“مناهج الإصلاح السياسي في الإسلام” داوود عليه السلام أنموذجاً مرحلة ازدهار الدول ‏

لا زال حديثنا موصولاً عن مناهج الأنبياء في الإصلاح، وسير المصلحين في الأرض، لا سيما وقد تشابهت قضاياهم مع قضايانا، ومأسيهم مع مأسينا، وكذلك خطى إصلاحهم تمثل المنهاج والهدي للحيارى والأمم اللاحقة وقد كان توجيه الله بإتباع هديهم.

” أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده”
‏” لقد كان في قصصهم عبرةٌ لأولي الألباب”

‏فقد تكلمنا في المقال الماضي عن جانب من مسيرة بني اسرائيل، وبني إسرائيل مثال للأمم المستضعفة كأمتنا العربية والإسلامية اليوم، حيث يعبر عنها في السياسة الأمريكية بمصطلح “اللا ناس” في إشارة إلى هيمنة الغرب عليهم وعدم الإعتداد بشأنهم في رسم السياسات الخارجية للدول التي يحكمها مقولة ثيوسيديدس القوي يفعل كما يحب والضعيف يعاني كما يجب.

إرسال النبي يوشع لبني اسرائيل

‏بعد موت موسى في التيه، أرسل الله نبيه يوشع بن نون ليقود بني إسرائيل من التيه إلى الرشاد بعد مضي العقوبة، ثم كان من أمرهم أن دارت بينهم معارك وبين أعدائهم، فنالوا منهم وسلبوا منهم تابوت التوراة وتشتت جمعهم، فتوافدوا إلي نبيهم وكان نبيهم غير مأمور بالحرب، فطلبوا منه إرسال ملك يلم شعثهم ويقود جيشهم، فحذرهم النبي من مغبة الانتكاس بعد الطلب، فأصروا على النحو المبين في سورة البقرة الأيات (248- 252 )

‏فأرسل الله إليهم طالوت وكان من طبقة العمال والعلماء اقرب ما يكون للطبقة الوسطى، فتأبوا عليه فأرسل الله إليهم التابوت الذي يحمل التوراة التي سلبت منهم، فخضعوا له.

‏المعارك بين بني اسرائيل وأعدائهم

وقد كان هذا القتال بين بني إسرائيل والعماليق وهم القوم الذين كانوا يسكنون الأرض المقدسة أيام موسى عليه السلام وهم أن يدخلها واختار سبعين رجلاً ليستطلعوا الأرض فوجدوا العماليق أقوام لا قبل لهم بهم، فرجعوا لموسى قائلين إن الرجل منهم يحمل الرجل منا في كمه، فأذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، فضرب الله عليهم التيه، حيث أن قصة داوود عليه السلام هي المحاولة الثانية لدخول الأرض المقدسة، وداوود عليه السلام لم يكن جنديا من جيش طالوت فيما أعلم لحداثة سنه، وإنما أرسله والده ليتقصى نبأ اخوته الثلاث المشاركين في القتال.

فرأى جالوت في جبروته ينادي مبارزاً والجيش يتحاشاه، فسأل عن مكافئة من يقتل جالوت فأُخبِر عن وعد الملك بتزويجه ابنته، وتوريثه الحكم من بعده، واعتاق أهله فتقدم داوود ليبارز جالوت، ورماه بحجر بمقلاعه وكان مسدد الرمي، فأصابه ووقع صريعاً فأسرع وأجهز عليه، وحز رأسه، وتقاتلا الجيشان وهُزم العماليق، وعلى إثر هذه الحادثة منح داوود عليه السلام الملك والنبوة، فكان أول نبي يجمع بين الملك والنبوة بين الأنبياء جميعاً، وقد جاء القرأن على ذكره 16 مرة.

المراحل التي تمر بها الأمم

والأمم مهما اختلفت فهي تمر بمراحل ثلاث

  • المرحلة الأولى

    • النشأة والبناء وقد تمثلت في الفترة من يعقوب عليه السلام وحتى موسى عليه السلام.
  • المرحلة الثانية

    • هي مرحلة النهضة والإزدهار وهي فترة حكم طالوت وداوود وسليمان عليهما السلام.
  • المرحلة الثالثة

    • ثم تعقبها مرحلة الإضمحلال وهي من بعد سليمان عليه السلام وإنقسام دولته إلي دولتين إسرائيل في الشمال ويهوذا في الجنوب التي انتهت بالسبي البابلي على النحو المبين في نسخ الكتاب المقدس.

