تداعيات “كورونا” في مجتمعاتنا الهشة بين فوبيا الموت والجهل المقدس

مما لا ريب فيه، أن العالم، اليوم، يعيش وضعا استثنائيا على جل المستويات، صحيا، اقتصاديا، اجتماعيا، سياسيا…، بسبب انتشار فيروس قاتل أطلق عليه اسم covid19 (أعلنته منظمة الصحة العالمية وباء عالمياPANDEMIC )، لكن تمت ثلة من التساؤلات حول ما أحدثه هذا الوباء، من تداعيات سلبية، فضحت إلى حد كبير مجتمعنا الغارق في الجهالات و الأضاليل.

فما ملامح الثقافة السائدة حول الموت التي أظهرها كوفيد في مجتمعنا؟ وهل من مناعة فكرية لمواجهة ازمة كورونا سيكولوجيا واجتماعيا؟ واي سبيل يمكن اللجوء اليه لتخفيف اضرار تداعيات كورونا على مستوى الثقافة السلوكية؟

كورونا وفوبيا الموت:

يخالج الإنسان شعور القلق إزاء الموت، وهذا القلق يترك أثره بشكل بليغ في نفسية الانسان، يصل إلى درجة أكثر خطورة حينما يبلغ مصف المرض النفسي (اضطراب،رهاب…)، وهو ما يسميه رواد علم النفس بفوبيا الموت.

يختزل بعض المفكرين صورة الموت في مخيال الناس عبر سرديات وأعمال فلسفية وأدبية عديدة، تعكس اختلاف القراءات والتصورات حسب خصوصيات الافرد والجماعات في علاقتهم بالثقافة السائدة، فنجد الكاتب الروسي تولستوي يعبر عن ذلك بمقولة عميقة “الشخص الذي لديه فكرة خاطئة عن الحياة ستكون لديه دوماً فكرة خاطئة عن الموت”.

ويؤكد الفيلسوف العربي علاء بن حزم القرطبي، أن القلق حول الموت حقيقة أبدية. ولم يكتف المهتمين من العرب بشرحه، بل ساهموا في علاجه. وهذا ما تفوق فيه ابن سينا، عندما فطن إلى تأثيره على الجسم. بالإضافة إلى آثاره النفسية والسلوكية التي وضحها فخرالدين الرازي. كما اعتبره علماء النفس المعاصرون شرطا من شروط الوجود الإنساني، الموسوم بالمأساوية، حيث جهل الإنسان بالحقائق، غير حقيقة الموت (أندريه مالرو). كما يحتفظ لنا تاريخ الطب النفسي، معاناة النبلاء والأعيان، كما الرعاع والصعاليك مع القلق من فكرة الموت.

وبالرجوع الى مجتمعاتنا، وفي ظل ظرفية كورونا المستجد، نجد ان موضوعا الفناء و الموت يكشفا تناقضات العقل العربي إلى حد كبير وصارخ، هناك ازمة فهم، تفسير، لفلسفة الموت.

فبالرغم من كون الموروث الديني، يخاطب المؤمن بتلقائية مفاهيمية سمحة، مجردة من اي التباس (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فمال هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا سورة النساء الاية 78)، الا ان هذه الجائحة كشفت ضعف الايمان عند الكثير من جمهور العوام (الايمان القوي بالقدروالحتميات)،سواء كانوا مؤمنين او لائكيين، مثقفين او أميين، فلا دور هنا للوضع الطبقي او الثقافي. لذلك تستهوينا في ذات الصدد قولة رائعة للمفكر العربي يوسف زيدان: لماذا أخاف الموت؟ خليق بي أن أخاف الحياة أكثر، فهي الأكثر إيلاما.

