في الذاكرة

بقلم: طارق المنيظر

إشراقات الذاكرة

تتسللُ إلىَ خاطري ذكرياتٌ جميلةٌ تنسابُ روعتُها في أفقٍ أشرق لا ينمحي. إبان زمنٍ كانَ إدراكنا فيه للأشياء يتسمُ بالبساطة أو ربما ببعض من المحدودية… كنا أطفالا أو تلاميذ ندرس ونلعبُ بعفوية ونمرحٌ كأن الدنيا خالية من الهم والتعب… الحياة جميلة، حين لا نوسع دائرة إدراكنا للأمور ونأخذها بالبساطة المطلوبة.

كانت السعادة تغمرنا حيث ينسابُ أريجها بكل هدوء في نفوسنا ونحن نتقاسم، تحت ظل شجرة، وجبات الغذاء في الفترة الزوالية بالقرية التي ندرس فيها، بعدما كنا نجيء من دواوير تنوء عن المدرسة بما يقارب الأربع أو الخمس كيلومترات. كل هذا التعب كان يذوب، بحيوية ناطقة بالود والإقدام، وسط الحس التضامني الذي ربتنا عليه الظروف. فعلا، هذا الإحساس الجميل لا زال ينبجس بداخلنا كلما تشاركنا شيئا جميلا مع الآخرين وأدركنا مدى صعوبة الزمن الموغل في الوحشية والفردانية.

بداية دخولي للمدرسة في سن السادسة

بعد بلوغي السن السادس من عمري، قرر أبي تسجيلي بالمدرسة الإبتدائية، بعد أن قضيتُ عامين بالمسيد، حيث تعلمت حينها الكثير وأحببتُ أثنائها اللغة العربية بشغف لا يوصف. كانت ذاكرتي قوية متعطشة للحفظ وترسيخ كل ما مررت به في الحياة. لم أجد فرقا كبيرا بين المدرسة والمسيد إلا الأصدقاء والصديقات والربيع الذي كان يملأ الساحة حيث كنا نمرح فيه بحيوية وجنون خلال فترة الاستراحة. نتبادل الركلات ونتقاسم على شكل فريقين للإقدام على لعبة كنا نسميها بالعامية “الركل”.

سعادتي مع أصدقائي

كانت هذه اللعبة بالنسبة لنا فنا من فنون القتال والدفاع عن النفس. فعلا، تمرسنا على الدفاع عن نفوسنا بفضل هذه اللعبة التي كنا نضع لها قواعد من تلقاء ذواتنا بشكل اتفاقي وكأننا في حرب ضروس… كنا نلامس في مؤسستنا، ونحن في سن طري، امتداداً لطريق مفروشة بالتحديات والمغامرات والعقبات… الحماس فينا لم يكن يعرف معنى الفتور! كنا ننتمي إلى أسر متقاربة، حيث لم تكن الفروقات الاجتماعية شاسعة بين هذا وذاك، لكن كانت الفوارق مطروحة على مستوى ردود الأفعال والحماس والاجتهاد والانضباط. كل منا كان في اتجاه محفوف بالغموض والشكوك… كلما باغتنا السؤال ما المصير؟

بمجرد عودتي للمنزل أشتاق للمدرسة والأصدقاء

بمجرد عودتنا إلى المنزل كنا نشتاق للأصدقاء والوسط الدراسي. ننجز الدروس متضرعين بضوء “المصباح الغازي” او “اللامبة”، كل أسرة كانت تتضمن خمس أو أربع إخوة على أقل تقدير، كانوا يتشاركون مائدة ومصباحا يتيماً ذا ضوء خافت، لم تكن المرآة معينا لتحسين منظر وجوهنا، حتى الحلاقة كانت عادية وبسيطة لا تستدعي النظر إلى المرآة، ما كان يزيد رونق منظرنا البسيط هو تلك الحروق والآثار التي تركتها “اللامبة” فوق شعرنا بفعل انحنائنا عليها دون وعي ونحن منكبين في إنجاز التمارين والدروس.

