الولي

رجل يحاول العثور على دواء لزوجته التي أنهكها المرض..

لم يدري كيف سارت الأشهر السابقة بكل هذه السرعة، أيام تسابق الليالي، ورغم شدتها لا يذكر منها الآن سوى علامات الأحداث الكبرى.

كان الزواج وكانت ألوان السعادة تسبغ كل شيء، ثم جاء السرطان ليحطم كل ذلك، وجاءت معه مراحل التشخيص، ثم العلاج الكيميائي لتتحول زوجته المسكينة لمخلوق أقرب للطفل الوليد، حتى أنه كلما أراد أن يروح عليها قال مزحا ”إننا كنا نسأل الله طفلا فرزقنا بمن هو أجمل“.

الآن يحمل بين يديه نتيجة المشقة، والألم الذي عانياه كان متورا، يتابع مشاهد الحقول الفسيحة من نافذة سيارة الأجرة، قال لنفسه إن هذا الطريق قد يكون طريق نجاة زوجتك، أو طريق رحيلها الوشيك، أثارت الفكرة الأخيرة رعبه فأراد أن يشتت أفكاره، راح يطالع وجوه من يرافقه في سيارة الأجرة، كان ذلك الشيخ ضخم الجثة أول من جذب نظره، كان يخضع بين ساقيه شاة هادئة، بجواره تجلس سيدة متوسطة الجمال، متواضعة الثياب، كانت تنظر للقاع باستمرار كمن يحاول أن يخفي وجهه.

قصص صادفها الرجل في طريقه عن الاستعانة بالولي

(1 )

حمحم الشيخ وعدل من برنسه الأبيض كان يستعد لقول شيء ما.
– شيء لله وشيء لولي الله، ربي يبارك في خير هذا اليوم، كان يطوح برأسه يمينا وشمال، ثم أضاف…
– سيدي صالح المبارك حبيبي و مجلي همومي. والله يا سادة لولا بركة تربته لما سال واد، ولما نزلت قطرة على أرض هذه القرية.

رفعت السيدة التي تجاوره رأسها، ولاحت على وجهها ابتسامة هادئة، آما هو فقد انتابته ثورة سخرية، كان يعلم حقيقة الجهل الذي يسيطر على عقول أغلب من في القرية إلا أن ما سمعه من الشيخ دفعه لاستحضار قول الشاعر:   وفي الجهل قبل الموت موت لأهله     وأجسادهم قبل القبور قبورا

(2)

توقفت سعاد على باب المقبرة تسترجع ما قالته لها صديقتها حليمة: “لا يستجيب الولي إلا لمن عقد له النية”، وما النية لم تجد إجابة عند حليمة، ولم تبحث عنها عند غيرها، كانت تخشى الفضيحة، وكيف لها أن تواجه العار إذا علم أهل القرية أنها توجهت للولي لطلب حل عقدة الزواج، ساعدها الزحام على التخفي والتقدم بانسياب إلى باحة المقام، كان هناك نسوة غيرها رفعن عنها الحرج، إلا أن بالها ظل مشغولا كيف تطلب من سيدها أمرا، ولم تعقد فيه النية.

كانت تحب سيدي صالح لما بلغها من كراماته، كانت والدتها -رحمها الله- لا تقوم، ولا تجلس إلا استدعته في ذكرها، لا تحنث له يمينا، ولا تنسى خراجه في كل عيد… هي كذلك ورثت عنها حبه وتقديره، فهو الذي يقسم لها من خير هذه الدنيا نصيبا إلا أن نصيبها لم يحتوي على رجل ينتشلها من طوفان السنين التي أوغلت في سواد شعرها، وأسرار جمالها.

انتبهت لامرأة تحمل في يدها مبخرة تطوف بها في كل ركن، كانت تعلم أن بعض نسوة القرية نظرن أنفسهن لخدمة مقام الولي الصالح، عزمت أن تفضي لها بسؤالها عن النية، لكنها فضلت أن تنتظر حتى تهدا حركتها، فمطاردة هذه المرأة النشيطة قد يجذب لها الأنظار.                                                                                               ”يا ولي الفضل بالفضل من العدل أعذني          لترى عيني الذي خولته بالوعد”

(3)

