هجرات الساميين (3)

لاحقاً للمقالات السابقة المتعلقة بدراسة الهجرات السامية وهي أساساً في غالبيتها هجرات عربية محضة، فإنه لا بد من العودة للأسباب الحقيقية التي أدت لمثل هذه التحركات البشرية، فحركة القبائل العربية عبر تاريخها الطويل كانت تحتم عليها المواجهة العنيفة مع الحكومات القوية القائمة في الحاضرات، ولكن ما الذي يدفع تلك القبائل لخوض تلك المغامرة المميتة في القرب من تلك الحاضرات وهي على علم مسبق بما قد يلحقها على أيدي حكام تلك الحاضرات من قتل وتشريد ما لم يذهبوا بعيداً في صحرائهم المميتة التي خرجوا منها بسبب قسوتها ونبذها لهم.

الجزيرة العربية وعصور المطر:

عاشت الجزيرة العربية في الفترة التي سبقت الألف السادس قبل الميلاد عصر المطر العظيم، والذي تلى آخر عصر جليدي، وقد ساق العلماء العديد من الأدلة على ذلك العصر في الجزيرة العربية، منها:

  • وجود بقايا أنهار قديمة متمثلة بالأودية الجافة الطويلة كوادي الدواسر ووادي حضرموت ووادي الرمة.
  • وجود بقايا بحيرات جافة مخلفة وراءها سبخات ملحية مثل سبخة (المطي والسميسم والربع الخالي)، ولعل أهم هذه البحيرات بحيرات الربع الخالي الواقع في الجنوب من شبه الجزيرة العربية بطول يقدر من الغرب إلى الشرق بحوالي 1200كم ومساحة تقدر بحوالي 650ألف كم2، وقد كان هذا الإقليم يعج ببحيرات الماء العذب التي ولدتها العصور المطيرة وما لبثت أن جفت بسبب تصحر المنطقة.
  • وجود بقايا للتربات القديمة التي يتطلب وجودها كمية كبيرة من الأمطار تقدر بحوالي 500ملم، ومنها تربة الاستبس والتربة الحمراء مما يدل على مرور شبه الجزيرة العربية بعصور مطيرة.

وبالعودة لما قبل الألف السادس قبل الميلاد نجد أن العرب أسسوا ممالك قوية وصلت لدرجة الامبراطوريات التي سيطرت على العالم، وهذا ما يحدثنا به القرآن الكريم عن قوم عاد الذين ورثوا حضارات ما قبل الطوفان وطوروها كما توضح ذلك الآية الكريمة: ((وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) سورة الأعراف الآية 69، ثم يبين لنا القرآن الكريم عظمة الحضارة التي وصلوا إليها في الآيات: ((فَأَمَّا عَادٌ فَٱسْتَكْبَرُواْ فِي ٱلْأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُواْ بِـَٔايَٰتِنَا يَجْحَدُونَ)) الآية 15 سورة فصلت.

ومما لا شك فيه أن حضارة عاد العربية قامت في وقت كانت فيه شبه الجزيرة العربية تعيش عصور المطر المزدهرة، وأن حضارتهم استمرت آلاف السنين حتى بدأ الجفاف يدب في المنطقة التي تحولت تدريجياً إلى صحراء قاحلة وهو ما أنذر بانتهاء حضارتهم للأبد، فقد قال الله عز وجل في القرآن الكريم موضحاً تدميرهم: ((فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ)) سورة الأحقاف، الآيات 24-25 ((كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ، إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ، تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ)) سورة القمر الآيات 18-19-20، ((وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ، سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ، فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ)) سورة الحاقة الآيات 6-7-8

الجزيرة العربية وعصور الجفاف:

إن التصحر الذي زحف رويداً رويداً إلى جزير العرب فلما بلغ ذروته القصوى انتهى بكارثة مناخية وطبيعية، هذا المناخ أثر بشكل تدريجي على الأقوام القاطنة هناك والتي بدأت تعتاد الحياة الصحراوية القاسية تدريجياً، فالتصحر الذي نشأ بعد انهيار العصور المطيرة قد أدى لانقسام سكان جزيرة العرب إلى تجمعات تعمل بأنماط معيشة مختلفة عن بعضها البعض، مما كون لديها ثقافات متعددة ولهجات تختلف من منطقة لأخرى بالرغم من الوحدة اللغوية فيما بينها، فجنوب الجزيرة العربية امتهنوا الزراعة والصيد البحري والتجارة البحرية، وسكان وسط الجزيرة العربية انقسموا بين أهل حاضرة وأهل بادية وهكذا ….

والملاحظ أن القبائل الاقوى دفعت تدريجيا بالقبائل الأضعف نحو البادية وامتهان مهنة الرعي، حيث سيطرت القبائل القوية على الواحات ومنابع المياه واستقرت بها وطردت القبائل الأضعف التي تحولت تدريجيا لقبائل بدوية تتنقل خلف الكلأ والماء، وتدريجياً أصبحت هذه القبائل البدوية أقوى وأعنف من القبائل المتحضرة بسبب نمط الحياة المختلف الذي عايشته الناجم عن شظف العيش، بينما القبائل المتحضرة كانت تعيش في رخاء ونعيم فمالت إلى الدعة والترف، مما حدا بالقبائل البدوية لشن الغارات على الحاضرات ونهبها وإنهاكها.

