النزول، وتقييد معناها في مقابل ذلك فيما يخدم مذهبهم ويعزز ما سطروه في مرجعيتهم من أصول وعقائد، وكأنهم بهذا يجعلون للتأويل وظيفة إيديولوجية مذهبية تشرعن تصوراتهم ومبادئهم ويجردونها من معانيها الاصطلاحية وأسسها المعرفية والمنهجية، فدوره حصر في سياق مذهبي الغرض منه التعضيد ليس إلا، وبالتالي فما قدموه للعقل التأويل العربي يحتاج إلى إعادة بحث ونظر لكي يصنف في الخانة المناسبة له بمساءلة مدى علاقته بمفهوم التأويل حقيقة حتى لا نقع في المغالطات التي لا تمت للعلم والمعرفة بصلة، إن تأويلاتهم هاته يجب أن توضع من جديد بصرف النظر عن حقبتها موضع سؤال واستشكال. 

  • التأويل عند المعتزلة

مع بداية القرن الثاني الهجري (80-131ه) بدأ الفكر المعتزلي ينجلي على مستوى التفكير التأويلي العربي، فنشأته كانت مع العصر الأموي، ليتطور أكثر مع العصر العباسي، فمن هم المعتزلة؟ وما أليات التأويل عندهم؟ وما هو السند الذي يحكمها؟

اختلف المؤرخون في تحديد الباعث الأساسي من وراء ظهور فرقة المعتزلة، وقد انتهوا عموما إلى القول بسببين اثنين؛ الأول ديني يتجلى في رد الاعتزال إلى ذلك الخلاف الذي وقع بسبب الاختلاف في بعض الأحكام العقدية الدينية، خاصة حكم مرتكب الكبيرة، ويستند العلماء المؤيدين لهذا الطرح كابن حزم والشهرستاني إلى الرواية الشائعة في اعتزال واصل بن عطاء عن مجلس شيخه الحسن البصري الذي اعتبر أن مرتكب الكبيرة في منزلة المؤمن الفاسق، وهذا الجواب لم يستسغه واصل بن عطاء الذي يذهب إلى اعتباره أنه “في منزلة بين المنزلتين”>

أي لا هو مؤمن ولا هو كافر، وبسبب هذه الواقعة اعتزل مجلس شيخه، وكون لنفسه حلقة دراسية فقال الحسن البصري إذ ذاك عبارته الشهيرة: “اعتزلنا واصل” فسمي هو وأصحابه معتزلة. والسبب الثاني سياسي يتمثل في اعتبار المذهب المعتزلي امتدادا فكريا وإيديولوجيا للفكر المنطقي اليوناني؛ فأصحاب هذا المذهب كما هو معلوم يوثرون العقل على النقل في تأويل الخطاب الديني وفي طريقة الفكر والنظر للوجود والإنسان عموما اقتفاء بالأثر الأرسطي وبالمرجعية اليونانية الفلسفية عموما، بل إن أصولهم الخمسة التي جعلوها مباحثا لدائرة اشتغالهم قاربوها وفق منهج عقلي منطقي. فما هي هذه الأصول؟ وما منطلقاتها في التأويل؟

الأصول الخمسة لأئمة الاعتزال

اتفق أئمة الاعتزال حول أصول خمسة تقوم عليها مقولاتهم التأويلية وهي: التوحيد، العدل، المنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثم الوعد والوعيد.

    • التوحيد: ورؤية المعتزلة لهذا الأصل العقدي تتمثل في نفيهم لقضية الصفات عنه سبحانه وتعالى، والاكتفاء باسم جلالته عز وجل: “الله” الذي لا يشاركه فيه أحد سواها بالبث والمطلق، وبه يتحقق مستوى ومعنى التنزيه في قوله تعالى: “ليس كمثله شيء وهو السميع البصير”(سورة الشورى الآية 11). فالله سبحانه وتعالى كما ذهب إلى ذلك المعتزلة لا يشبه أي محدث على الإطلاق، ولا يمكن تصوره ولا تخيله، إننا لا نعلم شيئا عن ذات الله عز وجل، فذاته مما لا يمكن إدراك كنهها أو وصف جانبها؛ “لأن الله لا متناه، والعقل متناه، فكيف للمتناهي أن يدرك اللامتناهي”، وهذا مانته إليه النسق التأويلي المعتزلي في هذا الأصل الأول استعانة طبعا بالفكر الفلسفي والمذهب العقلي، ووضع قطيعة مع أصحاب النقل والتفويض المباشر ومجانية المعنى داخل حدود لفظه.
    • العدل: وفيه تناول المعتزلة قضيتان، الأولى متصلة بالله عز وجل، وهي اختصاصه بالعدل وبمقتضى ذلك يراعي الحق سبحانه وتعالى مصلحة عباده في أفعاله، والثانية متصلة بالإنسان الذي أعلو من مكانته واعتبروه الكائن الوحيد الذي خير ولم يسير؛ فالله وهبه العقل والحواس وغيرها من آليات التفكير والإدراك لأجل أن يؤهل لأن يكون مسؤولا عن حركاته وسكناته وأفعاله عموما، وبالتالي اعتبروه مسؤولا عن تحديد مصيره.
    • الوعد والوعيد:  ومعناه فهم عند المعتزلة بناء على مبدأين هما: الاستحقاق (الجزاء من جنس العمل)، والعوض (أن الله استنادا إلى مبدأ العدل الإلاهي لا بد أت يعوض كل المخلوقات المحسنة عن الآلام التي تحدث لها والتي تمر  بها كالكوارث والأمراض؛
    • المنزلة بين المنزلتينإذ اتفق المعتزلة منذ لحظة ميلادهم على أن صاحب الكبيرة ليس كافرا ولا بمؤمن إطلاقا، بل إنه في منزلة بين المنزلتين، فإذا تاب واستدرك خطأه في الدنيا فجزاؤه جزاء المؤمن، وإن خرج من الدنيا من غير توبة فهو من أهل النار خالدا فيها”
    • الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: يبلور أبو القاسم البخلي مذهب المعتزلة في هذا الباب قائلا: وأجمعوا أن على المسلمين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجبان بأي جهة استطاعوا هما، فما دونه”  سواء باللسان أو القلب. فهذا الأصل كما يتضح يتصل بباب الأخلاق؛ لأنه يضع الإنسان في الموقف الذي يجب أن يتخذه، وهو الانتصار دائما للخير، إما بالمساهمة في القضاء على الشر والقطع مع المنكر، وإما بالإصرار الدائم على قيم الخير وبث ثمارها في قلوب الآخرين.
  • التأويل عند الشيعة

