ليالي رجل أحمق ليالي قارئ مذكرات مجهول

بقلم: عطاء الله إبراهيم الخليل

دخلت إقامتي ومنه إلى مكتبي جهزت المحبرة والورق متجهزاً للعودة إلى المذكرة، احتسيت رشفة قهوة مسجلاً : ” لم أستطع إلا أن…”لكني وضعت القلم لم أستطع أن أخط شيئاً، جلست قليلاً ثم قمت فاتحاً باب الشرفة ثم عدت لأستلقي على الأريكة المجاورة للمكتب، انتابني هدوء و بدأت أتأمل أضواء لندن تنعكس على مياه التايمز وأشم رائحة أوراق الكتب وخشب الرفوف وروائح القهوة وبذور الهيل.

حوار مع الذات

سألت نفسي: لم أكتب؟
فأجابت: كانت غايتك أنها تكسبك منهجاً وتفسيرا ًلحياتك.
– إن كان كذلك فلم كنت أريد نشرها؟

ما الذي خرجتُ به من هذا الحوار؟

بكل بساطة؛ كان ذلك تسرعاً أو حمقاً لأنها تخص ذاتك ولا دخل للناس فيك لا يوجد من يحبك، أنت وحيد فلا أحد يفهمك رغم حياتك الاجتماعية وحتى إن وجد من يحبك فما الفائدة لأنك ستموت ولا تكترث لشأن الفضولي لأنه إذا كان فعلاً يتشرف باسمه   “فضولي” لكان سيعارضك ويخط منهجاً غير منهجك ألم يقل فولتير “كن رجلا ولا تتبع خطواتي” إذاً أنت بفرضك لمنهجك ستكون محباً للتسلط كغيرك من السذج.

لماذا أعيش؟

لم أكلف نفسي هذا الشقاء فما الفائدة من خط منهج أو تفسير مبتغى حياتي إنني إن أقمت بالقاهرة وعملت موظفاً وأنجبت أولاداً كان أبي سيثني علي وسأعيش عادياً سعيداً وأموت كذلك وهذا لا يهم ولم لا أعيش بمنهج المتعة أرقد بالديسكو وأفعل ما يحلو لي، ولم لا أتصوف أو أتمم مسيرتي كل سواسية، إن تقدم العالم بي فقد يتقدم كذلك من دوني أنا لا أمثل شيئاً وكل شيء هو في الحقيقة لا يهم فليحدث أي شيء لنا لأن هذا لا يهم، إذا معناه أن كل ما أراه فخراً لي أو لتاريخ البشرية شيء لا هو بالمهم ولا يستحق الاهتمام، إنه مساوٍ لضياع السيجارة ورميها بعد أن احترقت هل ستحزن حينها؟  لا، لأنه ربما ستدخن سيجارة أخرى ولربما ستتوقف عن التدخين.

ما الغاية من وجودي على هذا الكوكب؟

وقلت لربما أجد ذلك في المذكرة ففتحت أوراقي عندها وجدت:
“وبدا لي أنه لا غاية لوجودي ولا داعي لتغييره لأنه لا يقبل التغيير لأن مثل هذا وهم ”
فقلت لنفسي:  أرأيت فماذا أنتظر؟
قالت: أنت الآن عبثي.

لا يهم، وقمت نحو المطبخ لأجلب مستحضراً كيميائياً فأشربه وأستريح ففي كلا الحالات هذا ما سيحدث إذ لا حاجة لي الآن بالقعود، وأغلب ظني أن إحساسي بعد هذا سيكون بمثابة النوم العميق حين يكون الظلام حالكاً فلا أسمع شيئا أو أحس بأنني موجود، لكني تراجعت لسبب ما أو لشعور يقول لي عد للمذكرة  فوضعت المستحضر وقرأت:
“رفعت رأسي فاكتشفت أن الدنيا وكذا وجودي كله فراغ لا محالة ولا نقاش في ذلك، لكن الوجود الذي بحولي لا يمكن التغاضي عن تفسيره، لأن وجودي والدنيا جزء لا يتجزأ من الوجود كله وبالتالي فإنني لم أحل الإشكال ”