ارتعدت يده الحاملة لتقرير التحاليل الخاص بزوجته، أحس لوهلة أن الأفكار والمشاهد الحية تتسارع في عقله، عرف على الفور أنها علامات موجة هلع جديدة، سيشعر بعد قليل أن دقات قلبه بدأت في التباطؤ، وأنها على أبواب التوقف لكن رائحة البخور وصخب الجمع من حوله ساعده على حفظ توازنه، كان على وشك التوجه للمدينة إلا أن شيئا من الفضول دفعه للاقتراب من مقام الولي الصالح، وراح يخترق الجموع نحو قلب الساحة، تذكر أنه قرا مقالا في مكان ما يتحدث عن رغبة الإنسان الفطرية في السخرية ممن يفوقهم علما، كان ذلك شبيها بما حدث له داخل سيارة الأجرة مع الشيخ الضخم، ويشبه أيضا هذه الرغبة التي دفعته لدخول المقام، رأى الشيخ الذي كان يجالسه في السيارة، وقد ساءت حالته، دخل في نوبة هلع يحاول الناس من حوله كبح جماحه قبل أن يقبل شاب بالشاة التي أحضرها الشيخ و يعقرها بين ساقيه، مسحت السكين الملطخة بدماء الشاة في يد الشيخ، ثم حمله الناس نحو إحدى جدران المقام، لتلتصق بها اليد الدامية وترتسم شكلها على الجدار بلون أحمر قان.                                                          “يا صاحب القبر المقيم هنا            يا منتهى أملي و غاية مطلبي”

(4)

تعلقت عينا سعاد بسيدة المبخرة تتابع حركتها حتى رأتها تسلم المبخرة لإحدى الزائرات، ولاذت بأحد المقاعد الأسمنتية الملحق بجدار المقام، همت بها سعاد تقبل يدها حتى امتلأ صدرها برائحة البخور التي علقت بالسيدة، ثم قالت لها بصوت منكسر باك: “يا سيدتي اخبريني كيف أعقد النية إن لي حاجة عند سيدي صالح”.

أشارت السيدة لفمها ثم طوحت رأسها يمينا وشمالا، كان ذلك يعني أنها بكماء، فهمت سعاد ذلك، إلا إن السيدة أمسكت بيدها، وأشارت نحو دائرة من النسوة الراقصات، سارت سعاد نحو المجموعة بخطوات مترنحة، حاولت أن  تقلدهن من خارج الحلقة، هزت رأسها ببطء يمينا وشمالا حتى انفلت شعرها الطويل من عقاله، وبدأت حرارة جسمها في الارتفاع، الصق العرق ثيابها بجسمها، أحست برغبة عارمة في الصراخ، طاقة جبارة تكونت في جزء ما من جسدها ثم اندفعت نحو حلقها، و هي الآن تدفعها للصراخ، أتراها إحدى علامات عقد النية أم هي تلك الأسحار التي نفثت لها حتى تمنع عتها الرجال؟ انفلت عقال لسانها وراحت تصرخ: “يا مولاي يا سيدي صالح أغثني فإني بباك واقفة”

(5)

أعياه الوقوف فراح يبحث عن مجلس له، هدا المكان قليلا، ذبحت كل الأضاحي ووزع لحمها على من حضر، أكمل الباعة طريقهم نحو المدينة علهم يدركون ما تبقى لهم من رزق هذا اليوم، أما الحضور فقد انتظموا في صفين رجالا ونساء يقفون على باب المقام، ينتظر كل واحد منهم فراغ من بداخل الغرفة من نجواه وخروجه حتى يدخل مكانه، حمل بعض الرجال في أيديهم كومة من الحصى، تتمايل رؤوسهم يمنة ويسرة مع انفلات كل حصى صغيرة من بين السبابة و الإبهام يرفونها بهمهمة.

لفت انتباهه شيخ يجلس أسفل الشجرة الوحيدة في باحة المقام، لم ير من وجهه إلا القليل من بين اللحية الشيباء الكثة، والوشاح الأبيض الذي يغطي رأسه، هم أن يخرج ليكمل سيره نحو مستشفى المدينة لكن شيئا ما دفعه لان يقترب من ذلك الشيخ ويبادره بالسؤال: “أزائر أم تاجر؟”، دون أن يلتفت أجابه صوته: “بل من أهل المكان”، لم يفهم جيدا ما قاله لكن طست الماء الذي رآه بين ساقيه افهمه أنه ممن يعتني بالمقام، فقال مستهزئا:
_أنت إذن ممن يفني عمره في رعاية الجدران                                                                                  _بل أنا من أصبحتُ مملوكاً لأحسن مالك لو كان كمَّل حُسْنَهُ إسجاحُه، فاجأه جوابه، وعلم أنه يخاطب شخصا ذا علما ودراية، إلا انه يشاطر تلك الجموع في جهلهم وتقديسهم لصاحب هذا المقام فاستوثق في حجته وأجابه:
– و هل تعشق الصخر الذي يحيط المقام أم العظام التي تسكن بطن الأرض
– بل مجيب لناء العشق. أحببت من أحسن لدلله واقترب منه حتى أحبه ونادى جلاله في الملأ من حوله إني أحببت عبدي فلانا فأحبوه ثم نادى أهل السماء أهل الأرض أن أحبوا فلانا فقد أحبه الله.