إننا لا ننكر أن الخوف من الموت غريزة حية، كما قال الأديب والمفكر المصري عباس محمود العقاد، فلا معابة في ذلك، وإنما العيب أن يتغلب هذا الخوف علينا والا نتغلب عليه، خاصة واننا نمر بظرفية خاصة، تستدعي التمكين لمناعة فكرية تتجسد فيها ثقافة ضبط النفس، والترويح عنها بقراءة كتب الفكر والعلوم والدلائل الصحية، والوقائية، لاكتساب مضادات نفسية ، ومقاومة الهلع من ذلك الذي سيأتي حتما (الموت). وادراك اثار هذه الجائحة على الصحة النفسية في مجتمع الما بعد الوباء.

كورونا والجهل المقدس:

عندما نعود إلى تأصيل هذا المفهوم الخلاق، اي الجهل المقدس، نجد اختلافات بين الكتاب حول أول من استعمله، فالروائي الجزائري واسيني الاعرج يعتبر ان صاحبه هو الكاتب السياسي الفرنسي اولفييه روا صاحب كتاب الجهل المقدس، وليس المفكر الجزائري محمد اركون كما يعتقد الكثيرون, دون الغوص في هذه الاشكالية الكبيرة، ليسمحا لي كل من اركون واولفييه على استعمالنا هذا المصطلح وان كنت سأوظفه في سياق مخالف و مغاير لتوظيفاته التقليدانية.

إن كورونا اماطة اللثام عن معضلات خطيرة منتشرة بشكل غفير بأحيائنا، جهل مقدس،مركب ومؤسس، طفا على الواجهة بعدة أشكال ومظاهر، غياب لأدنى ثقافة صحية ممكنة، عدم الامتثال للسلطات الموكول لها دور حفظ الامن الصحي، انتشار الاشاعة، قصر فهم الناس معنى حجر صحي، تبخيس دور العلماء والاطباء والاساتذة، نشر ثقافة الميوعة من خلال استغلال الفن وتلطيخه بالعفن، اختفاء قيم الموعظة و النصح، الفهم الخاطئ وغير السليم للدين، انشاء تجمعات بشرية (في عز الازمة) بغرض النميمة والحديث عن زلات الناس، استغلال بعض الشركات للوضع ورفعها للاسعار والمتاجرة بالالام البشر، غياب دور الاعلام الحقيقي الذي يتجلى في التثقيف ورفع حالات اللبس وبيان المصداقية…

كلها اذا, اعراض قاتمة لظاهرة الجهل المستشري في زمن كورونا، والاعتم ان الناس يرون ذلك بنظرة المقدس.

إن غياب الأسرة والمدرسة والاعلام كمؤسسات تؤسس هوية المنتسبين، عن اللعب ادوار طلائعية في التنشئة الاجتماعية للافراد، جعلا الساحة المجتمعية مفتوحة، على مصراعيها، امام كل المتربصين والمتاجرين بالجهالة المقدسة، وصناع التفاهة، حتى أضحى التافهين صناع قرار، فتم إعدام كل مظاهر الثقافة النييرة، وهجر الأعلام والعلماء وارتكنوا في الاقباع، فما كان لحال هذا المنجمع (المجتمع) الا ان يصاب بالعمى المنظم. كلها اسباب ، على من يبتغي النهوض بأقل الاضرار ان يقف وقفة تأمل في حالها، فداء كرونا ايقظ الجميع، واعطى درسا لا ينسى، فحتما هنا لا فعالية لسياسة النسيان.

كورونا والمناعة الفكرية:

إن الحديث عن المناعة الفكرية لمواجهات تحديات الوضع في عصر كورونا يقتضي بنا مجبرين، غير مخيرين، الرجوع إلى الفلسفة، ام العلوم، التي همشت بفعل فاعل، هدفت تاريخيا، تحقيق النضج العاطفي في الحياة الانفعالية العامة للإنسان وإخضاعها للعقل، كما تعمل على إثارة العقل ودفعه للنشاط وذلك بنقد ما وصل إليه العلم والواقع الحسي، وفي هذا قال برتراند راسل: “إننا بفضل الفلسفة نعرف أن هناك أشياء كانت في الماضي محل يقين علمي لا يتطرق إليه الشك ، لكن تبين فيما بعد أن ذلك اليقين خطأ فادح”. فكل فيلسوف هو طبيب، كيف لا وابن سينا حي يرزق في اعتى الجامعات العالمية المهتمة بتطوير البحث العلمي.