الشيعة لغة: “أتباع الرجل وأنصاره” وجمعها شيع وأشياع جمع الجمع، واصطلاحا فلفظ الشيعة يطلق على أتباع أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه على سبيل الولاء والاعتقاد لإمامته بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، نفي الإمامة عمن تقدمه في مقام الخلافة، وفي هذا  يذهب الشهرستاني في تعريف مذهب التشيع إلى القول: “الشيعة هم الذين شايعوا عليا رضي الله عنه على الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته نصا ووصية، إما جليا وإما خفيا، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده، وإن خرجت فبظلم يكون من غيره، أو تقية من عنده”

    • عقيدتهم في الصحابة:

تقوم عقيدة الشيعة ومنهم الإمامية على القول بردة الصحابة إلا ثلاثة أو أربعة وما دونهم فهم مرتدون. يروي الكاشي عن أبي جعفر أنه قال: كان الناس أهل الردة بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة، فقلت ومن الثلاثة؟ قال المقداد بن الأسود وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي وذلك قول الله عز وجل “وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل”

الإمامة:

 زعموا أن الإمامة منصب إلهي كالنبوة، وأنه لا فرق بين النبوة والإمامة، فكما أن الله يختار من يشاء من عباده للنبوة والرسالة ويؤيدهم بالمعجزات التي هي بمثابة النص من الله عليهم، كذلك يختار ما يشاء من عباده للإمامة، ويأمر نبيه أن ينصبه إماما للناس من بعده.

التقية

إن التقية في الإسلام غالبا إنما هي مع الكفار، قال تعالى «إلا أن تتقوا منهم تقاة” يقول الطبري:” التقية التي ذكرها الله في الآية إنما هي تقية من الكفار لا من غيرهم”

ويعرف المفيد التقية عندهم بقوله:” التقية كتمان الحق وستر الاعتقاد فيه، وكتمان المخالفين، وترك مظاهرتهم بما يعقب ضررا في الدين والدنيا” وبهذا فقد أجمع أهل العلم على أن التقية رخصة في حال الضرورة” وأجمعوا على أن من أكره على الكفر واختار القتل أنه أعظم أجرا عند الله”

ولكن التقية التي عند الشيعة خلاف ذلك، فهي عندهم ليست رخصة بل هي ركن من أركان دينهم كالصلاة أو أعظم، قال ابن بابويه:” اعتقادنا في التقية أنها واجبة من تركها بمنزلة من ترك الصلاة”

ثم لم يكفهم ذلك فجعلوها هي الدين كله، ولا دين لمن لا تقية له، جاء في أصول الكافي وغيره: أن جعفر بن محمد قال: إن تسعة أعشار الدين في التقية، ولا دين لمن لا تقية له”

المهدية والغيبة:

وهو فكرة الإيمان بالإمام الخفي أو الغائب توجد لدى معظم فرق الشيعة، حيث تعتقد في إمامها بعد موته أمه لم يمت، وتقول بخلوده، واختفائه عن الناس، وعودته إلى الضهور في المستقبل مهديا، ولا تختلف هذه الفرق إلا في تحديد الإمام الذي قدرت له العودة، كما تختلف في تحديد الأئمة وأعيانهم والتي يعتبر الإمام الغائب واحا منهم.

وتقول السبئية كما يقول القمي والنوبختي والشهرستاني وغيرهم، أول فرقة قالت بالوقف على علي وغيبته حيث زعمت” أن عليا لم يقتل ولم يمت ولا يقتل ولا يموت حتى يسوق العرب بعصاه، ويملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملأت ظلما وجورا”

الرجعة:

فمن روايتهم أن قالوا “ليس منا من لم يؤمن بكرتنا”

وقال المفيد:” واتفقت الإمامية على وجوب رجعة كثير من الأموات” ومعنى الرجعة: الرجوع إلى الدنيا بعد الموت، فقد ذهبت فرق شيعية كثيرة إلى القول برجوع أئمتهم إلى هذه الحياة، ومنهم من يقر بموتهم تم رجعتهم، ومنهم من ينكر موتهم ويقول بأنهم غابوا ويسترجعون، وكان أول من قال بالرجعة ابن سبأ، إلا أنه قال غاب وسيرجع ولم يصدق بموته. 

الظهور: 

أي ظهور الأئمة بعد موتهم لبعض الناس ثم عودتهم لقبورهم

الفرق الشيعية: 

يرجع عبد القادر البغدادي فرق الشيعة إلى أربع فرق ويلقب الجميع بالرافضة حيث يقول: ثم افترقت الرافضة بعد زمن علي رضي الله عنه أربعة أصناف: زيدية، وإمامية، وكيسانية، وغلاة، وافترقت الزيدية فرقا والإمامية فرقا والغلاة فرقا، كل فرقة منها تكفر سائرها.

لكن أخطر هذه الفرق هي الفرق الباطنية التي اهتمت بنظرية التأويل الباطني في إرساء دعائم عقيدتهم، وتبيانه بأن نظرية التأويل الباطني أو نظرية المثل والممثول (حسب ما ذكره مصطفى غالب في كتابه الحركات الباطنية) هدفها الأساس هو البحث عن التأويل بمعناه الباطني وتحليل الرموز والاشارات أو الجوهر الخفي وراء الكلمة.