صاحت امرأة من داخل المقام: “يا مولاي يا سيدي صالح أغثني فأني بباك واقفة”، وهل هذه الدعوة من درب العشاق، كان عليها أن تفرد الله بسؤالها، أصابته إجابة الشيخ بالجمود، أحس انه اخطأ في حق هذا الشيخ، وأساء تقدير علمه، ووإياه فعاد الشيخ للكلام..
– عسى الله أن يغفر لهم بعشقهم، لا تسنهن بالعشق يا بني فإنه أغوى الأنبياء، فذهب بأبصارهم، وأغرى الملوك فذهب بملكهم، حتى هؤلاء الزائرون هم عشاق لحاجتهم التي جاؤوا في طلبها لغير ذي مالك لسؤالهم.. خيم الصمت الذي يقطعه بين الحين والآخر صوت بكاء أو رجاء قادم من غرفة المقام، ثم عدل الشيخ وشاحه، واعتدل في جلسته و جاء صوته يسال: أما هم فعشاق زائرون وأما أنت..؟
فكر قليلا ثم أجابه بصوت خافت: أما انا فعاشق أسلك السبيل لإنقاذ معشوقتي.                                               الحُبُّ ريحانُ المُحبِّ وراحه         وإليه إنٍ شحطتْ نَواهُ طِمَاحُهُ                                                                يغدو المحب لشأنه وفؤادُهُ          نحوَ الحبيب غُدُوُّهُ ورواحهُ     

(5)

أفاقت سعاد على صوت أقدام فوج حمام يتهافت على جمع ما تبقى من طعام الزائرين، لكن أين هم؟ كان المكان خال تماما، كانت ملقاة على ظهرها فحاولت أن تستقيم بصعوبة على السيقان المخدرة، عبثت بذاكرتها محاولة استرجاع ما حدث، كانت تجاري الزائرات في رقصهن، لكنها لا تذكر ما حدث بعد ذلك، نظرت ناحية غرفة المقام، هل تراها نجحت في عقد نيتها؟ هل تذهب الآن لقبر الولي ولتسأله ما تريد؟  لكنها عدلت عن الفكرة، خشيت أن تكون قد فشلت في عقد النية، حينها قد يصيبها سخط الولي وغضبه، اثارت الفكرة الأخيرة الرعب داخلها، اندفعت راكضة نحو باب المقبرة تذكر أنها رأت شيخا ابيض الثوب تحت الشجرة هناك، تذكر أنها سمعت صوته يناديها باسمها، كيف عرفها لا يهم الآن، ما تريده فقط أن تصل للبيت قبل أن يدركها سهم من غضب الولي الصالح أو أن يراها أحد من أهل القرية.

(6)

كان منهكا للغاية، ساقاه الثقيلتان تدفعان جسده دفعا، إلا أنه أثر العودة للقرية راجلا، يأمل أن طول الطريق سيفني أحزانه، ويعيد عليه عقله، هناك في المنزل سيجد زوجته المسكينة طريحة الفراش، تنتظره بفارغ الصبر لكنه لا يحمل لها إلا الخبر السيىء، لا يزال ذلك الورم الخبيث يسبح فجسدها ويتكاثر، عجز الطب وأدويته المقرفة على التغلب إنهاء معاناتها، والآن كيف يخبرها بكل هذا.

لجوء الرجل للولي طالبا منه شفاء زوجته

بلغ مقام الولي الصالح، ورأى ذلك الشيخ تحت الشجرة لم يبرح مكانه، هرول نحوه ثم سقط على ساقيه وأخذ يمسح بوجهه ويديه من محتوى ذلك الطس، سار متعثرا نحو مرقد الولي، جثم على ركبتيه ورمى بقية جسده على القبر يقبل صخره ثم صاح قائلا: يا سيدي يا صاحب الكرامات يا من عشقك الله وأمر خلقه بعشقك، اخبره أني أنا عبده العاشق مثله، و له المثل الاعلى، استبد بي الشيطان و يريد أن يسلبني معشوقتي.                                       الله يعلم أني قد شغفت بها       دهرا وفي القلب منها اليوم بركان                                                            إن يبعدوها فإحساسي بصورتها        فلا افتراق ولا بالبعد هجران

فيديو مقال الولي

أضف تعليقك هنا