فالعلاقة بين الفلسفة وتقدم المجتمع علاقة طردية، فكلما كانت للفلسفة مكانة في المجتمع، كان المجتمع متقدما ومتطورا، والحال انها لا تظهر ولا تتطور الا حيث يوجد التقدم الحضاري.

من الفلسفة اليونانية والفلسفة المسيحية والاسلامية الى الفلسفة الحديثة يمكن ان ننهل نوعا من التداوي من تدعيات هذا الفيروس، عبر تتبع مسار الزمن النفسي للواجب الاخلاقي في الإنسان، كذات متفاعلة مع المحيط الخارجي وما ينتجه من تقلبات تستدعي المقاربة السليمة، وفق قواعد عقلانية مبنية على اساس علمي رافض لكل الخرافات والاناشيد الميتة، اذ يكون السلوك الحسن والتحلي بالقيم الانسانية طموح ومكمن الشفاء من جرح الاستثناءات. وكثيرا ما قامت الفلسفة بدور المصل في بعض فترات التاريخ البشري، من خلال معالجة اوضاع العالم المعاصر ومواجهة مشكلاته التي وصلت الى حد الانانية والغطرسة في عصر العلم وسيادة النزعة المادية وسيطرتها على القيم الاخلاقية الانسانية والقيم الروحية، ودعوة الفلاسفة والمفكرين في العصر الحديث الى الاخاء والمساواة في الحقوق والواجبات بين ابناء البشرية جمعاء، دون النظر الي اختلاف اديانهم وثقافاتهم واعراقهم ومستواهم الحضاري، عبر الاعلان العالمي لحقوق الانسان ومنظمة الأمم المتحدة، والدعوة الي نبذ الحروب والاقتتال بين الشعوب والأمم والدول، وهي ماتزال (الفلسفة) اليوم تلعب دورا بارزا في اصلاح الاختلالات التي سادت العلاقة بين الدول والامم، من خلال دعوة العديد من المفكرين العالميين (نعوم تشومسكي، الان دونو…) الى مواجهة الهيمنة الاستعمارية للقوى الكبرى عبر العولمة بصورها المختلفة.

كما تجدر الاشارة ايضا الى الجانب الروحي، الذي لعب دورا لا يستهان به في التاريخ النفسي للانسان، فالعودة الى الدين حاجة ملحة في ذات الظرفية، وما تصريح بعض رؤساء الدول المتضررة من الجائحة خير دليل على ذلك ، فالانسان كائن ضعيف بطبعه،وهي مسلمة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، مهما بلغ به التطور العلمي والتقني.(تفشي الفيروسات والاوبئة نتاج لهذا التطور.)

زد على ذلك أن مثل هذه الأزمات، تدفع المرء إلى رد الاعتبار لعلم التربية، حيث فتحت المجال لتمرير خطابات كانت مركونة الي وقت قريب في زاوية بلا قائمة، تحت وقع الصفعة السيكولوجية التي ايقضت النظافة من الإيمان، والوقاية خير من العلاج، وأمثالهما من أسفار النسيان، ومستودعات الإهمال.

وفي الاخير، لا يسعنا، هنا، المجال، للمزيد من التفصيل، ما نود التأكيد عليه أبلغ واكثر، هو اننا في حاجة الى اعطاء كل ذي حق حقه، علينا الحد من صناعة الجهل والتمكين للفكر، ورد الاعتبار لثقافة الاهتمام بما هو نفسي، لان الرأسمالية وفروع التقنيات، افرغت البشرية من محتاوها الاخلاقي والروحي، وجعلتها هائمة بين الاستهلاك والجمود القيمي، لا تعرف ما تأخر ولا ما تقدم امام تفشي الازمات، اخرها وباء covid19.

فيديو مقال تداعيات “كورونا” في مجتمعاتنا الهشة بين فوبيا الموت والجهل المقدس

 

 

 

أضف تعليقك هنا