أهم كتب الشيعة:

بداية، ينبغي الإشارة إلى أن الشيعة قد ألفت العديد من الكتب التي لا حصر لها، نضرا لتعدد فرقها وعقائدها، لكن أهم هذه الكتب حصرها الدارسون في أربعة، وهي: كتاب الكافي للكليني، والذي يعد من أهم الكتب الشيعية على الإطلاق، فهو بمنزلة صحيح البخاري بالنسبة لهم، إذ ضل هذا الكتاب مصدر الشيعة وأصلهم لقرون طويلة، لكن مع مرور الزمن، أصبح ينضر إلى هذا كوثيقة قديمة من التراث، وأنه يسهل الاطلاع عليه، الشيء الذي عرضه لانتقادات شككت في مصداقيته، وهناك من ذهب في القول بأن: أكثر من ثلثي روايات كتاب أصول الكافي روايات ضعيفة وغير موثوقة ولا يعول عليها”، ثم أتى بعده كتاب ” من لا يحضره الفقيه” لمؤلفه محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، غير أن هذا الأخير لا يقارن بالكليني؛ إذ يشكك الشيعة في عدالتها، ثم كتاب “تهذيب الأحكام” من تأليف شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي. يليه كتاب ” الاستبصار فيما اختلف من الأخبار” لنفس المؤلف. 

عموما فهذه الكتب الأربعة هي التي ساهمت بشكل أساسي في تأسيس المذهب الشيعي، وفي حفض التاريخ الشيعي من التلف والضياع، ويذكر أنها ذات منهج ينقسم إلى اتجاهين: الاتجاه الأخباري والاتجاه الأصولي.

التأويل عند الشيعة:

سبقت الإشارة إلى أن الكتب الأربعة التي ذكرناها سلفا هي التي أسست للمذهب الشيعي؛ إذ لا يمكن للباحث استنباط أحكام وأسس التأويل عند الشيعة إلا بالاطلاع على التفاسير التي تحتويها هذه الكتب، خصوصا كتاب الكافي للكليني، وما ينبغي أيضا معرفته هو أن هذه الكتب الأربعة تنتمي كتب الشيعة الإمامية الاثني عشرية وليس إلى الفرق الأخرى التي تعتمد على التأويل الباطني المضلل. كالإسماعيلية والرافضة والباطنية.

إن التأويل عند الشيعة يركز على ثنائية الضاهر والباطن، فالتأويل عندهم هو الخروج باللفظ الإلهي عن ظاهره والبحث عن باطنه، إذ يعتقدون أن للقرآن ظاهرا هو تنزيله، وباطنا هو تأويله، فينطلقون من الآية الكريمة: “وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم” ويعتبرون أنفسهم هم الراسخون في العلم، والدليل قول إمامهم أبو جعفر في هذه الآية: “نحن نعلمه” بل الأكثر من ذلك لهم قاعدة تأويلية خطيرة ومهمة بالنسبة إليهم هي أن “للنص القرآني باطن يخالف الظاهر” لذلك أولوا القرآن على هذا النحو من التأويل الباطني.

فزعموا أن جل القرآن العظيم نزل فيهم وفي أعدائهم ومن ذلك عدة أقوال لأئمتهم نذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر “يقول إمامهم جعفر عليه السلام مخاطبا الإمام محمد “يا أبا محمد إذا سمعت الله ذكر قوما من هذه الأمة بخير فنحن هم، وإذا سمعت الله ذكر قوما بسوء ممن مضى فهم عدونا”.

وحسب الطبطبائي (من زعماء المذهب الشيعي) فإن التأويل لیس من مقولة الألفاظ والمفاهيم، ولا من نسخ المفهوم الذي نبني على أمر خارجي بل هو رجوع حقيقة خارجية إلى حقيقة خارجية أرفع منها، النسبة بینهما سنة الممثل للمثال، وأن جميع المعارف القرآنية أمثال مضروبة للتأويل عند الله قال الطبطبائي في تفسيره، إن الحق في تفسير التأويل أنه الحقيقة الواقعية التي تستند إليها البيانات القرآنية من حكم أو موعظة أو حكمة، وأنه موجود لجميع الآيات القرآنية، محكمها ومتشابهه، وأنه لیس من قبل المفاهيم المدلول علیها بالألفاظ، بل هو من الأمور الغیبیة المتعالية عن أن تحیط به شبكات الألفاظ، وإنما قیدها الله سبحانه بقيد الألفاظ لتقریبها من أذهاننا، فهي كالأمثال تضرب لیقرب بها المقاصد وتوضح بحسب ما يناسب فهم السامع.

أهم الأسس التي قام عليها التأويل عند الشيعة:

للتأويل عند الشيعة أسس ومنطلقات نذكر أهمها إجمالا، ثم نوضحها بشيء من التفصيل:

اعتقاد الثنائية في القرآن: “فكرة الظاهر والباطن” 

فكما سبق أن أشرنا يرى الشيعة أن للقرآن ظاهرا وباطنا، والظاهر هو التنزيل والباطن هو التأويل، والنبي صلى الله عليه وسلم صاحب التنزيل وعلي صاحب التأويل.

النص الإلهي على إمامة علي.

بمعنى أن الله أوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم باستخلاف علي ولكن الرسول –حسب زعمه- كتم مخافة المشقة على جماعة من أصحابه فأنزل الله تعالى : “يا أيها الرسول بلغ” تشجيعا على إعلان ما أمر به وقوله: “والله يعصمك من الناس” بمعنى أن الله يمنع أن ينالوك بسوء، فهو بذلك أكد الفرض عليه وخوفه من تأخير الأمر وضمن له العصمة ومنع الناس عنه” تفسير البيان، الطوسي (3/575) تحقيق أحمد حبيب العالمي، مكتبة الأمين، 1964 هــ .

