مارس الأسود؛ تناقضية المبدأ مع السلوك

زمن الأزمات هو زمن التناقضات أيضا… 

ارتبطت الأزمة المالية لعام 1869 في الولايات المتحدة الأمريكية بمصطلح الجمعة السوداء “black friday” رغم أن هذا المصطلح عرف النور في 1960 على أيدي شرطة مدينة فيلادلفيا كما يشاع بسبب معاناتها مع الازدحام والتسوق الذي يبدأ فجر الجمعة وينتهي فجر السبت الذي يليها، لكن رواية أخرى تعزي التسمية للدفاتر المحاسبية للمحلات التي كانت تسجل الأصول (المداخيل) باللون الأسود والخصوم (المصاريف) باللون الأحمر، وبما أن جمعة ما بعد عيد الشكر كانت تمثل اليوم الأكثر مبيعا في العام بسبب التخفيضات المعروضة التي فرضتها أزمة الركود فقد كانت الدفاتر تُسود حتى لا تكاد ترى في صفحاتها جرة قلم أحمر… وتحولت المحنة إلى منحة للبائع والمشتري بفعل زيادة المبيعات والتخلص مما تبقى من موديلات عام منقضٍ بالنسبة للأول، وتحقيق الإكتفاء أو على الأقل إشباع رغبة التسوق بالنسبة للثاني… وأصبح اللون الأسود الذي يغطي دفاتر المحاسبين رمزا إيجابيا في صورة مناقضة تماما لرمزيته الكلاسيكية المعروفة…! وإنتعش سوق سيارات الأجرة، وسوق الإشهار وخدمات المطاعم والوجبات السريعة…

مارس الحالي يحمل كل سمات الجمعة السوداء، كأن ذلك اليوم قد مدد لشهر وقد يزيد، وأوجه التشابه كثيرة، والتناقضات أكثر؛

الزحام لضمان العزلة والتباعد!

خوفا من عدوى #فيروس_كورونا يسعى كثير من المتسوقين إلى جمع ما يستطيعون حمله من مواد استهلاكية لملء مخزوناتهم لمدة الحجر المنزلي وحظر التجوال الممكن إقراره طوعا أو قسرا، وأثناء ذلك لا يتورعون عن الزحام والتدافع بل حتى الدخول في شجارات ونزاعات فيها تصادم جسدي مباشر في تناقض واضح مع السبب الذي يدفعهم للشراء بهذا الكم، وقد لا يعجز علم النفس وعلم الاجتماع عن تفسير هذه الظاهرة لكن رغم وجود التفسيرات يبقى المشهد غريب ومحير، خاصة بعد انتشار الوباء في أوروبا بسبب الزحام الذي شهدته مدرجات مقابلة كروية بين فريق إيطالي وآخر إسباني مما يجعل التصور الأولي الذي يتبادر للأذهان حول الوقاية هو تجنب الزحام لا السعي إليه في سبيل تحقيق سبل وقاية أقل أولوية.

استغلال الاستغلال!

بعض القنوات التلفزية المحلية في بعض البلدان فتحت حصصا مباشرة مخصصة لتدخلات المشاهدين حول موضوع الندرة وإستغلال التجار والباعة للأزمة برفع الأسعار وإحتكار المواد المطلوبة، وخصصت للتدخل المباشر خطوط هواتف تجارية… تلك التي تحمل 4 أرقام وسعر الدقيقة عبرها مضاعف إلى 10 أضعاف سعرها في مكالمات الخطوط العادية، يبدو المشهد مضحكا للكثيرين لكنه مؤلم لكل من يتمعن في هذا الأسلوب اللاأخلاقي في التلاعب بمشاعر الناس الذين يحركهم دافع قوي لإيصال صوتهم للمسؤولين، وخطابهم لما تبقى من ضمائر التجار عبر منابر فتحت في الظاهر للدفاع عنهم ضد جشع الإستغلال، وقد يجد المتصل نفسه صرف من رصيده على مكالمة واحدة من هذا النوع مبلغا مساويا لما دفعه لبقال مستغل أو يزيد!!!

تحدي الفيروس باحتضانه!