مضى على تلك الذكريات ستٌ وعشرين سنة

استحضار هذه اللحظات التي مرت عليها مدة تقارب الست وعشرون سنة، وهي مدة ليست باليسيرة، دليل على ما تركته من وشم جميل في ذاكرتنا رغم المعاناة والصعاب. كلما يعترينا التفكير في تجارب الطفولة هاته إلا وتسبقنا ابتسامة عريضة وانشراح… أما حديثنا عن القمل الذي بات في حالة انقراض أو انعدام في الأوساط المدرسية، فسأقول، فيما بعد، مسلمة وأنا متأكدٌ أنه سيشاركني فيها كل من عاش هذه السياقات المنتمية لنفس المرحلة وما قبلها. حيث كان القمل منتشرا بكثرة لا توصف. بمجرد ما أن تجلس في حجرة الدرس وتلقي بنظرك صدفة إلى ظهر أو عنق زميل أو زميلة في الحجرة إلا ويصادفك سربٌ من القمل آخذا وجهة سفرٍ لا مستقر لها. لكن ما العيب؟ عشنا في الطبيعة وربتنا الطبيعة واقتتنا على الوسط الطبيعي فالأمر جد بديهي، حسب ظني!.

لا بأس، هناك ممن عايشونا نفس المرحلة والظروف سيشعرون بالضيق والحرج يجثم بثقله على ذاكرتهم بعدما تعود بهم المخيلة على هذه الامور العادية. طيب! لا داعي أن تغمركم موجة حرج وأنتم تتذكرون فترة القمل هاته. فجذور هذه التجارب تجعلنا حقا نقق عليها وقفة استحضار دقيق لتشتد العلاقة وتتقوى أكثر بين الحاضر والماضي. هكذا أجدني أحضن جادًّا، عبر التدوين، مثل هذه التجارب سواء الحلو منها أو المر، لأخلص إلى استنتاج تقديري ليطمئن قلبي وقلب ممن عاش أو سيعيش نفس الظروف: وهو أن الحياة غير عادلة ولن ولم تكن كذلك أبدا!

عندما كنا صغارا نتآلف في الصعاب والمعاناة

كنا صغارا ونتآلف في الصعاب والمعاناة. فهذه كانت منابعَ لتقوية وشائج التضامن والتعاون فيما بيننا. أتذكر، ذات مرة، فاجئتُ صديقا لي منزويا وهو يبكي وشهيقه يتصاعد في تسارع بين لحظة وأخرى. وضعتُ يدي فوق جبينه مستفسرا إياه عن سبب بكائه وشهيقه بهذه الطريقة المرعبة ليكون جوابه: “لم أنجز تمارين مادة اللغة الفرنسية! كنت مريضا البارحة ونمت متعبا فلم أستطع فعل ذلك!” طمئنته وقلت له لا عليك سنتعاون في هذا الأمر وننجزها بسرعة. لم أتصور أن هذه العبارة ستكون له بمثابة انفراج يعيد الروح لطفل يبكي لأنه لم يستطع إنجاز تمارينه. حقا، كنا جديين لدرجة قضينا فيها على الكثير من طاقاتنا التي كان من المفروض توفيرها لولا كنا ندرك أن صعاب الحياة ستدركنا لا محالة بشكل أكثر بشاعة. يُقال لي دوما “الجدية في الحياة بإفراط تقتل صاحبها” طبعا قد أصدقكم القول لكن هذا لا يعني أن بعض المواقف لا تستدعي الصرامة، كما قد لا يعني أن نأخذ اللامبالاة نمطا في جميع تفاصيل حياواتنا.

طبعا، التعنت في الحياة يلين حينا ويتأجج في أحيان عدة، والموازنة بين اللين والغلظة أمر لا محيد عنه للحفاظ على بعض من الطاقة التي تستوجبها الحياة.كانت بعض أيام السنة من غير العيدين تشكل استثناءً في القرية، خصوصا منها ما يسمونه ب “السابَع” عيد المولد النبوي. حيث يحج مختلف سكان القرى بالخيول و”الغيطة” في احتفالٍ جماهري وفوضي لدرجة لا يستوعبها عقل ولا يدركها منطق. نحن الصغار لم نكن ندرك شيئا عن هذه السياقات الاحتفالية من غير الحماس الذي يعترينا والنشاط الذي يكسو نفوسنا ونحن نكسر روتين الدراسة والملل.

بقلم: طارق المنيظر

أضف تعليقك هنا