تسلسل الإمامة بعد علي رضي الله عنه

وفي هذا قال الصافي تفسيره في رواية نسبها إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: “يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم” فقال جابر يا رسول الله عرفنا الله ورسوله، فمن أولي الأمر، الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟ فقال: هم خلفائي يا جابر وأئمة المسلمين من بعدي أولهم علي بن أبي طالب ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي صلوات الله عليهم المعروف في التوراة بالباقر وستدركه يا جابر فإذا لقيته فأقرئه مني السلام، ثم الصادق جعفر بن محمد ثم موسى بن جعفر ثم علي بن موسى ثم محمد بن علي ثم سمي محمد وكني حجة الله في أرضه وتقيته في عباده ابن الحسن بن علي صلوات الله عليهم، ذاك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة ليثبت فيها على القول بإمامته إلا من امتحن الله قلبه للإيمان قال جابر فقلت: يا رسول الله فهل لشيعته الانتفاع به في غيبته فقال: والذي بعثني بالنبوة إنهم يستضيئون بنوره وينتفعون بولايته كانتفاع الناس بالشمس وإن تجلاها سحاب، يا جابر هذا من مكنون سر الله ومخزون علم الله فاكتمه إلا عن أهله

عصمة الأئمة

يعتقدون أن الأئمة معصومون من الأخطاء وأنهم لا يذنبون ذنبا صغيرا ولا كبيرا ولا يعصون ما أمرهم الله ويفعلون ما يؤمرون، وأنهم موصوفون بالكمال والتمام، والعلم من أوائل أمورهم إلى أواخرها، لا يوصفون في شيء من أحوالهم بنقص ولا جهل

هو اعتقاد غيبة الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري فالشيعة يرون أنه لم يمت وإنما غاب غيبتين؛ غيبة كبرى وغيبة كبرى، ولكي يبرهنوا على صحة هذا المعتقد سلكوا مسلكهم المشهور عندهم وهو التأويل الباطني فأولوا قوله سبحانه وتعالى:”قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين” فقالوا المقصود هنا أو باطن الآية: “إذا غاب عنكم إمامكم فمن يأتيكم بإمام جديد”

فالشيعة مجمعون على صحة هذا المعتقد، وأن الرجعة سوف ينتقم فيها الأئمة من أعدائهم الذين سلبوا منهم حقهم، إذ يقولون: “إن الله سيعيد إلى هذه الآيات قوما من الأموات، ويرجعهم بصورهم التي كانوا عليها، وينتصر بهم لأهل الحق من أهل الباطل، وهذا هو معنى الرجعة” ويستدلون على صحة الرجعة بتأويل هذه الآية: “ويوم نبعث من كل أمة” بمعنى سيعيد الله عند قيام المهدي عليه السلام قوما ممن تقدم موتهم من أولياته وشيعته ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته ويبتهجوا بظهور دولته، ويعيد أيضا قوما من أعدائه لينتقم منهم، ينالوا ما يستحقونه من العقاب في الدنيا من القتل على أيدي شيعته”

موقفهم من الصحابة

فقد طعنوا أخيار الأمة بعد نبيها عليه السلام وفي السلف الصالح وأهل السنة، لاعتقادهم بأن معظم القرآن نزل فيهم وفي أوليائهم وأعدائهم، مما كان منطلقا لتأويل ما ورد في الكتاب والسنة حتى يوافق دعواهم فقد قال عمر بن حريث قال : “كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء” قال: رسول الله أصلها، وأمير المؤمنين فرعها، والأئمة من ذريتهما أغصانها، وعلم الأئمة ثمارها، وشيعتهم المؤمنون ورقها، والله إن المؤمن ليولد فتورق ورقة فيها وإن المؤمن ليموت فتسقط ورقة منها” بل من مزاعمهم أن عليا هو الإيمان وأبا بكر الكفر وعمر الفسوق وعثمان العصيان وذلك في رواية الكليني في قوله تعالى: “حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم” يعني أمير المؤمنين “وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان” يعني الأول والثاني والثالث”

ومن نماذج التأويل عند الشيعة أيضا ما ذكره الكليني في كتابه الكافي في تأويلهم لكلمة الصمد، حيث يروى عن داود بن القاسم الجعفري قال: قلت لأبي جعفر الثاني: جعلت فداك ما الصمد؟ قال: السيد المصمود إليه في القليل والكثير.

والتأويل عند الشيعة هو ممارسة مطلقة غير مقيدة بظاهر ولا باطن وغي محكومة بقواعد ولا بأنساق لغوية ولا من مرجعية محددة، بل إنها هي آليه توجه النص القرآني إلى ما يخدم مذهبهم وتصورهم اعتقادا منهم بأن جل القرآن نزل فيهم، وفي أعدائهم، وكأنهم بهذا يرودون جعل القرآن خطابا نزل فيهم وحدهم، ولإيضاح سنقف عند بعض النماذج الإجرائية من تأويلاتهم:

 قول شيخهم  بأن ما يؤكد على  (ابن المطهر الحلي)- استحقاق علي للإمامة أنه يمثل ما سمته ب”البرهان الثلاثة قوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} قال: علي وفاطمة، {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} النبي صلى الله عليه وسلم، {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ}، الحسن والحسين”.

واعتبروا أن المقصود بالصراط المستقيم – في قوله تعالى -: {اهدِنَـا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} [الفاتحة، آية: 6.]. هو أمير المؤمنين [تفسير القمي: 1/28، تفسير العياشي: 1/42، البرهان: 1/89، تفسير الصافي: 1/85، بحار الأنوار: 23/211.] عندهم.

بل عدوا الشمس هي علي، فيروون عن الصادق في قوله: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس، آية: 1.] قال: “الشمس أمير المؤمنين، وضحاها: قيام القائم” [البرهان: 4/467، مرآة الأنوار ص: 200، وانظر: تفسير القمي: 2/242، وفيه أن النهار هم الأئمة.]. فهل يعني هذا أنه لما مات أمير المؤمنين اختفت الشمس من الوجود؟!، والناس في ظلمة حتى يشرق ضحى القائم المنتظر؟‍!

