“الكورونا” الوجه الآخر للعولمة

نَنام في نهاية القرن العشرين على مقولة ” مرّ فأنت حرّ”، كي نستيقظ في مطلع هذا القرن الجديد على كابوس مرعب وكارثة فظيعة طالت البشريّة جمعاء شعارها ” قف فأنت مقيّد ” أكثر من أيّ وقت مضى.

ما مدى تأثير فيروس كورونا في أوساط العالم؟

وباء فيروس (covid-19) الكورونا الجديد أو المستجد، صار موضوع الكلّ وشاغل الجميع مكسّرا بسرعته الجنونيّة مختلف الحدود المكانيّة والحواجز الجغرافيّة، حاصرا المدن والبلدان، المجتمعات والشّعوب، الأقاليم والأوطان، بل حتى القارّات في مجال واحد هو المكان “المعولم”. وكذا يكتسح بنفوذه السحري الوجود الإنسانيّ ليرهق المال والأعمال والعباد، يطرق الجماجم ويندسّ في خلايا الذّهن المخدّر ناقوس الخطر والموت المحدق.

أهو الطوفان القادم أم لعنة التغيرات العالمية الطارئة؟

فوائد العولمة، لاشكّ عميمة عديدة، خاصة إذا ما تخيّلنا الحياة الإنسانية خالية من التسهيلات في شتّى الأصعدة والميادين، أو عالمًا فاقدًا للمهارات التكنولوجية العالية وللوسائل اليومية الحديثة، غير أنّ الوضع الصحيّ والأزمة الحساسة التي يمرّ بها العالم اليوم، يكشفان عن فشل عدّة حكومات وسياسات سواء أكان في الإعلام المتأخّر أو التّدابير الهشّة أو الإجراءات البسيطة أو ثقافة الوقاية المنسية من ناحية

كما يبيّن أن من ناحية أخرى أنّ المعارف والعلوم ستظلّ المقياس الأوّل والأخير بين شعوب منتجة وأخرى مستهلكة، بين دول متقدمة تبحث عن حلول وتخطّط لاستراتيجيات وتخصّص الكثير من الأرصدة المالية للعلم والبحث والاجتهاد للوصول إلى برّ الأمان، وأخرى تابعة متخلّفة تحاول الحدِّ الأدنى من المحاولة للخلاص أو انتظار حتفها المحتوم.

ما هي الحالة التي يعيشها وقتنا الراهن في ظل انقسام العالم إلى منتج و مستهلك؟

إنّنا نعيش اليوم داخل مشهد أشبه بــ “المستنقع الهائل”، الذي لم يعدّ قادرًا على كتم فضائحه وستر إرهاصاته أكثر من ذي قبل؛ بيئة ملوّثة، عديد الأمراض الجسمية والعقلية والنفسية المستجدّة، انحباس رهيب داخل اللحظة الراهنة من زمنيتها إلى حافة الانهيار الكامل المنتظر، حيث الطبيعة بمختلف عناصرها ومكوناتها مهدّدة بالموت العاجل

وحيث فردية الإنسان أصبحت مشروعًا هالكًا استطاعت آلة الاستثمار الكونيّة العملاقة وقف تنفيذه برغبتها الجامحة في امتلاك كلّ شيء وجعل المجموعة السكانية لكافة أقطار المعمورة مستهلكين فقط، يتقبّلون كلّ السّلع، ويخضعون لأحكام السوق وقوانينها التنافسية.

وفي فهم أدقّ لواقعنا المعاصر، ننتهي إلى أنّه مجال رحب للصّراع بين رغبة “امتلاك” كلّ شيء في المكان والزّمان والإنسان، وبين مطلب “تسليع” كلّ شيء بما في ذلك الأفكار والأوهام والأحلام، والمتاجرة بالخلايا والبذور والأعضاء والأرحام، وتسريع النمو حدّ تهديد الطبيعة بالفناء … وغيرها الكثير.