رغم أن المنطقة العربية كانت لها فرصة كبيرة للإستفادة من التجارب الأولى التي خاضتها بقية الشعوب التي سبقنا الفيروس إليها، إلا أن بعض الظواهر المشهودة فتحت قوسين للتساؤل والتعجب، فقد شهدت العراق ممارسات تتحدى منطق وعقلانية الدعوة للوقاية والحيطة، كلحس شبابيك الأضرحة تبركا بها، والتدافع داخل المزارات والحسينيات طلبا لرفع البلاء، رغم أن هذه الممارسات لوحظت في إيران فجرّت الويلات على أهلها فضلا عن كونها مناقضة تماما لمنطق الوقاية كما يفهمه كل البشر مهما إختلفت إثنياتهم وتوجهاتهم.

الجزائر أيضا شهدت تحديا للفيروس بصدور عارية في #الحراك الشعبي المستمر منذ عام! وحملت بعض الشعارات مفاهيما غريبة “الحراك و كورونا خاوة خاوة” !!! “كورونا ولا أنتوما” في رسالة إلى السلطة مضمونها “أننا كعناصر في الحراك لا نعتبر الفيروس عدوا حتى تخيفوننا به، وأننا نفضل الموت بسببه على أن نترك حراكنا ضدكم”!!! بل وصل الأمر لبعض الأصوات أن اتهمت السلطة في الجزائر بخلق الفيروس! وأصوات أقل راديكالية اعتبرته وسيلة قمعية لإنهاء الحراك ومبرر لاستعمال القوة! كأن الحراك يمكنه الاستمرار بوجود الفيروس لو لم تصدر السلطة مرسوما يدعو لإنهاء كل التجمعات التي من الأكيد أنها تسبب خطر العدوى! و وصل التناقض أشده في ثلاثاء الطلبة حيث ظهر في المشهد متظاهرون يتزاحمون في أحد شوارع العاصمة يحملون لافتات تدعو الناس للبقاء في بيوتهم ولحماية أنفسهم من العدوى!!!

نفس الأمر حدث في مصر بنكهة مختلفة حين خرج بعض أهالي مدينة الإسكندرية العريقة في مظاهرات ليلية ضد كورونا نفسها!!! نعم فاحتجاجاتهم لم تكن ضد السلطة أو المنظومة الصحية أو في شكل ممارسات دينية، إذ حملوا شعار ” #ارحل_يا_كورونا” وغرد بعضهم يفسر خرجتهم بأنها كانت “حملة توعوية جماعية لسبل الوقاية من الفيروس”!

قادة العالم؛ يقولون ما لا يفعلون

في محطات عديدة ظهر قادة دول كثيرة في العالم في تصريحات ومؤتمرات صحافية ولقاءات ثنائية وأخرى جماعية تمحورت حول فيروس كورونا، لكن طريقة ظهورهم وتفاصيل جلوسهم و وقوفهم كانت محيرة، فقد ظهر ترامب مثلا في مناسبات عديدة وبجانبه نائبه بينس وفي الخلفية وعلى الجانبين عدد معتبر من فريق الرئيس الأمريكي، ورصدت كاميرات التلفزيونات تقاربا كبيرا بين ترامب ومن معه ولحظات من الترتيب على الأكتاف والمصافحات في نفس الوقت الذي يدعو فيه الرئيس الأمريكي العالم والأمريكيين لتوقي خطر الفيروس بالسبل المتاحة والمنصوص عليها من قبل المتخصصين!!!

يظهر ترامب أيضا مع فريقه في لقاء حول كورونا جمعه مع وفد صيني على رأسه الرئيس الصيني، وقد تلاقى الفريقان حول طاولة إهليجية الشكل قطرها الذي يفصل الفريقين لا يتجاوز المتر ونصف المتر في قاعة تبدو ضيقة مقارنة بعدد المتواجدين فيها!!!

نفس السلوكيات أيضا شاهدناها تصدر من رئيس فرنسا ورئيس وزراء بريطانيا… وأكثر الصور التي تحمل تناقضا صارخا بين الخطاب والسلوك هي تلك التي رصدت زيارة الأمير شارلز ولي عهد التانفس السلوكيات أيضا شاهدناها تصدر من رئيس فرنسا ورئيس وزراء بريطانيا… وأكثر الصور التي تحمل تناقضا صارخا بين الخطاب والسلوك هي تلك التي رصدت زيارة الأمير شارلز ولي عهد التاج البريطاني قبل إعلان إصابته لإحدى مستشفيات مملكته تشجيعا للأطباء والممرضين وللمصابين كذلك، حيث ظهر الأمير يصافح صفا من المعالجين في رواق المستشفى الضيق بأيادٍ عارية وبتقارب ملحوظ!!!

فيديو مقال مارس الأسود؛ تناقضية المبدأ مع السلوك

 

 

 

أضف تعليقك هنا