حوار الثقافات: نحو إرادة سياسية دولية لإنهاء الصراع

بداية وقبل أن أشرع في تحليل ومناقشة مضامين هذه المقالة، أود أن أشير إلى أن عنوانها أعلاه: “حوار الثقافات: نحو إرادة سياسة دولية لإنهاء الصراع” قد يوهم قارئه من الوهلة الأولى أنني بصدد تقرير وإثبات أن هذه الإرادة متحققة فعلا في عالم اليوم، وأن هناك عزما من المجتمع الدولي وإجماعا منه على أن يجعل من حوار الثقافات سبيلا فعليا لفض النزاعات وتحقيق السلام.

الجهود والمبادرات الدولية التي قامت بها بعض المنظمات والهيئات الدولية

لكن الغاية من هذه المقالة هي إبراز الجهود والمبادرات الدولية التي قامت بها بعض المنظمات والهيئات الدولية في هذا الصدد. وإن كنت أقر أن هناك رغبة وإرادة دوليين في سبيل تحقيق هذا المشروع الإنساني الخلاق. لكن تبقى هذه الإرادة الدولية ضعيفة نسبيا، وذلك راجع لتأثير العديد الفواعل والمعرقلات السياسية لا لنا لذكرها الآن.

المبادرات التي عززت دور الثقافات والتنوع الثقافي في العلاقات

فالكثير من الباحثين يعتقد أن موضوع إدماج الثقافات في السياسات الدولية والدعوة للحوار بين الثقافات، كان كرد فعل على أطروحة هنتنغتون حول صدام الحضارات، إلا أنه ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية وتأسيس منظمة الأمم المتحدة، ولاسيما منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو)، تم اتخاذ العديد من المبادرات لتعزيز دور الثقافات والتنوع الثقافي في العلاقات الدولبة.

أول من بلور سياسة متماسكة لحوار الثقافات هي منظمة اليونسكو

فأول من بلور سياسة متماسكة لحوار الثقافات هي منظمة اليونسكو، ومنذ نشأتها أولت اهتماما خاصا للموضوع، وكانت في طليعة المؤسسات الدولية التي سعت لتعزيز هذا الحوار عبر مجموعة من المبادرات الرامية لتكريس التنوع الثقافي، وتوفير قواعد جديدة لدراسة التفاعلات بين الثقافات، كما عقدت عدة مؤتمرات ولقاءات عالمية وإقليمية ووطنية لتعزيز وإذكاء الوعي بأهمية وإمكانيات الحوار بين الثقافات في أوساط صناع القرار والمجتمع المدني.

فبعد الحرب الباردة أدى التصاعد المثير للنزاعات والقومية والعرقية وما خلفته من مجازر رهيبة، إلى تزايد التطرف الديني والعنصرية، واتساع حجم الإستقطاب الصراعي بين الأديان والثقافات، وكذا الإكتساح الجامح لتدفقات العولمة لكل الثقافات، كل هذا أدى إلى استفزاز المجتمع الدولي ودفعه لتبني فكرة حوار الثقافات بديلا إيجابيا وبناء عن فكرة الصراع الثقافي.

وعند نهاية التسعينات أصبحت الدعوة لحوار الثقافات على جدول أعمال المجتمع الدولي، وتحولت من محض فكرة سياسية واستراتيجية ثقافية عالمية تتبناها وتدعمها منظمة الأمم المتحدة من خلال إعلان سنة 2000 سنة دولية لثقافة السلام واللاعنف، وإعلان سنة 2001 سنة الأمم المتحدة لحوار الحضارات، و2010 سنة دولية للتقارب بين الثقافات، بالإضافة إلى تأسيس “تحالف الحضارات” سنة 2005. هذا التوجه الجديد لإعادة الإعتبار للثقافة في السياسة الدولية هو ما كرسه إعلان الأمم المتحدة بشأن الألفية المؤرخ في 8 سبتمبر 2000، حين اعتبر أن “التسامح يشكل قيمة لازمة للعلاقات الدولية في القرن الحادي والعشرين، وينبغي أن تشمل التشجيع النشيط لثقافة تقوم على السلام والحوار بين الحضارات، واحترام الإنسان لأخيه الإنسان على اختلاف المعتقدات واللغات والثقافات، من دون خشية أو كبت للإختلافات بين المجتمعات وداخلها، بل مع الإعتزاز بها باعتبارها رصيدا قيما للبشرية”.

