الطلاق في المجتمع السعودي…الإشكاليات الثقافية أولاً

” النار ما تحرق yلا رجل واطيها” هذا المثل العامي البسيط يشير إلى ظواهر كثيرة ومؤلمة في مجتمعنا؛ مما لا نشعر بمدى أهميتها الا مع ظهورها في محيطنا الصغير، وأحد تلك المشكلات التي يجب ألا ننتظر أن تمس أحد أفراد عائلتنا؛ حتى تنال منا مزيدا من التأمل والاهتمام هي الارتفاع في نسب الطلاق في المجتمع السعودي، إن الطلاق بحد ذاته لا يعد مشكلة، بل – على العكس – يعد أحيانا حلاً لبعض العلاقات العائلية غير السوية، إنما المشكلة تكمن في ارتفاع نسب الطلاق، وهو الأمر الذي يدعونا لمزيد من التفكير والتأمل في مثل هذه الظاهرة الاجتماعية المعقدة.

تفشّي ظاهرة الطلاق مهدد للاستقرار والتماسك الأسري

إن تفشي ظاهرة الطلاق هو المهدد الأهم للاستقرار والتماسك الأسري، وهي اللبنة الأساسية والأهم في بناء المجتمعات الإنسانية، وفي المجتمع السعودي يمكن بسهولة ملاحظة مدى أهمية مؤسسة الأسرة واستقرارها إذا ما اطلعنا على المادة التاسعة من النظام الأساسي للحكم؛ والذي يعتبر الأسرة نواة المجتمع السعودي وأحد أهم مقوماته، ولذا من الطبيعي أن يشكل تفشي ظاهرة الطلاق قلقا لمختلف مؤسسات المجتمع والدولة.

هذه الأهمية الدينية والمجتمعية انعكست علميا عبر تقديم العديد من البحوث والدراسات من قبل المختصين في العلوم الاجتماعية في السعودية، ولكن إشكالية تلك الدراسات – بحسب وجهة نظري المتواضعة – هي أنها للأسف تتناول ظاهرة الطلاق بمنهجية (وضعية) كمية، تعطي كل الاهتمام للجانب البارز والسطحي من الظاهرة الاجتماعية، مغفلة التعمق (الكيفي) لمشكلة معقدة وشمولية كظاهرة الطلاق في مجتمعنا!

ما هي أسباب الطلاق؟

ومن خلال القراءة في الدراسات المنشورة في حول ظاهرة الطلاق في المجتمع السعودي؛ لاحظت أن أسبابا كالعنف الأسري، والخيانة الزواجية، والإشكاليات الاقتصادية الخ، يقدمها الباحثون السعوديون بمثابة الأسباب وراء تفشي ظاهرة الطلاق؛ استنادا لاستبانات وبحوث ميدانية! رغم أنها بحسب وجهة نظري مجرد أثار للمشكلة وليست سببا بذاتها، وهذا مثلما وضحت ناتج عن اعتماد أغلب الباحثين على مناهج كمية وضعية تعطي كل التقديس والأجلال للعلاقات الإحصائية الرقمية الموضوعية الجامدة لظاهرة إنسانية معقدة مثل ظاهرة الطلاق.

بينما في قضية كالطلاق نحن أمام إشكالية (ثقافية-اتصالية) ساهمت في تشكيلها معايير التنشئة الاجتماعية والعادات والتقاليد والقيم، وهي إشكاليات ومعايير ثقافية بامتياز، وللأسف فإن مثل هذه الفجوة الثقافية مازالت تتسع؛ مما يؤكد أننا أمام معضلة تفكك وإعادة تشكيل هوية في الأسرة السعودية ساهمت وما زالت تساهم في ارتفاع في نسب الطلاق، وفي هذه المقالة يمكن أن استعرض ثلاثة من الأسباب ذات الخلفية الثقافية والاتصالية التي تعطي مثالاً لما قصدت بوجوب إعادة النظر في دراسات الطلاق والأسرة من منظور ثقافي اتصالي.

أولاً) وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي

إنَّ للإعلام والاتصال جانب ثقافي بحت يحمل الكثير من الدلالات الرمزية والرأس مال العاداتي، ونظريات الاتصال الحديثة لا ترى أن لوسائل الإعلام أثر مباشر في تغيير القناعات كما يغير الرصاصة في الجسد، وإنما هنالك نظريات غرس ثقافية وتغيير قناعات بأسلوب البروبوغاندا وعلى مدد طويلة، وقد فتحت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي أعين أفراد الأسرة السعودية على عوالم استهلاكية واجتماعية جعلتهم يقارنون ما لديهم مع ما لدى الغير، والنفس الإنسانية مجبولة بطبعها على عدم القناعة والرضا، بينما خلق الله سبحانه وتعالى عبادة متفاوتين في القدرات، والرزق، والخصائص الجسمية والنفسية، يقول الله تعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾ (الإسراء 21).