‏ وقد أراد الله نهضة بني إسرائيل إكراماً لأجدادهم الأنبياء وحتى يتسنى للأمم من خلفهم أن يسلكوا دربهم، فقد أرسل الله إليهم موسى ليرسم نموذج البعث والاستنهاض، ويهاجر بهم ليبدأ تربيتهم على النهج الإلهي، بعدما مسخت سياسة الطغيان فِطرهم، وقد لاحظنا إعوجاجاً في سلوكهم مرات كثيرة مع موسى عليه السلام وصبره عليهم، حتى مات موسى عليه السلام، وأخد الله يرسل إليهم الأنبياء ِِتِباعاً ليتعهدوهم بالتربية والإصلاح.

نهوض الأمم بالإصلاح والمصلحين

إن الأمم تستنهض بالمصلح الذي يخلق نُخباً من الصادقين، لتصبح تلك القلة فاعلة في قرار أمتها، والذين بدورهم يتعهدوا الأمة تربية وحكماً وإصلاحاً من بعده، حتى تتجلى فيهم التربية،ويبزغ نجم قائدٍ مؤمن ينهض في أمته فيقيم شأنها بين الأمم، فنهضة الأمة تحتاج غالباً إلى جيلين أو ثلاثة غالباً حتى تنهض من كبوتها. ودائما تربية الأمة ثورث سيادتها وتصدرها، ودائماً القلة، والنخب هي من تصنع الفارق في مسيرة أمتها.

وقد كان موعد بني إسرائيل مع ذلكم القائد المحنك رائد نهضتها، نبي شاب شق صفوف المجاهدين ليبزغ نجمه في كتائب المؤمنين، فيقاتل جباراً طاغيه ويهزمه على حداثة سنه، بمقلاعه وهو النبل المستخدم في الرمي فيكافئه الله بالملك والنبوة، أمران لم يجمعا لموسى ولا لنبي قبله، وقد كانت مكافئة عن جدارة واستحقاق، فهو أشجع قومه، وأبصرهم قضاءاً، وأبلغهم قولاً وارتجالاً، وأدومهم طاعة، وأقربهم إلى الله عز وجل، وهو أنداهم صوتا.

إن داوود عليه السلام هو مثال للملك الراشد والحاكم الصالح، الحداد الصانع صانع الدروع السابغة والأسلحة الماضية الذي بلغ الذروة في صنعته ” وألنا له الحديد. أن أعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحاً…” والسابغات هي الدروع وهي في يومنا بالدبابات والمدرعات والمجنزرات العسكرية ، وداوود عليه السلام هو رائد الصناعات الإستراتيجية السعي إلى إستقلال أمته.

‏العالم العربي والإسلامي غني بالثروات التي سخرها الله لنا

وعالمنا العربي والإسلامي مليئ بالثروات، فلدينا مثلاً في دولة موريتانيا العربية 80% من الحديد الخام في العالم، وفي الوقت الذي أكد فيه القرآن أن تلين الحديد كان معجزة خاصة لداوود عليه السلام دون قومة، يصر الإسرائيليون على أنهم ورثوا منه تلك الصنعة، وأن الحديد لا يزال ليناً بأيدهم، وأنهم لا زالوا على عهدهم بها، فهم اليوم صناع الدبابة ميركاڤا أضخم دبابة في العالم، وتزن ٦٥ طنا، بينما تزن مثيلاتها البريطانية ٤٠ طناً.

وأنهم أصحاب منظومة القبة الحديدية الدفاعية من أكثر المنظومات طلباً حول العالم، وأنهم استعاضوا عن تسخير الطيور لداوود عليه السلام بتسخير الطائرات بدون طيار، التي تتربع على عرش إنتاجها منها، لجمع المعلومات واستهداف الأهداف دون خسارة بشرية، وهي صناعة تميزت بها وجنت من ورائها مليارات الدولارات.

وبينما يؤكد القرآن على تسخير الفلك والأنهار لأمتنا الإسلامية بقوله تعالى ” هو الذي سخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار، وسخر لكم الشمس والقمر دائيبين وسخر لكم الليل والنهار”
فإنه لا يزال بعض المسلمين متشككين حول أهمية هذا التسخير، فالأساطيل في بحرنا هي أساطيل أجنبية، والهيمنة فيه لغير المسلمين، ومياهنا الإقليمية هي الكلأ المباح لأساطيل الولايات المتحدة وحلفائها.

