عازفُ الكلماتِ

إنَّ الكتابةَ كفعلٍ إنسانىٍّ متميزٍ ينم عن أقصى درجات التحضرِ والرقي، تتجاوزُ كونها فعلًا إراديًا لتصبحَ ضرورةً حياتية فضلًا عن كونِها ضرورةٍ إنسانيةٍ؛ فالكتابةُ فعلٌ إنسانيٌّ بحتٌ يتفردُ بها الإنسانُ عن سائرِ مخلوقات الأرض، والله عزّ وجلَّ قال في كتابهِ الكريمِ: “علَّم الإنسانَ بالقلم”.

تكبيل القلم جرم عظيم

والإنسانُ ككائنٍ ناطقٍ يعلمُ أنَّ ما يميزهُ عن الموجوداتِ حوله هو قدرتُه على البوح.. ينطقُ فرحًا، أو ينطقُ حزنًا، أو يهتفُ غضبًا حسب حالته، ولعلَّ أسوأ أنواعِ القمعِ والقهرِ هو تكميمُ الأفواهِ بمنعها عن التعبيرِ عما يجيشُ فى صدرها إنِّ كان الأمرُ كذلك، فأنا أعدُّ تكبيلَ الأقلامِ إثمٌ أكثرُ جرمًا إثمٌ موغلٌ فى الخطيئة أعماقًا أبعد، لأنَّ الإنسانَ الناطقَ المعبَّرَ عما بداخلهِ من شكوى يختلفُ بطبيعة الحالِ فى مقدرته على هذه الشكوى، يختلفُ كذلك فى قدرته على التعبيرِ عن شدتها، أو حدتها، فلا ملجأ له -حينئذٍ- سوى قلمٍ يبثه هواجسه وخواطره وآلامه فيمزجها بدمائه ويبثها حبرًا على الورق.

أهمية القراءة والكتابة

إذن فالكاتبُ -أي كاتبٍ- يعد القلم ابنه الذى يرعى أخواته  -بناتُ أفكار الكاتب- فيتعهدها بعنايته إيضاحًا وتجسيمًا ويشملها بحنانه تهذيبًا وتقويمًا، و إن كان العقاد يقول: “إنَّ القراءةَ حياةٌ للحياةِ” فأنا أستأذن أستاذنا ومفكرنا الكبير -ولست أملكُ مثلَ قلمه ولا عندى كفيضِ فكره- أستأذنه أن أقولَ: إنَّ الكتابةَ هي الحياةُ ذاتها، هي الحياة في كل صورها، هي خصبُ المروجِ، وصخبُ الموجِ، هي نبتُ الزهرة في أعلى جبلٍ ناءٍ في وادٍ بعيدٍ.

إنَّ الحرفَ ذلك القبسُ النورانىُّ المتوهج ،ذاك القمةُ الشماء العالية الشامخةُ، ذلك النبعُ المتدفق أبدي الفيض يستنبط من راحةِ كاتبه حياتَه وذكرياتِه، هل يعني هذا أن القلم يشعر بكاتبه؟! نعم ويستلهمُ أحداث ماضيه من وهج روحه بل ويستشرف مستقبله من وحي حاضره أحيانًا.

كن منسجما مع قلمك

من هنا وجب على الكاتب -أي كاتبٍ- أن يتعهد مزاج قلمه!! فلا يكلفه فوق ما يطيق، ولا يحمله فوق ما يحتمل؛ إنْ كان سعيدًا فلا تكتب به خواطرك الحزينة، وإن كان كئيبًا فلا تكتب به عباراتك الساخرة، وإن كان قلمك متعبًا فلا تستدعه ليخط لك ما يعن من أفكارك فى ليلٍ أو نهارٍ!! ولكي لا تعجب عزيزي القارئ -الكاتب- فالقلم كما سبقَ وأن أخبرتك _ولعلك نسيت_ كائنٌ حي دماءُه مداده ،وروحه فى فكره، ووحيه مقتبسٌ من شعوره الذى هو جزءٌ لا يتجزأ من شعور كاتبهِ_ أبيه _القلمُ يدافع عن صاحبه ويغضب لغضبهِ ويحارب من أجله؛ فكن غيورًا أيها الكاتب على قلمك ،لا تروه من بحيرات فكرٍ آسنةٍ فاسدةٍ تلوث بها طهارته، لا تخض به وحلَ العقائد والمذاهب المضلَّة.. حافظ عليه واجعله نقيًا طاهرًا وديعًا شريفًاِ؛ فالقلم إذا ضلَّ أضلَّ أمةً كاملة فالحذر الحذر.

للكاتب الحرية في التعبير وإبداء الرأي

إنَّ الحديث عن التدوينِ وشرفُ احتضانِ اليد للقلم ليطولُ حتى يعود بنا للماضى السحيق، حين عرف الإنسانُ الكتابةَ وبدأت فكَرُه تتشكلُ أمامه فى تعانقِ الأحرف، وكما للقلمِ من شرفٍ مستمدٍ من شرفِ صاحبه، وكما أنَّ للكتابةِ قدسيتَها وجلالَها وهيبتَها ورونقَها، كذلك فإنَّ للكاتبِ حقوقًا أبسطُها كما أسلفنا ألا يُصادر رأيُه، وإلا فقد حكمتَ على بناتِ أفكاره بالموت اختناقًا وهذا أسوأ أشكالِ الموتِ وأقسى صور اللاحياةِ بل هذا هو عينُ العدمِ فلا عجبَ إذن أن نستعير ما قال الفيلسوف أنا أفكر إذن أنا موجود ونقول أنا أكتب إذن أنا موجود.

فيديو مقال عازفُ الكلماتِ

 

 

 

أضف تعليقك هنا