والمسجد، والمساجد، والكعبة، والقبلة هي الإمام والأئمة، فيروون عن الصادق في قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف، آية: 29.]. قال: يعني الأئمة [تفسير العياشي: 2/12، البرهان: 2/8، تفسير الصافي: 2/188، مرآة الأنوار: ص175، نور الثقلين: 2/17]. وفي رواية أخرى عنه في قوله تعالى: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف، آية: 31.] قال: يعني الأئمة [تفسير العياشي: 2/13، البرهان: 2/9.]. وفي قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن، آية: 18.] قال: إن الإمام من آل محمد فلا تتخذوا من غيرهم إماماً [البرهان: 4/393.]، ويقول الصادق- عندهم -: “..نحن البلد الحرام، ونحن كعبة الله، ونحن قبلة الله” [انظر: الكراجكي / كنز الفوائد ص: 2، بحار الأنوار: 24/303، مرآة الأنوار: ص 213.].

والسجود: هو ولاية الأئمة وبهذا يفسرون قوله تعالى: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم، آية: 43.]. حيث قالوا: “أي يدعون إلى ولاية علي في الدنيا” [تفسير القمي: 2/383، البرهان: 4/372، تفسير الصافي: 5/214-215، مرآة الأنوار: ص 176.].

ولعل مثل هذه الروايات هي السبب في شيوع عبادة الأئمة، وأضرحتهم، وعمارة المشاهد وتعطيل المساجد، لأن المشاهد هي المساجد، والإمام هو كعبة الله وقبلته، ولهذا صنفوا كتباً سموها: “مناسك المشاهد” أو “مناسك الزيارات”، أو “المزار” [مثل كتاب: مناسك الزيارات للمفيد، وكتاب المزار لمحمد علي بن الفضل، والمزار لمحمد المشهدي، والمزار لمحمد بن همام، والمزار لمحمد بن أحمد. ذكرها العاملي في وسائل الشيعة ونقل عنها.

تيار الفلاسفة

مدرا التأويل عند المتكلمين كما اتضح سابقا على تسديد معاني الآيات، بنقلها من مستواها الحرفي الظاهر إلى مستواها الخفي الباطن؛ غير أن هذا النقل لم يكن بريئا في كثير من الأحيان لارتباط منطلقاته في التأويل باعتبارات مذهبية طائفية أكثر منها علمية معرفية، فغدا التأويل إثر ذلك أداة إيديولوجية لكسب الصراع السياسي. ومع تطور الفكر العربي الإسلامي بفضل المثاقفة والانفتاح على الثقافات الأجنبية ظهر تيار جديد في التأويل تزعمه العديد من الفلاسفة العرب المسلمين، فكيف أصبح التأويل في ظل هذا البراديغم الفلسفي الجديد؟ هل استطاع أن يتخلص من انتماءاته المذهبية السياسية ومعانقة الحقيقة المعرفية والفلسفية للخطاب الديني؟

وهو سؤال مفصلي سيقودنا إلى التعرف –في حدود شروط الورقة-على طبيعة الانعطافة التأويلية التي شهدها العقل التأويلي العربي مع اتجاهه الفلسفي؛ وحتى لا نقع في مزالق التعميم والاسقاطات الواهية فإننا سنقارب حقيقة هذا التصور من خلال الوقوف عند بعض رواده الأكثر شهرة خاصة ابن رشد والإمام الغزالي.

  • التأويل عند ابن رشد (520-595ه)

بداية نشير إلى أن خلاصة فكر ابن رشد في التأويل والمؤسسة لفلسفته التأويلية الخاصة نجدها في كتاب أساسي له وهو: “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة في الاتصال”، فتأثره الشديد بالتراث اليوناني الفلسفي عموما والمقولات المنطقية الأرسطية على وجه التحديد دفعه إلى فصل القول بين ما وقع فيه المتكلمون من نزاع وصراع أدى بهم إلى تحويل دائرة البحث من الموضوع إلى الذات وإغفال تلك المسافة الضرورية لاستقام أي بحث، وبين الحقيقة التي ينبغي أن يمضي التأويل في سبيل استنطاقها للتحقيق رابط الوصل والاتساق بين الفلسفة والشريعة بكيفية مؤسسة على دعامات منطقية موصلة إلى الحق على خلاف ما وقعت فيه العديد من الفرق الكلامية لاستنادها على أساليب ثاوية لا توصل إلى الحق بقدر ما تذكي بوتقة النزاع والصراع، وفي هذا يقول ابن رشد: “التأويل الحق ليس يوجد لا في مذهب الأشعرية ولا في مذهب المعتزلة”

إن التأويل الصائب المقبول عند ابن رشد هو ذاك الذي يكون مؤسسا على منطق برهاني وقياس جدلي استدلالي مبني في منطلقاته ومداخله الأولى على مقدمات يقينية أو مشهورة بصفاتها وملامحها المحددة في الأرغانون الأرسطي فأساس كل تأويل صحيح كما انتهى إلى ذلك أرسطو بناء على النسق الفلسفي الأرسطي هو الانطلاق من مقدمات يقينية أو مشهورة توافق القياس وتتناسب ومتداول الناس، فهذا هو سبيل بلوغ حقيقة النص واستنطاق معانيه الخفية المرادة، ونقله ممن الملتبس الغامض القابع في ظاهر مبناه إلى الواضح الصائب المراد في معنى معناه الداخلي، وقد خلص ابن رشد بناء على هذا الفهم الذي استولى على مشروعه الفلسفي إلى القول في تحديد مفهوم التأويل بأنه : “ومعنى التأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقة في الدلالة المجازة – من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب في التجوز- من تسمية لشيء يشبهه أو سببه أو لاحقه أو مقارنة  أو غير ذلك من الأشياء التي عددت في تعريف أصناف الكلام المجازي”.

في مقابل ذلك نجده يؤكد على أن مبعث كل تأويل فاسد هو مجانبة طريق العقل والفكر والمنطق واتباع طريق الظن أو بعبارة أخرى الانطلاق من مقدمات ظنية وهمية يكون مآلها نتائج ظنية وأحكام باطلة غي معقولة.

من هذا المنطق يمكن القول بعجالة بناء على ما تقدم   بأن النسق التأويلي الرشدي يتأسس على قاعدتين اثنتين: الأولى ذهنية، والثانية لغوية.

