أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ (بوصلة المؤمن في خضم الأمواج)

بقلم: أ.د/ فؤاد محمد موسى عبد العال

التقرب من الله ينير طريق الهداية والصواب 

ما أجمل هذا التعبير القرآني: ( أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ)! عن سريرة المؤمن التي تنكشف للعنان بكل وضوح وإخلاص وسلاسة وانسياب في حياة المؤمن شكلا وموضوعا وظاهرا وباطنا، وهو مستريح البال ولديه اليقين والثبات والانشراح، فقد حدد وجهته على طول طريق حياته وفي كل الأحوال لها لا تبديل ولا انتكاس ولا لجلجة ولا تردد، طريق واضح لا ظلمة فيه، فيه نور على نور، هذا المؤمن الذي جعل الله له نورا يمشي به (وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ ) ( الحديد: 28). كل عمله خالصا لوجه الله، توحيد خالص، فهو محسن في كل أقواله وأفعاله ومشاعره ونواياه وسريرته وعلانيته.

البعد عن الله ظلمة وضياع

وعلى النقيض من هذا هناك من ضاقت عليهم أنفسهم في هذه الأيام، وتراهم في حيرة من أمرهم، كثرت شكواهم من ضيق الدنيا وأوضاعها، يسيرون في الأرض وكأنهم سكارى، وما هم بسكارى، لا يعرفون لهم وجهة يولونها، وكثرت تحليلاتهم وتصوراتهم المظلمة، كل يبدي برأيه الجاهل كالعالم سواء، التخبط والتيه والظلمة يلفان جوانب حياتهم، والكل يتساءل أين المفر. لقد فقدت البوصلة التي تحدد الوجهة، وهذا ما نبأ به رسول الله منذ أربعة عشر قرنا إذ قال: «جعلت في هذه الأمة خمس فتن: فتنة عامة، ثم فتنة خاصة، ثم فتنة عامة، ثم فتنة خاصة، ثم تأتي الفتنة العمياء الصماء المطبقة التي يصير الناس فيها كالأنعام». إن المستمع للبرامج الحوارية والدعوية بوسائل الإعلام، يجد تعمق هذه المشكلة في كل المستويات والأعمار والأقطار إلا ما رحم الله، فهي عامة كما جاء في الحديث الشريف.

ما السبيل الذي حدده الله تعالى إلى الهداية بعد الوقوع في المعصية؟

لقد حدد الله عز وجل هذه المشكلة ووضع لها المخرج في آية واحد: (قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۖ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) ( الأنعام: 71)

المشكلة تم توصيفها بمنتهى الوضوح والدقة في مقدمة الآية (قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ) إنه في اتباع منهج هوى النفس والشيطان، الذي تعقبه الحيرة والتخبط والضلال، ثم يأتي التقرير الواضح الصريح للمخرج في أقل الكلمات ( قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۖ)، بل أن ما يثلج الصدر ويعطي الإنسان الأمن والراحة النفسية ما جاء في ختام الأية (وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ).

إنه الإستسلام لله بكل ما تعطي الكلمة من إيحاء بهدوء النفس والسكون في كنف الله ومعيته.

ورغم هذا التجلي من رب العالمين والوضوح في الخطاب بكلمة “قل” يخرج علينا كل متقول وكل متفلسف بنظريات وأقاويل لا تغني من جوع ولا ظمأ، يملأون الأرض ضجيجا وعواء بأنهم أصحاب الفكر والتنوير لهداية البشرية واخراجها مما هي فيه. فتزداد البلة طينا والظلمة قتامة، والحيرة فوق الحيرة، إنها الفتنة العمياء الصماء المطبقة التي يصير الناس فيها كالأنعام. فالإنسان بخروجه عن منهج الله واعتماده على هوى نفسه وما يزينه له الشيطان أصبح ظلوما جهولا.

إسلام النفس إلى ربها هو السبيل الوحيد للعبور إلى الآخرة بسلام

إن المخرج الوحيد للذي نحن فيه يتمثل في قول الله (وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) بأن ننقاد لتوحيده، ونستسلم لأوامره ونواهيه، وندخل تحت عبوديته، فإن هذا أفضل نعمة أنعم الله بها على العباد، وأكمل تربية أوصلها إليهم. (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) (النساء:125)

إن التسليم والتمسك بمنهج الله يجعل المسلم كله ثقة واطمئنان، وكله رضى واستقرار.. لا حيرة ولا قلق، ولا شرود ولا ضلال… سلام مع النفس والضمير.. سلام مع العقل والمنطق… سلام مع الإنسان والأحياء الأخرى… سلام مع الوجود كله… وسلام يظلل الفرد والمجتمع… سلام في الحياة الدنيا وسلام في الآخرة.

أخي المسلم هل حددت وجهة بوصلتك، أم ما زلت في حيرتك؟ (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ) (الذاريات: 50).                   هل استسلمت لله؟ أم لهوى نفسك وشيطانك؟ فكر طويلا وحدد خيارك (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ( البقرة: 256 )، أخي المسلم ألا تحب أن يقال لك: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) (الفجر: 27 – 30)… وتكون هذه الخاتمة الطيبة.. اللهم اجعلنا منهم.

بقلم: أ.د/ فؤاد محمد موسى عبد العال

 

أضف تعليقك هنا