الحوار بين الثقافات يساعد على إدراك دور الثقافة في الصراعات المعاصرة

ويبدوا أن تداعيات نهاية الصراع الأيديولوجي والمتغيرات الجدية التي أحدثتها تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية، ساهمت في تأزم النظام الدولي الراهن وفقدان بنياته للتماسك والمعنى، مما أنتج اضطرابات ومخاطر عديدة على مستوى السياسات الدولية. فتم استدعاء الثقافات لتشكيل ركيزة أساسية لبناء التعاون والحوار والسلام في معترك العلاقات الدولية. وبهذا انتعشت الديبلوماسية الثقافية، بحيث أضحت الثقافات بما فيها من تنوع وتعدد وثراء فكري، أداة من أدوات السياسة الخارجية لتدبير الأزمات على المستوى الدولي. والحوار بين الثقافات يمكن أن يساعد على إدراك دور الثقافة في الصراعات المعاصرة، ومن ثم يمكن أن نميز بين الأسباب الرئيسة والعرضية للعنف والنزاعات، وهذا من شأنه أن يسهل تحقيق السلام والأمن الاجتماعي.

الحوار الثقافي مبدأ من مبادئ القانون الدولي الذي يكرس السلام وعدم اللجوء إلى القوة

وقد علت في السنوات الأخيرة أصوات كثيرة للمطالبة بإضفاء الشرعية القانونية على الحوار بين الثقافات، بحيث يصير الحوار الثقافي أساسا من أسس العلاقات الدولية، وليس محض اختيار غير ملزم للمجتمع الدولي. ومع أنه توجد فقط مجموعة إعلانات وتوصيات صادرة عن الأمم المتحدة واليونسكو، وليس هناك أية منظومة اتفاقية ملزمة في هذا الشأن، إلا أن هذا لا يمنع من اعتبار الحوار الثقافي مبدأ من مبادئ القانون الدولي الذي يكرس السلام وعدم اللجوء إلى القوة.

في عام 2001 تم الإعلان عن حوار الحضارات

في عام 1998، وبمبادرة من رئيس الجمهورية الإيرانية سابقا محمد خاتمي، وبتوصية من الجمعية العامة للأمم المتحدة، تم إعلان سنة 2001 سنة الأمم المتحدة لحوار الحضارات. وتدعو التوصية ” الحكومات ومنظمات الأمم المتحدة بما فيها اليونسكو، إلى إعداد وتنفيذ برامج ثقافية وتربوية واجتماعية للنهوض بالحوار بين الحضارات، وخصوصا عبر تنظيم المؤتمرات والدورات الدراسية ونشر المعلومات والمؤلفات النظرية حول الموضوع”.

خطاب كوفي عنان بمناسبة افتتاح الأمم المتحدة لحوار الحضارات

وفي خطاب كوفي عنان بمناسبة افتتاح الأمم المتحدة لحوار الحضارات سنة 2001 صرح بما يلي : “بأي معنى يمكن لحوار الحضارات أن يكون مفهوما مفيدا؟ أولا هو إجابة مناسبة وضرورية على فكرة الصدام الحتمي للحضارات، ويمكن له أن يشجع على تدعيم التعاون والحد من الصراع. ثانيا يساعد على التوجه نحو الجذور العميقة والقديمة للثقافات والحضارات لإيجاد ما يجمعنا جميعا بعيدا عن الإنقسامات”.