وصايا الإسلام للملوك والحكام

  • المبادرة إلي تولي الحكم والقيادة السياسية.
  • التزام الحق والبعد عن الأهواء.
  • احذوا عاقبة المنزلقين عن الحق المتبعين الأهواء.
  • خلق النخب والتعاهد على تسليم الرايات جيلاً بعد جيل.

‏”يداوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله…”

ملكات داوود عليه السلام

وجود الملكة لدى الشخص قد تكفل تصدره للوزارة كما حدث في قصة يوسف عليه السلام، بينما الحديث عن الملك والقيادة العامة أشار القرآن إلى:

  • ضرورة تعدد الملكات واتساع الحيلة والجراءة في اتخاذ القرار.
    “ولقد ءاتينا داوود منا فضلا ً يجبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد”
  • والاعتماد على الصناعات الاستراتيجية التي تضمن الاستقلالية،
    “وألنا له الحديد أن أعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحاً إني بما تعملون بصير”
  • وضراوة الجيش وبراعة استخباراته المتمثلة في قوله تعالى
    “وحشر لسليمان جنوده من الجن والانس والطير فهم يوزعون”
  • وإتساع المعرفة بما يكفل إحكام السيطرة على المملكة
    ‏” حتى إذا اتو على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم….”
  • واستخدام كل الطاقات الكامنة
    ‏”أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين”
  •  وإظهار الحزم والحسم القضائي والإداري
    ‏” ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين، لأعذبنه عذاباً شديدا ً أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين”
  • امتثال العدل في القضاء والفصل في المنازعات بالحكمة
    ‏” وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين”
  • كذلك من اللافت أن موسى عليه السلام استعان بأهل الثقة وطلب العون من داخل بيته “واجعل لي وزيراً من أهلي. هارون أخي…”
  • بينما سليمان عليه السلام طلب عون أهل الخبرة “قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين”

ربما لأن مرحلة النشأة والتأسيس، تحتاج إلى معاونة صادقة، وتأمين لحياة القيادة والمؤسسين، وتحركاتهم تملئها الحيطة والحذر، بينما يمثل سليمان الدولة في حالة الفتوة، ولديهم من الخبرة ما يحول بينهم وبين الانجراف وراء الأراء الزائفة، وهو وقت لا تتأثر فيه الأمة برأي ضعيف بل يكون حدث يضاف إلى سجل تجاربها.

حديث القران الكريم عن جانبٍ من ملكات داوود عليه السلام

“وشددنا ملكله وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب”
“لقد أوتيت مزماراً من مزامير ال داود”
“ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داوود زبورا” “الإسراء 55”.
“إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب”
اعملوا آل داوود شكرا ً وقليل من عبادي الشكور.
وداوود عليه السلام كان صاحب منهج متفرد في العبادة، أثنى عليه الله ورسوله، وفعَنْ عبدِاللَّهِ بنِ عَمْرو بنِ العَاصِ، رَضيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: أَحَبُّ الصَّلاةِ إِلَى اللَّهِ صَلاةُ دَاوُدَ، وَأَحبُّ الصيامِ إِلَى اللَّهِ صِيامُ دَاوُدَ، كانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْل وَيَقُومُ ثُلُثَهُ ويَنَامُ سُدُسَهُ وَيصومُ يَومًا وَيُفطِرُ يَومًا متفقٌ عليه.

لقد أضحيت ترى الأن أن القرآن يرسم مناهج الإصلاح، يسير على الفهم، يسترعي الإنتباه، ويستشرف واقعاً مغاير لأتباعه المسلمين، وإن هذا لميدان خليق أن تمضى فيه الأوقات، وتثتثار فيه الأذهان، وتكثر فيه الكتب والمقالات، هو ميدان التدبر والفهم، حيث تسري قواعده في حياتنا المعاصرة، كلٌ يدلي فيه بدلوه، ويفتح عليه بقدر علمه، ويؤجر فيه المخطئ والمصيب.

فيديو مقال “مناهج الإصلاح السياسي في الإسلام” داوود عليه السلام أنموذجاً مرحلة ازدهار الدول ‏

أضف تعليقك هنا