فالقاعدة الأولى تتمثل في العمليات الذهنية التي يقوم بها الفكر من تأمل ونظر وتفكير…لكن في ارتباط تام بالحدود التي رسمها أرسطو لهذا الفكر والتي تمنعه من الزيغ والضلال والمحددة في قواعده المنطقية، إذ يستحيل فهم خطاب ما بدون تحريك قدرات هذا الفكر أو بالأحرى تحريك سيرورة التأويل.

والقاعدة الثانية لغوية، إذ لا مناص لإدراك المعاني الأولى للنص دون معرفة قوانينه اللغوية من صرف ونحو وبلاغة، فهي المفتاح الأول لقرع باب هذا النص، وقد أكد ابن رشد على هذه القاعدة وجعلها مكونا أساسيا في تحديد ماهية الـتأويل كما تبين في التعريق الذي قدمه له، ونجده يؤكدها في العديد من المواضع معبرا عنها بعبارة: “قانون التأويل العربي”. فإذا كان أساس تأويل المعنى المقصود هو البرهان والاستدلال والمنطق فإن أساس تأويل اللفظ الظاهر هو البيان العربي

  • التأويل عند الإمام الغزالي (450-505ه)

الجدير بالذكر بداية أن حديث الإمام الغزالي عن مفهوم التأويل كان استجابة لظروف وعوامل ولم يكن نابعا من محض إرادته، فالأسئلة التي كانت تطرح عليه والمتصلة بقضايا عقائدية غيبية كانت تحتم عليه ضرورة وضع أساس يؤطرها وقانونا يحدها، وفي بيان هذا يقول معربا عن رفضه الخوض في مثل هذا النوع من الأسئلة:” هي أسئلة أكره الخوض فيها، والجواب لأسباب عدة، لكن إذا تكررت المراجعة أذكر قانونا كليا ينتفع به في هذا النمط”. والذي حفزه على ضرورة الإسراع في وضع هذا القانون طبيعة المناخ السائد آنذاك والمتلون بتيارات متعددة فكرية وعقدية معظمها يخوص في الانحراف ويدعي جادة الحق فكل ذلك حتم عليه ضرورة التدخل لفضح المناطق المظلمة فيها التي تسعى إلى طمس معالم الحق والهدى في النص القرآني.

وأجرأة هذا القصد انطلق عنده من مستوى تحديد مفهوم التأويل أولا والذي ظل محطة صراع وتجاذب وخلاف بين المذاهب والنحل، فكان لابد من تعريف يحدد ماهيته وحدوده ويزيل الكثير من الأوهام العالقة حوله، “فالتأويل هو عبارة عن احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي يدل عليه ويشبه أن يكون كل تأويل صرفا للفظ عن الحقيقة إلى المجاز”. فهو وإن كان يتناص في تعريفه هذا مع ابن رشد فإنه يضيف عناصر جديدة تحدد تصوره الخاص للتأويل: فهو أولا احتمال بمعنى أنه مجرد محاولة قد تكون صائبة وقد تكون خاطئة، وهو احتمال لا يتحقق إلا بإزالة الغشاوة عن بنيته الظاهرة؛ أي الانتقال من الحقيقة (المعنى الحرفي الظاهر) إلى المجاز (المعنى الباطن المقصود)، غير أن هذا وذاك لا يمكن أن يكون صائبا بدون وجود دليل يعضد هذا الاحتمال لغويا كان أو سياقيا وعليه يكون مدار التأويل هل هو صحيح مقبول أم فاسد مرفوض. 

مجموعة من القواعد لكل من يريد القيام بالتأويل

وقد انتقل بعدها في مرحلة متقدمة من التنزيل إلى تحديد مجموعة من المبادئ والقواعد التي ينبغي لكل من يريد خوض غمار التأويل أن يحترمها ومن هذه نذكر: التقديس والتنزيه، التصديق والاعتراف بالمعجز، والإمساك باحترام النسق اللغوي والبياني، وقد حرص على بيانها وإيضاحها في كتابه “الاقتصاد في الاعتقاد” بكيفية لا يتسع المجال لذكرها وعرضها بشكل مفصل.

وفي سياق حديثه عن “قانون التأويل” وهو الكتاب الذي خصه لعرض مختلف فرق التأويل نجده يعرب عن موقعه ضمنها، فهو مع تلك التي تناسب بين المعقول والمنقول وتجمع بينهما معا دون أن يسيطر عنصر على آخر أو إسقاط عنصر النقل على حساب العقل كما ذهبت إلى ذلك العديد من الفرق؛ فقانون ممارسة التأويل عند الغزالي يقوم على أساس إنكار التعارض بين الشرع والعقل وإقرار التداخل والتكامل؛ فهو يقر بأنه من يكذب الشرع فقد كذب العقل والعكس صحيح، إذ “بالعقل عرف صدق الشرع، وما ثبت الشرع إلا بالعقل، وهؤلاء هم الفرقة المحقة”

وحصيلة لما سبق يمكن القول بأن التأويل عند الفلاسفة استطاع أن يتخلص من نزعته الإيديولوجية المذهبية السائدة في تفكير المتكلمة ويصطبغ بأفقه الاصطلاحي المفهومي المتمثل في البحث عن المعنى المراد في النص القرآني، غير أن ارتباطه الشديد بالنظرية الأرسطية من جهة وبالنظرية الأصولية من جهة أخرى حال مرة ثانية دون تحقيق وظيفته على أحسن وجه وانزاح من دوره المحدد في صور وأشكال الإفهام والكشف وتخريج المعاني إلى مستوى التعضيد الذي قيد من دائرة اشتغاله؛ فهدف الفلاسفة من ممارسة التأويل في حقيقتها المسكوت عنها ليس هو تأويل النص الديني لإنتاج المعاني المستهدفة في متنه اللساني بقدر ما تهدف إلى الاستدلال على مدى التعاضد الحاصل بين المنطق الأرسطي والشريعة الإسلامية وبيان درجة التناسب بينهما للإعلاء من دور التحليل المنطقي ليس إلا. فهل يمكن أن نقول هذا عن المتصوفة أم أن تجربتهم في التأويل تختلف وتأخذ مسارات جديدة مغايرة للسابق؟ 