وفي علم الاجتماع الأسري تعدُّ النظرية التبادلية Exchange theory)) أحد أهم النظريات المفسرة للطلاق؛ حيث يقوم الأزواج عادة بمقارنة مزايا وخصائص علاقتهم الزوجية مع العلاقات الأخرى المحيطة بهم، ويشعرون إثر تلك المقارنات بعدم الرضا الزواجي، والإحباط، والرغبة في الانفكاك، كما يقوم الزوجان في مرات أخرى بعقد مقارنات بين علاقتهما الزوجية وعلاقات أخرى ذات عوائد وفوائد اكبر سواء في وسائل التواصل الاجتماعي أو في الإعلام الجماهيري أو حتى على مستوى الأقارب.

وإن النزعة الاستهلاكية التي تقدمها تطبيقات ووسائل الإعلام الحديثة تخلق جوا من المقارنات غير العادلة، كما أن المحتوى الدرامي الخليجي والعالمي عبر شبكات البث الأجنبية يقوم على تسويق قصص التوافق العاطفي الشاعرية الغير واقعية لنجوم مختارين بعناية بحسب معايير جسدية وأسلوبية لا يمكن تحقيقها في الحياة الواقعية في الأسر السعودية، مما شكل للكثير من العلاقات الزواجية معول هدم وسببا من أسباب التفكك الأسري وعدم الرضا والإحباط الزواجي، عبر مقارنة وتفضيل العلاقات والمنافع والبدائل بحسب النظرية التبادلية التي تم الإشارة لها وتوظيفها في هذا الجانب الهام والرئيسي من أسباب تفشي ظاهرة الطلاق في المجتمع السعودي.

ثانيا) العادات والتقاليد في المجتمع السعودي

 بحسب فروض النظرية البنائية structural functionalism  يتميز المجتمع السعودي بالتكامل والانسجام العالي في بناءه العائلي والقبلي، وهذا البناء الأسري والعشائري الطابع يملك سلطة مؤثرة في تحديد اهداف ومعايير العلاقات الزواجية الناجحة والمثالية، ومثل هذا التأثير بدأ يشكل عبئا ثقيلاً على كاهل الأبناء في الجيل السعودي الجديد، حيث تغيرت معايير هذا الجيل الجديد في موضوع اختيارهم لشريك الحياة بحسب ما تمليه ثقافة وخيارات المجتمعات الحديثة، وبالتالي أصبح هناك تباين وصراع بين مشروع الزواج الذي يخططه الآباء في القبائل وما لحقه من المعايير العائلية هذا من جهة، ومن جهة أخرى بين رغبات وحاجات الأبناء في الزواج الحديث ذات الخصائص الفردانية!

ولأن سلطة الأسرة والقبلية في المجتمعات التقليدية لها الهيمنة خصوصا في اختيارات الأنثى لشريك حياتها، فقد أصبحت تعيش الكثير من السيدات السعوديات حالة من الزواج الروتيني، تحولت معه مسألة الانفصال بين الأزواج إلى مجرد وقت قبل انهيار العلاقة بالطلاق، وهذا السبب بالتحديد يشكل ركيزة أساسية للكثير من الخلافات الثانوية التي نعتقد بشكل خاطئ أنها السبب في الطلاق في الأسر السعودية.

إن الفتاة السعودية وبسبب صرامة التقاليد والعادات لا يمكنها أن تصرح بالمعايير والخصائص التي ترغبها في شريك حياتها، في وقت أصبح للزواج التقليدي وظائف كامنة  -بحسب نظرية روبرت ميرتون المعيارية – لا تتمثل بالوظائف الظاهرة التي يصنعها المجتمع التقليدي للزوج كتربية الأبناء، والاستقرار الأسري، وحفظ الفروج، إنما المقصود هو وظائف تتعلق بالالتزام بمعايير الحس المشترك في المجتمعات العولمية والحداثية، وما يفرزه الانفتاح من خصائص للزوج والزوجة بدأ تفرض هيمنتها على معايير المجتمعات التقليدية في الزواج.