وجدت نفسي وعرفت لماذا أنا هنا

تولدت غبطة في نفسي، فقمت بتدوير الصفحات لأقرأ مجددا: ” إن أعمق ما في الأمر أن لا يعيش الإنسان نكرة ” فعلاً ولهذا يجب أن أعيش، أولا وجب أن أحل إشكالي وتفسيره وهذا أكبر شغلي وثانياً أن أقف على حب يتولد مني لكي أقف عليه وإن كان هذا الثاني أقل أهمية من الأول، وعندها مباشرة فتحت الأوراق وقرأت:” عشت… لأحب عشت… لأتوق للمعرفة ”

عندها تذكرت حديثي مع نفسي في أوائل أيامي بالكتابة وتصورت أنني سأكتب لخط منهجي وإيجاد معنى لحياتي وبالفعل هذا ما جرى ها إنني أفسر وجودي شيئاً فشيئاً، إنني أحس بسعادة تنضج وكأنهم قاموا بإعطائي حياة الخلود في الأرض، إن الوقوف على حياة أناس سبقوا و ذوات أخرى يعلمانك معنى حياتك وذاتك رغم أنه تظل هناك قدسية لذاتك فتكتسب ذاتك من خلال ذوات أخرى وتعالج ذاتك بذاتك وإرادتك ولذلك أنت يا طلعت تستطيع إسعاد نفسك بأصغر الأشياء وأتفهها.

ما لبثت أن نجوت حتى غرقت!

أضافت نفسي:  أنت الآن وجودي فقلت : نعم وهذا يهم وخرجت للشرفة معلناً سعادتي لكن ما لبثت أن سقطت علي فكرة كسهم لهب فعدت أدراجي قائلاً:” هذا إيمان أعمى اكتسبته وأعطاني سعادة مزيفة ووجدت حلاً لأمري لا أقتل نفسي فسأستمر بنحو عادي  وضحكت ( هيء هيء) ما الغاية من خط منهج أصلاً؟ أرى الناس اليوم تحركهم وتصنع اختياراتهم العشوائية فقط وإذا أصاب أحدهم اليأس انقلب إلى الدين وكأن هذا انقلاب حقيقي أيها المغفل! ترى وما حاجتي إلى هذه الأكداس من المذاهب والأفكار والآراء الفلسفية إنني الآن أقول نفس ما قاله “هيوم ”

“ألقوا بها في النار”!

ولا تنسوا أن تلقوا بي معها لأني متيقن أن وجوديتي أو حياتي أو حياة الآخرين وكل الإشكالات مجرد دهاليز ولا حاجة لي بتفسيرها لأن لا حكمة لها ولا تفسير ”
فقالت نفسي: أنت الآن عدمي
فقلت: نعم أنا مسلم مؤمن متناقض ووجودي وعبثي وعدمي نعم.

هواجس واضطرابات

صممت معلناً منذ الآن أن أسترخي طبيعيا ولا أفكر في أمر سوى حاجياتي اليومية أكمل هذه الأيام التي لا تفسير لها وفقط فخرجت للشرفة مجدداً أشعلت سيجارتي ووضعت المذكرة  في دلو ثم رميت عليها السيجارة فبدأت بالاحتراق وجلست أنظر لكنني في الحقيقة لم أرتح كما خيل لي فقد بدأ ينتابني اضطراب مقلق وفكرت في أن أطفئ المذكرة الملتهبة لكن الأمر كان قد انتهى فكانت آخر فقرة أراها من خلال وهج النار التي تحرقها هي :
” ولربما لن تنسى شيئاً، لا خروج عن الموضوع إذن…”

بقلم: عطاء الله إبراهيم الخليل

أضف تعليقك هنا