تيار المتصوفة

لابد أن نشير قبل التصدي لموضوع هذا التيار إلى مفهوم التصوف استنادا طبعا إلى أقوال المختصين في هذا المجال، ومن بينهم الباحث والمؤرخ بطرس البستاني، حيث يقول في تعريفه: “هو مناجاة القلب ومحادثة الروح، وفي هذه المناجاة طهر لمن شاء أن يتطهر، وصفاء لمن أراد التبرؤ من الرجس والدنس، وفي تلك المحادثة عروج إلى سماء النور والملائكة، وصعود إلى عالم الفيض والإلهام. وما هذا الحديث والنجوى إلا ضرب من التأمل، والنظر والتدبر في ملكوت السماوات والأرض. فالتصوف إذن فكر وعمل ودراسة وسلوك”..

وهو قبل ذلك تجربة وجودية تفهم ضمن ثلاثية البيان والتبين والتبيان، ومن خلال ما قدمه الباحث محمد عزام في سياق تمييزه بين هذه المفاهيم الأساسية يتضح بأن البيان يتصل بموضوع التأويل والمتمثل في ثلاثية القرآن والإنسان والعالم التي لا نكاد نجد علما صوفيا إلا وخاض فيها بدءا من ابن عربي، في حين أن التبين يتعلق بذات الإنسان التي لا تخلوا من أنا مؤولة يفهم من خلالها كل إنسان نفسه في القرآن والوجود معا وفي علاقته بالإنسان المغاير، أما التبيان الذي يعد مدار بحث المؤولين فيتعلق بالبحث عن طرق وتقنيات توصيع المعاني التي تنتجها هذه الأقطاب الثلاثة “القرآن والإنسان والعالم” إلى الآخر المغاير، وفي خضم هذه العملية فإنه يكون بصدد الإقبال على تجربة ليست هي ثمرة كل مستويات إدراكه بدءا من البيان إلى التبين.

وهذا ما جعل ابن الأعرابي يؤكد على أن التأويل أكثر من أن يحدد أو يعرف في حقل الفعل مهما بلغت حدته، فهو ليس بفعل لغوي فحسب وليست مجرد عمل ذهني، إنها ممارسة لتجربة جديدة ينغمس فيها ويتداخل اللغوي بالمعرفي والوجودي، وهذا ما يضفي عليها طابع الغموض والتعقيد تصورا وفعلا.

فإذا كان مفهوم التأويل في علاقته بإشكالية النقل والعقل قد ارتبط بجدلية الفظ والمعنى عند أصحاب البيان، وبقضية السلطة والبحث عن المعنى الذي يشرعنها عند المتكلمة، فإنه اتصل عند أصحاب العرفان بتجربة كلية بأبعادها اللغوية والمعرفية والوجودية تروم الكشف عن جدلية الظاهر والباطن في آي القرآن؛ فتأويل الصوفيين ينطلق في بدايته من تجربة وجودية “يعيشها العارف مع الله تعالى خارج حدود الزمان والمكان، وما يرتبط به من تصورات عقلية لا تخرج عن نطاق عينات الحس”

وتعد اللغة داخل هذه التجربة مجرد أداة للتوصيل، فهي “ذلك الوسيط الذي يتحدد من خلاله النص”، للوجود في تصور الصوفيين أشكال وصور أهمها الوجود المطلق المرتبط بالذات الإلهية التي لا يدركها أحد من الخلق، ووجود سلبي حدده ابن العربي في العدم المطلق أو اللاشيء الذي ليس له وجود إلا في لغة الخيال والصور التعبيرية الخارقة، وعلى هذا عد الخيال عنصرا فاصلا بين موجود ومعدوم وبين معلوم ومجهول، بين معقول وغير معقول.

وتبعا لهذا نخلص إلى القول بأن تيار المتصوفة أسهم بشكل كبير في إغناء حقل التأويليات العربية تصورا وتطبيقا؛ فعلى مستوى التصور نجدهم قد وسعوا من مفهوم التأويل؛ إذ أصبح في ظلهم مبحثا لتوليد المعنى بناء على تجربة المتصوف الوجودية، ورؤيته الخاصة لمكونات العالم، وعلى مستوى التطبيق يلاحظ ارتباطهم الحثيث بثنائية الباطن والظاهر فهذا الأخير عندهم سبيل فهمه يتصل بمباحث اللغة من صرف ونحو..، في حين أن معناه الباطن لا يتحقق إلا بالمعرفة بمجموعة من القواعد والضوابط التأويلية وقد سعى الشيرازي -على سبيل التمثيل لا الحصر- في منجزه “مفاتيح الغيب إلى إبرازها”، كقاعدة الفهم، وقاعدة الاستنباط وغيرها من المفاهيم والمبادئ التي أتي بها الفكر الصوفي تطويرا للنسق التأويلي العربي بكيفية أكثر انضباطا لآليات الممارسة التأويلية.

المحور الثالث الاتجاه التوفيقي

أصول هذا الاتجاه القائم على مبدأ التوفيق بين العقل والنقل تعود إلى تيار المتكلمين خاصة فرقة الأشاعرة، غير أن امتداداته لم تقف عند أنصار هذه الفرقة بل امتدت مع امتداد الفكر التأويلي العربي وانصهرت آثارها وتبلورت أفكارها وآليات اشتغالها مع العديد من المؤولين العرب. فما هي أبرز منطلقات هذا الاتجاه؟ وما آثارها على الممارسة التأويلية العربية عموما؟

لمقاربة سؤال التصور والمنطلق في تأسيس هذا الاتجاه سنقف مع أفكار المذهب الأشعري باعتباره يشكل نقطة بداية التأويل التوفيقي، ولفهم آثارها على مستوى الممارسة التأويلية سنكتفي بالإشارة لبعض امتداداتها مع الإمام الشاطبي.