ثالثا) عولمة القيم وصراع التحديث

إننا في المجتمع السعودي نعيش إشكالية تعد أصيلة ومربكة في قراءة المشهد الاجتماعي السعودي وهي (عولمة) القيم الحداثية التي تقدم الحياة في الأسرة السعودية بشكل نموذج كوكبي عالمي، والتي تلقاها المجتمع السعودي عبر مؤسسات المجتمع المدني الدولية، وهذه النظم والقوانين شكلت من الحياة في الأسر السعودية صراعا جدليا مع القيم التقليدية لحياة الأسرة التقليدية والقبيلة، مما سيكون له بالغ الأثر في إعادة انتاج القيم الاجتماعية ومعايير التنشئة والضبط الاجتماعي في واقع الأسرة السعودية، وهو ما يحتاج منا لطرح رؤية تركيبية يحتاجها المواطن السعودي ليحقق رشدا وعقلانية بأفعاله وتوافقا اجتماعيا مع الاخرين ومع الأسرة ومع مؤسسات المجتمع.

إن للفيلسوف الألماني هايبرماس صاحب النظرية التواصلية، معالجة رائعة وذكية في ربط الحقل التواصلي بين ما هو أداتي حضاري، وما هو اجتماعي ثقافي، عبر ما اسماه ” الترجمة التواصلية” هذا المبدأ أو الفلسفة يبتكرها هايبرماس ليحاول التوصل لنموذج توفيقي بين الحضارات والثقافات، ومثلاً يمكننا أن نترجم مبدأ كالنسوية التي تقوم على البحث عن العدالة الاجتماعية وحفظ حقوق المرأة في الثقافة الغربية، بمبدأ ثقافي إسلامي لا يتعارض ما المبادئ والعادات والتقاليد مثل مبدأ ” التمكين ” فالمقصود بالنهاية هي العادلة الاجتماعية وحفظ الحقوق! وبالتالي فإن التسميات والتصنيفات لا تغير في الحقائق شيء، بل إن ما يهمنا هو أن نصل لنقطة اتفاق لا تخلق فجوة بين ما هو حديث وعصري وبين ما هو تقليدي أو ديني، وإننا إن لم نحاول التوصل لمثل تلك الموافقات والنماذج التركيبية، فسنواجه معضلة ثقافية سيكون لها تأثيرها الكبير والمباشر على حياة الأسرة السعودية،

وذلك بأن نصل – على سبيل المثال وليس الحصر – إلى حقيقة تقوم على أن الضرب في الحياة الزوجية مبدأ مرفوض ويصنف كعنف في العرف العالمي، بينما في مجتمعنا السعودي يعد ضمن المبادئ الموافق عليها دينيا ولا يمكن محاكمة الزوج عليها تحت بند التأديب غير المؤلم، وهنا إشكالية تواصلية، فمبدئ الإيلام في الثقافة الحالية الحديثة لا يتوقف عن الإيلام الجسدي، بل إننا أمام عرف ثقافي ومشترك إنساني يقوم على تفسير الألم النفسي والضرر الروحي كضرر مادي يمكن مقاضاة الأفراد على الإهمال به تجاه الآخر.

إنها العلمانية الشاملة ذات القيم العالمية، التي بدأت تدخل بمفاهيم الفردانية وقيم العدالة الاجتماعية للمهمشين والأقليات عبر وسائل الاتصال المختلفة، يقابل ذلك جمود النظام المرجعي المنتج للقيم والعادات الضبطية والتربوية التقليدية الدينية، ومصدر جموده ليس في أصالته ولا في قيمتها التي لا أحد يشك فيها باستنادها على معين قويم ووحي منزل من السماء (القران الكريم والسنة النبوية المطهرة) وإنما تكمن الملاحظة في الإطار المعرفي المؤول والمفسر لهذه المرجعية، فحن نستند على تفسيرات قرآنية وتأويل للسنة النبوية المطهرة تعود الى قرابة القرن، هذا الاعتماد التقليدي على ثقافة (النقل) الثابتة دون قراءات تأويلية تتفهم الواقع ونتج قيم ضبطية حداثية ذات أصالة إسلامية لن يساعد الأب ولا الأجهزة الضبطية التعليمية والتربوية والقيمية على مجابهة ومقاومة القيم الحداثية التي تتميز بقوة الخطاب الدعائي والتصاقها بالمتغيرات الحديثة.

ختاما فإن النظر في الجذور الثقافية لمشكلة التفكك وانحلال المجتمع وليس الظواهر الناتجة عنها كالعنف أو المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، أصبح يشكل مسألة حتمية من جانب معرفي، ويجب أن يلتفت لها ويتأملها المختصون في الدراسات الاجتماعية، كما يجب حقا أن نعيد النظر كباحثين اجتماعيين في منهاجنا البحثية في الدراسات المتعلقة بالأسرة والطلاق، فالأسرة –كما ذكرنا سابقا –أحد أهم الأبنية المجتمعية وتأثرها وانحلالها يشكل خطرا على أمن واستقرار المجتمع.

فيديو مقال الطلاق في المجتمع السعودي…الإشكاليات الثقافية أولاً

أضف تعليقك هنا