جيل الانتزاع: نبادر حتى نبقى

إنّنا نصرّ على تضخيم صورة الطّبيب الذي يعالج الأجسام و رفع شأن المهندس الذي ينحت الأحجار ويصقلها، فلماذا لا يكون موقفنا كذلك من منزلة المعلّم الذي يبني العقول وينحت الشّخصيات وينمّي براعم المستقبل!؟

لماذا ننسى جهود المعلّمين التي قد تمتد عقوداً من الزّمن؟

وللسّائل أن يتساءل أيضا: لماذا ننسى جهود المعلّمين التي قد تمتدّ عقودا بل قرونا من الزّمن وتظلّ محفورة في حيّز الذّاكرة، مثلما ننسى جميع عظماء الأمم الذين يحملون في كيانهم وعقولهم وأرواحهم لمسات ونفخات ممّن علَّمُوهم كلّ حرف وعدد.. كلّ أدب وعلم.. كلّ قول وفعل.. كلّ نصيحة وتوجيه.

إنّ كلّ مجتمع أو ثقافة لها اتّجاه فكري خاصّ بها

كلّها تساؤلات بل إشكالات تحيّر المنطق والوجدان، وتبحث إلى حين عن إجابات عميقة وتفسيرات محكمة، علّها تشفي الغليل وتريح بال الكثيرين الذين لا يزالون بصدد التوغّل داخل حلقة مفرغة عقيمة من البحث والاستقراء.لا مناص من القول، أنّ كلّ مجتمع أو ثقافة لها اتّجاه فكريّ خاصّ بها، فليس العرب كالغرب، كلّ له زاوية للنظر؛ غرب قاس اسم المعلّم بمقياس منبع التقّدم والرّقيّ، وغرب نظر إلى المعلّم بمنظار منطق الحضارة والازدهار، فوفّر له كلّ السّبل والإمكانات والمتطلّبات حتّى يتسنّى له تحقيق أهدافه السّامية وطموحاته النّبيلة.

ثقافة العرب في سباق تدريجيّ مع الزّمن نحو تهميش منزلة المعلّم

وعلى النّقيض من هذا القول، ثقافة عرب هي بالأحرى في سباق تدريجيّ مع الزّمن نحو تهميش منزلة المعلّم بصورة أو بأخرى. كيف لا، وسلط الإشراف والنّفوذ تتراقص على حبل الظّروف المادّية والمعنويّة للمربّي – التي لا يمكن أن يقال عنها سوى أنّها مزرية ازدراء الحياة- فقد أصبح رقصها مشروعا ومباحا أمام جميع المربّين رغم تواجدهم اليوم في طيف الدّيمقراطيّة وظلالها.
وللأسف، انحطّت قيمة المعلّم أكثر من أي وقت مضى، وصار موظّفا عاديّا في أعين الكلّ، بل غدا رقما هامشيّا في قائمة النّسيان، مخذولا في حلقة الوعود والأوهام، مهملا في سياسات التّسويف والمغالطات، تائها في متاهة غريبة تقودها دولة لم تعد تقدّر هذه الجوهرة الثّمينة، بل أضحت تعتبرها كتلة من الأحجار ملقاة في شواطئ الجهل.

إنّنا بحاجة ماسّة إلى أن نمعن النّظر في واقعنا التّربويّ

اليوم وأكثر من ذي قبل، إنّنا بحاجة ماسّة إلى أن نمعن النّظر في واقعنا التّربويّ الذي ما انفكّ يؤسّس على أسّ المفارقات. فالمعلّم كثيرا ما أكّد على ضرورة تأصيل مقاربة الجودة في المدخلات والمخرجات. مثلما أكّد أيضا على تجسيد المدرسة الجاذبة في مقوّماتها وملامحها.

بيد أنّنا نتبصّر النّقيض… فكيف لمدرسة لا تحترم حرّيات إطارها العمليّ، ولا تكفل حقوق جهازها التّنفيذي، ولا تسهر على خلق مناخ ملائم يدفع إلى الارتياح والطّمأنينة والبهجة، أن تكون جاذبة!؟؟؟ وهنا يمكننا القول بصريح العبارة بمدى حتميّة ملامح النفور وإرهاصات الجفاء وبوادر اضمحلال نكهة التّعليم الرّائعة وطعمها في ألسن شباب طموح واعد، هم معلّمو الغدّ.

يجب اعتبار المعلّم منحة لا تقدّر بثمن

إنّ اعتبار المعلّم منحة لا تقدّر بثمن تعود آثارها مباشرة على أصعدة المجتمع على المدى القريب أو البعيد، قد تتحوّل إلى محنة تَطاله في انتكاسات الظّروف والعواقب والإحراجات والتّحدّيات خاصّة إذا طالب بحسن التّقدير ووضوح المصير.
لذلك ولرأب الصدع واللّحاق بالرّكب، حريّ بجيل المعلّمين الجُدد الاتّحاد وتجميع الصّفوف وتوحيد المطالب والأولويّات والعمل على انتزاعها بكلّ ما أوتي لهم من قوّة وجهد وصبر وتضحية في ظلّ ما نعيشه اليوم من تبعيّة الدّولة وتمزّق لاستقلاليتها الناتج عن أملاءات الخارج وأوامره المجحفة، والرّاغب في التّحكم بالشّعوب المستضعفة.

إنّ حتمية الحال والمآل، تدفعنا للحذر كلّ الحذر من المساس بصورة التّعليم ككلّ. وهنا يستوجب التّحرك السّريع نحو الانتقال بالتّعليم من الرّسالة إلى مفهوم الحرفة بكلّ ما تقتضيه من صلابة الأسس والأبعاد بغية تأصيل الشّخصيّة المهنيّة القائمة على جدليّة الاحتفاظ بالرّهان المتاح والتّجاوز بنظرة التّغيير والتّجديد لمعالم القطاع.

أنّ المعلّم هو وجه المجتمع الذي ينبع منه ويعود إليه

وممّا لا شكّ فيه، أنّ المعلّم هو وجه المجتمع، الذي ينبع منه ويعود إليه، وما على أفراد المجتمع سوى الوقوف جنبا إلى جنب، نحو انتزاع المعلّم لشرعيته والعمل معه على إجهاض فاعلية جراثيم الفساد والانحطاط والرّكود… المنتشرة انتشار الوباء، لأنّه مع الأسف، قد تفوّق الظّلم على العدل وصرنا نتعايش في دولة مناقضة للإنصاف.وقبل أن نختم هذا الموضوع، لابدّ من التساؤل حول مضمون الوصول: لماذا لا نحض بمساندة الحكّام؟ أليسوا كالظلّ الذي يحمي الشّعب من الظّلمات كما يعتقد البعض؟ ألم يقل عزّ وجلّ في محكم التّنزيل : (إِنّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وإًنْ تَكُ حَسَنَةً يٌضَاعِفْهَا وَيٌؤْتِ مِنْ لَدٌنْهٌ أَجْرًا عَظِيمًا).

فيديو مقال جيل الانتزاع: نبادر حتى نبقى

أضف تعليقك هنا