أرسى رائد فرقة الأشاعرة إمام أهل السنة والجماعة أبي الحسن الأشعري(260-324) أصول هذا الاتجاه بناء على قاعدة التوفيق بين المنقول والمعقول؛ فهي وحدها القادرة على حماية فعل التأويل من الانزلاقات العقدية التي يسقط فيها على إثر حصره في جانب دون آخر؛ فكما أنه لا يمكن للمعنى أن ينجلي دون تشغيل قدرات العقل فإن المحك الذي يصاحب هذا الأخير في تمييزه بين الخير والشر هو النقل كما انتهى إلى ذلك الإمام الأشعري، وهذا ما انعكس على أفكاره المحددة لمنطلقات هذا الاتجاه، ومن ذلك نذكر:

تأكيده على أن كلام الله قديم بمعانيه حديث بألفاظه، الإيمان يزيد وينقص، العقل يميز بين الحق والباطل بناء على أحكام الشرع، إلى غيرها من الأفكار المخالفة للفكر الاعتزالي، خاصة مسألة صفات الله تعالى، فبعد أن استقامت عند أصحاب فرقة الاعتزال الحجج والأدلة العقلية التي تفند وجودها حقيقة، وتقرها فقط على سبيل المجاز والكناية يأتي الإمام الأشعري ليقر بوجودها على ظهر الحقيقة لا المجاز، فتبلور هذا الفهم مع أنصار المذهب الأشعري.

فإذا كان أصحاب العقل من المعتزلة ينفون صفة رؤية الله تعالى في قوله: “وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة” (سورة القيامة/ 22-23) فيما يذهب الظاهريون إلى إثباتها كما هي في الآية الكريمة، فإن الأشعريين اتخذوا من هذا المبحث موقفا آخر يوفق بين الاتجاهين السالفين، فهم يثبتون الرؤية بالأبصار غير أنهم يرون “أن الله يرى بدون مقابلة، وبدون إثبات الفوقية، والجهة، ويقولون إنه ليس فوق الرائي، أو على يمينه، أو على يساره، أو تحته”

وهو ما بينه بعد ذلك الإمام الشاطبي(720ه) بشكل مفصل؛ إذ يثبت على نهج الأشاعرة صفة الرؤية لكن بدون إثبات جهة ولا مقابلة ولا اتصال أشعة ونحو ذلك من لوازم الرؤية البصرية المادية، وفي سبيل توضيحه لذلك قدم مثال العلم الذي يمكن وجوده دون اللوازم المذكورة، وهذا ما أكدة الإمام الباقلاني فيما بعد منتقدا لتأويل المعتزلة في هذا الباب، وفي هذا يقول: “جواب آخر، وهو أن يحمل “لا تدركه الأبصار” على أنها لا تدركه في جهة، ولا تدركه جسما ولا صورة، ولا متحيزا ولا حالة في شيء، وهو يدرك الأبصار على جميع  هذه الصفات، وتكون الحكمة فيه الرد على النصارى وأهل التشبيه ومن يقول بالجهة والحيز والصورة، وغير ذلك مما لا يليق إلا به سبحانه وتعالى”.

خاتمة

بناء على ما سبق، فإن هذه الورقة قد سعت – في حدود ما سمح به الوقت- إلى مقاربة إشكالية التفسير النص القرآني في الفكر العربي الإسلامي التي أذكت فعل التأويل وأودت بفعل تداخل أبعاد كثيرة -ساهمت في بلورته معرفية وإيديولوجية ومذهبية- إلى الوقوع في خلافات في الفهم وبالتالي الاختلاف في الحكم الشرعي، وهذا هو المبعث المفسر لجدلية انقسام وتفكك الفعل التأويلي في الثقافة العربية؛ بل إن الانقسام لم يقف عند مستوى البراديغم النسقي لكل تصور بل امتد إلى تفكك بنية هذا البراديغم إلى فرق ونحل متعددة. 

والحق أن هذا الخلاف المعرفي والاختلاف العقدي والمذهبي في اعتقادنا هو ما بلور فعل التأويل في فكرنا العربي القديم تصورا وممارسة، فغدا بموجب اتجاهاتها وفرقها فعالية ذهنية وآلية معرفية استطاع أن يتفاعل من خلالها مع سلطة النص وأن يحقق تحاورا بين ثنائية العقل والنقل، فإذا كان الاتجاه الظاهري الحرفي قد حبس فعل التأويل في حدود هذا الأخير، فإن الاتجاه العقلي الثاني قد أسس لتأويليات عربية فريدة في فهمها ومتميزة في أسسها وغنية في روافدها ومداخلها.

إنه اتجاه فسح المجال لكل ذي عقل مؤول بدءا من المتكلمين أصحاب التصورات العقدية والخلفيات الطائفية(الخوارج/المعتزلة/الصوفية) مرورا بالمتصوفة أصحاب نظرية الكشف وإعطاء الذات الحق في عيش تجربة وجودية وعرفانية خاصة تنطلق منها في أي فعل تأويليا كان أو فكريا، وصولا إلى المتفلسفة الذين تجاوزوا حدود الظاهر وتجنبوا معميات التأويل المذهبي.

وثاروا على التوليد الدلالي والمضاف المعنوي الذي انتهى إليه تأويل المتصوفين إلى مستوى آخر، إنه تأويل تعضيدي استدلالي حاول البحث عن منطقة التداخل بين العقل والنقل، وإضاءتها بحقائق المنطق الأرسطي وأسس التفلسف اليوناني، مما ساهم في بلورة مفهوم التأويل في الساحة العربية ونقله من مستوى النص إلى مستوى الوجود ليعانق في الأخير مستوى التفكير وسيرورة الفهم التي أخذت طريقها نحو التأسيس الابستمولوجي والبناء النسقي مع رواد التأويليات في الفكر الغربي.

فيديو مقال إشكالية التأويل في الفكر العربي الإسلامي

 

 

 

أضف تعليقك هنا