 هل من المُرجح أن تكون الدول الآن بحالة حرب باردة علمية مخبرية؟

إنّ المتفحّص لسلّم درجات تقدّم الشّعوب والمتتبّع لاقتصاديات الدول والمحلّل لإحصائيات السوق وأرقامها والمتأمّل لمحكِّ الهيمنة والاحتكار في العالم، ينتهي إلى بلورة الكشف عن المحتجب وراء الأقنعة وفضح ما يتراءى للعيان حقيقة محضا غير قابل للدّحض أو المراجعة، لينتبه إلى احتجاب نظام القطبية الواحدة القائم على إرادة أب هو “رأس المال العالمي” الذي لا يفقه من الأبوة القديمة إلاّ التوجيه ودعوة الأبناء إلى الطّاعة والامتثال، بظهور قطب آخر جديد بدأت معالمه تتّضح للعموم خلال الأعوام الأخيرة. وقد رُجّح أن تكون الصين الشعبية محوره ورافعة لوائه.

في ضوء ما ستنجرّ عن هذا التغالب بين القطبين من صراعات قد تؤدّي إلى حروب موقعية طاحنة، بيد أنّ هذه المرة، اتّضحت ملامح هذه الأزمة من صراع ديبلوماسي على غرار الحرب الباردة إلى حرب مغايرة غير مرئية بالعين البشرية المجرّدة، فبين استفحال القوة وتراجع السلطة تغلغل سلاح جديد لا بمعناه العسكري الكلاسيكي وإنّما هذه المرّة سلاح استغلال العلم المخبري بفيروس فظيع أربك حسابات كلّ العالم، ما أكّد أنّه كلّما حقّق العلم خطوة جديدة في مسار اكتشافاته واختراعاته، تعالى صوت ماهية الضّمير الإنساني من رؤى الأنانية والانتهازية والمحسوبية.

هل ساهمت وسائل الإعلام بتشويش المتلقين و أسر فكرهم؟

إن للروح الثأرية، محصلة خسائر ثقيلة؛ كأن يضيق المكان رغم اتساعه ليكون سجنًا للضحية/ المواطن واقعا وافتراضا، وكأن يكون اللعب بمصير الأرواح البشرية مباحًا، وكأن يختلّ النظام الصحيّ والبيئي في الأثناء سبيلًا للسيطرة بتجارة رابحة ماديًا ومعنويًا بالحلول المفتعلة لذلك وفي خدمة للمشروع،

تنتصر سلطة الإعلام على شاشات الحواسيب والتلفزيونات وموجات الإذاعات وترددات المواقع الاجتماعية لتسجن الحواس من طاقات التفكير الحرّ، فلا افتراض ولا حدس ولا تخيّل، ولتقلل من حدّة الموضوع بشبه طمأنة بقدرة العقل الغربي “السوبر هيرو” على التصدّي والمواجهة بمفرده.

في ديننا الحنيف نصنع من المحنة منحة، فكيف ذلك؟

إنّ كارثة الكورونا في زمننا هذا، هي صورة تكمّل المشهد “المستنقع”، لتشير إلى إجابة مفادها الوجه الآخر للعولمة بسؤال القيمة اليوم: التسليع، ثم ماذا؟…وقبل أن نختم هذا الموضوع، لا بدّ لنا كبلدان عالم ثالث، من مزيد إتّباع جملة من الإجراءات علّها تساهم في حلِّ الوقاية من شرِّ هذه العولمة (الوباء) للمحافظة على ديمومة كنز لا يقدّر بثمن ألا وهو الصحة.

كما حرّي بنا التحرك السريع نحو المساهمة في يقظة المجتمع المحليّ حول الإستتباعات الآتية والمخلفات العميقة والتشديد على ضرورة النهوض من هذا المأزق ثم الانطلاق في السير بخطى ذكيّة نحو التعلّم من الأخطاء واستنهاض الهمم وتقديس العمل وتجديد العقليات مع أهمية التسلح بالعلم ومواكبة مستجدات العصر بغية إرساء معالم البناء الحضاريّ المتين المنشود، مصداقا لقوله عزّ وجلّ في محكم التّنزيل:
{ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوُا شَيْئًا وَهُوَ خَيْر لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُوا شَيْئًا وَهُوَ شَرُ لَكُمْ والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }.

فيديو مقال “الكورونا” الوجه الآخر للعولمة

أضف تعليقك هنا