كما أعلنت الأمم المتحدة عام 2010 سنة دولية للتقارب بين الثقافات، والغاية هي توضيح فضائل التنوع الثقافي، والوعي بأهمية حمايته عبر إدماج مبادئ الحوار والفهم المتبادل في جميع السياسات، ولاسيما التعليم والإعلام والثقافة، على أمل أن يكون هناك احترام متبادل لكرامة وقيم هذه الثقافات من دون أي أحكام سلبية نمطية.

والرهان على الحوار والتقارب بين الثقافات خلال العقد الأول من هذا القرن لم يكن اعتباطيا ووليد المصادفة، بل هو يجسد رغبة المجتمع الدولي في أنسنة وتخليق العلاقات الدولية وخلق الإحساس بالتفاؤل والثقة بين الأمم والشعوب، وهي في بداية ألفية جديدة. وتزداد الحاجة اليوم لإدماج الثقافات والقيم الإنسانية المشتركة في تفاعلات السياسة الدولية، لبث أكبر قدر ممكن من الإنسجام والإتساق في العلاقات الدولية التي ازداد اضطرابها، ولم تعد قادرة على استيعاب تيارات التواصل والتداخل العميقة والكثيفة التي نشأت في سياق الإندماج العالمي.

مما تضمنه الكتاب الأبيض حول حوار الثقافات

وأخيرا أختم بفقرة قصيرة مقتطفة من الكتاب الأبيض حول حوار الثقافات، الذي أصدره مجلس أوروبا  بعنوان “من أجل العيش معا متساوين في الكرامة”، وقد تطرقت هذه الفقرة لبعض الأهداف التي يرمي إليها الحوار بين الثقافات على اعتبار “أنه عملية تبادل وجهات النظر بشكل منفتح ومحترم بين أشخاص ومجموعات ذات أصول وتقاليد إثنية وثقافية ودينية ولغوية مختلفة، في إطار روح التفاهم والإحترام المتبادلين. ومن بين العناصر الأساسية في هذه العملية.

هناك الحرية والقدرة على التعبير فضلا عن الإرادة وملكة الإنصات إلى الآخرين. كما يسهم حوار الثقافات في الإندماج السياسي والإجتماعي والثقافي والإقتصادي، وفي الإنسجام ما بين مجتمعات مختلفة ثقافيا، كما يشجع الإرتقاء بالمساواة والكرامة الإنسانية وإرساء الشعور بالأهداف المشتركة، ويسعى حوار الثقافات إلى التعريف بشكل أفضل بمختلف الممارسات والتصورات، وكذلك إلى تقوية التعاون والمشاركة، وتوفير الفرصة للأشخاص للتطور والتحول بالإضافة إلى تشجيع التسامح واحترام الآخر.

دور حوار الثقافات

كما يمكن لحوار الثقافات أن يخدم أهدافا عدة في إطار الهدف الأصلي المتمثل في النهوض باحترام حقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة القانون، ويعد خاصية أساسية تميز المجتمعات الإدماجية، حيث لا يهمش ولا يقصي أي فرد، بالإضافة إلى كونه يشكل أداة قوية للوساطة والمصالحة. ويستدعي نجاح حوار الثقافات عددا كبيرا من السلوكيات تهيئ لها ثقافة ديمقراطية، ألا وهي رحابة الفكر وإرادة فتح الحوار وإفساح المجال للآخرين للتعبير عن آرائهم والقدرة على حل النزاعات والصراعات بالطرق السلمية.

فضلا عن الإعتراف بصحة حجة الآخر، ويسهم حوار الثقافات في تنمية الإستقرار الديمقراطي ومكافحة الأفكار الجاهزة والأحكام المسبقة في الحياة العامة والخطاب السياسي أيضا، بالإضافة إلى تسهيل تطوير تحالفات ما بين جماعات ثقافية ودينية، وبهذا يمكن من تفادي النزاعات أو التخفيف من حدتها، بما في ذلك أوضاع ما بعد الصراع والنزاعات الجامدة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

فيديو مقال حوار الثقافات: نحو إرادة سياسية دولية لإنهاء الصراع

 

 

 

أضف تعليقك هنا