كما أنه من الممكن أن بعض القبائل التي بدأت ديارها بالتصحر قد تحولت تدريجيا لتربية المواشي ورعيها، ومن ثم الانتفال بها من مكان إلى آخر بحثا عن الكلأ والماء، وهذا التحول تدريجي استغرق مئات السنين والعديد من الأجيال للوصول للحالة البدوية، فالتصحر لم يكن فجائيا بل جاء بالتدريج رويداً رويداً… وبدأ الناس يتأقلمون تدريجيا مع الحالة المناخية الجديدة فبدأت المساحات الزراعية تقل أكثر فأكثر، وكون غالبية المزارعين يعتمدون على تربية الحيوانات إلى جانب امتهان الزراعة، فإن التصحر التدريجي دفعهم للاعتماد أكثر على تربية المواشي من غنم وماعز وإبل وغيرها… وكلما ازداد التصحر وقلت المياه اتجهوا نحو الاعتماد على الرعي أكثر من الزراعة وهكذا..، ومن ثم احتاجوا لحيوانات تتحمل ظروف التصحر الشديدة فاعتمدوا على الجمال وأكثروا منها.

أما التجارة فظلت رائجة ومترافقة مع كافة أنماط المعيشة، بل القوافل التجارية تحركت في طول الجزيرة العربية وعرضها إبان العصور المطيرة وعصور التصحر، وبالتالي يمكننا القول إن تصحر وسط الجزيرة العربية جعل من أبنائها ينتهجون نمط معيشة يعتمد على تربية المواشي والاندفاع في الأصقاع بحثاً عن الكلأ والماء، ورويداً رويداً اتجهوا نحو الحاضرات في الجزيرة العربية فلما لم تتسع لهم اندفعوا خارجاً نحو الشام والعراق ومصر وغيرها من الحاضرات، وبما أننا تحدثنا في مقالاتنا السابقة عن الهجرات السامية، فإنني أود أن أوضح نقطتين هامتين جداً:

النقطة الأولى:

إن هجرات الساميين التي يتكلم عنها المؤرخون هي في الحقيقة ذاتها هجرات القبائل العربية منذ تصحر جزيرة العرب في بداية الألف الخامس قبل الميلاد، وهذا ما يؤكده الكثير من المؤرخين وعلى رأسهم المؤرخ فيليب حتي في كتابه تاريخ العرب المطول، وحتى لو لم نتفق مع من يقول في أن هجرات الساميين عبر التاريخ هي هجرات القبائل العربية، فإنه يمكننا القول إن غالبية الهجرات السامية هي هجرات عربية وخاصة الهجرات منذ بداية الألف الثالث قبل الميلاد.

النقطة الثانية:

في معرض حديثنا عن هجرات القبائل العربية من الجزيرة العربية إلى الحاضرات في الشام والعراق وغيرها، والتي وضحنا فيها نظريتنا المسماة بالهجرة المزدوجة، والمتمثلة في انتقال القبائل العربية من الصحراء إلى البادية أولاً لعدم توافر نية الاستقرار لديها، ومن ثم تدريجياً تنتقل من البادية إلى الحاضرة، وأن هذه الفترة الانتقالية ما بين الصحراء والحاضرة تكون بالانتجاع في بادية الشام التي تشكل المفصل الأهم في هجرة القبائل العربية، وفي مقابل هذه الصورة من الهجرات فإن هناك هجرات عربية أو سامية كانت من الحاضرات في الجزيرة العربية إلى الحاضرات في الشام والعراق فوراً وبشكل مباشر دون المرور بحالة التنقل في بادية الشام، وهذه الهجرات يجب الوقوف عندها ودراستها ملياً…

الهجرات من الحاضرات في جزيرة العرب إلى حاضرات الشام والعراق:

فالهجرات العربية التي انطلقت من شبة الجزيرة العربية إلى الحاضرات في الشام والعراق بل حتى مصر لم تكن جميعها هجرات من الصحراء إلى البادية ثم إلى الحاضرات وصولاً للاستقرار الكلي، أي بمعنى آخر لم تكن تلك الهجرات على يد قبائل بدوية عربية، بل كانت هناك هجرات من أبناء الحاضرات المدنية والزراعية في الجزيرة العربية إلى الشام والعراق.. أي هجرات من الحاضرات في جزيرة العرب إلى حاضرات في الشام والعراق ومصر، ولعلنا نقف كثيراً أمام هجرات الغساسنة والمناذرة وتكوينهم إمارات في الشام والعراق، فكلا الفريقين انتقلوا من حاضرات لهم في اليمن الى حاضرات في الشام والعراق، وبالمقابل نجد أقواماً حضرية أخرى انتقلت من حاضرات شمال الجزيرة العربية وكونت إمارات في الشام والعراق ومصر، ومن هؤلاء الأنباط والتدمريون والحضريون أصحاب مملكة الحضر في العراق.

والملاحظ أن الهجرات العربية تمثل شكلين من الهجرات:

هجرات من الحاضرات إلى الحاضرات، وهجرات من الصحارى إلى البوادي ثم إلى الحاضرات، فالأولى قام بها عرب الجزيرة الحضريون، والثانية قام بها عرب الجزيرة البداة، والأولى كانت قصيرة وسريعة في وصولها للاستقرار وبناء الإمارات والممالك، بينما الثانية أخذت فترات طويلة مداً وجزراً بين الصحراء والبادية ثم بين البادية والحاضرة حتى وصلت للاستقرار الكلي.

فيديو مقال هجرات الساميين (3)

 

أضف تعليقك هنا