أبناء المثقفين

في كثيرٍ من الصناعات اليدوية والمهن الشعبية يتوارث أبناؤها مهنهم عن الآباء، حيث يخلف الابن أباه في صنعته أو مهنته، ويكون أمراً متوارثاً بينهم ومتعارفاً بين أهل المهنة الواحدة، وعادة ما يكون داعياً للشرف والتقدير بين أهل هذه الصناعات، ففيه حفاظٌ على اسمهم وهويتهم في المجتمع، وهو ما يختلف عند أبناء المثقفين.

يقول المثل الشعبي “مهنة الآباء يرثها الأبناء” إلى أي مدى تصح العبارة؟

ترددتُ فيما مضى على كثيرٍ من بيوتات العلم والثقافة والأدب في كثيرٍ من البلدان، ولا زال التردد موصولاً كلما أتيحت لي فرصةٌ، وأكاد أجزم بعد طول هذه المدة في التنقل بين هؤلاء المثقفين أن كثيراً من أولادهم ينأون بأنفسهم عن الدخول في ميادين العلوم الشرعية والعربية، والولوج في الثقافة والأدب، بل ويبتعدون عن هذا الميدان ابتعاد الخائف من الوحش الكريه.

كان هذا الابتعاد الحاصل بينهم وبين ميادين آبائهم وميولاتهم محيراً لي في وقتٍ سابق؛ لأنّ غالبهم يتخصصون في ميادين مختلفة من العلوم التجربيبة والعلمية كالطب والصيدلة والهندسة وغيرها من الكليات التي لا صلة بينها وبين العلم الشرعي، وربما يختارون لأنفسهم حياة بعيدة عن أي مجالٍ علمي.

لماذا بدأ الأبناء يبتعدون علة نهج آبائهم؟

فَسّرتُ هذه الفجوة الحاصلة بينهم وبين تخصصات ذويهم بأن تأثير الأديب أو المثقف على أهله ضعيف، فأزهد الناس في العالم والأديب كما هو مُلاحظ أهله وعارفوه، ولطالما عاش رجالٌ عُرفوا بالنبوغ الأدبي والعلمي بيننا لكنّ كثيراً من المحيطين بهم لا يعرفون قدرهم، ولا يلتفتون لجهودهم، ولا يتحمسون لأعمالهم.

ومع طول العهد والمعرفة بأحوال الناس اكتشفتُ ولاحظت فيما بعدُ أن سرّ ابتعاد هؤلاء الأبناء عن مجالات الأدب والعلم الشرعي مبني على ما كانوا يلاحظونه من أوضاع هؤلاء الآباء المعيشية وحالتهم الاجتماعية المتدنية من خلال عقد المقارنة المستمرة بينهم وبين غيرهم في التخصصات الأخرى.

لماذا يفضل الأبناء سلك طريق العلوم الشرعية؟

أَجل، فَطِن هؤلاء الأبناء من حياة ذويهم العاملين في مجال الكتابة والعلوم الإنسانية، وملاحظة أوضاعهم المعيشية أنّ ما يعانونه من التعليم والكتابة في التخصصات الشرعية والعربية لا يتكافأ مع الحظوظ المادية المتواضعة، ويظهر ذلك جلياً من خلال نظرة عابرة على حياتهم وحياة غيرهم من فئات المجتمع من أرباب التخصصات غير الشرعية.

لهذا انصرف هؤلاء الناشئة باقتناعٍ واختيارٍ عن طريق العلم الشرعي إلى سبلٍ أخرى توفر لهم حياة كريمة أكثر راحة؛ لأن طريق العلوم الإنسانية موجعة وتأخذ من الأعمار وقتاً طويلاً مع قلة المردود منها، فأرادوا الراحة لأنفسهم واختيار طريق ينعمون فيه بالراحة النفسية مع كثرة العوائد المالية.

نعم حينما تتأكد بنفسكَ من الدخل الشهري أو السنوي لأهل التخصصات الشرعية ودخل غيرهم من أرباب التخصص العلمي ستعرف لماذا يحرص كثيرون أن يُلحقوا أولادهم بما يسمى بكليات القمة (الطب – الهندسة – الصيدلة) لأن هذه الكليات وغيرها من التخصصات العلمية الرفيعة في نظرهم تجلب لأصحابها العيش الناعم والمال الوافر والمستقبل الزاهر، وهو كذلك.

ما الذي يحتويه طريق العلم الشرعي من مزايا قياساً بغيره؟

وأما غيرهم ممن اختاروا القراءة والكتابة زادهم فلا يحتاج الأمر بيانه؛ لأن العائد ضعيفٌ، بل يكون معدوماً، وعلى كلّ حالٍ سواء اختاروا الكتابة أو اختارتهم الكتابة فأجزم أنهم رضوا أن تكون الكتابة طريقهم مع قلة ذات اليد، ولا أخالهم كانوا نادمين على اختيار هذا الطريق.

ليست الحياة نظرة مادية فحسب، فهناك أشياء أعمق من الماديات، ولذا فإنه يلزم على المشتغلين بالدراسات العربية والشرعية ألا يقارنوا أنفسهم أبداً بحياة غيرهم؛ لأنّ ما يمارسونه من أعمال وجهود في خدمة العلم هي أزكى وأشرف مِن أن تُقارن بها أعمالٌ أخرى.

العلوم الشرعية تحقق السعادة الدنيوية والأخروية

إنّ السير في طريق العلوم الشرعية والعربية سبيلٌ للخلود حتى بعد الموت، وأحسب أن سيرة العظماء من العلماء والأدباء فيما مضى هي التي انتفع بها أولادهم من الذكر الحسن والسيرة العطرة، وكم يتمنون أن يكونوا أمثالهم في العلوم، فالعلمُ مُلكُ مَنْ لا مُلك له، وعزُّ مَن لا عزَّ له، وسُلطانُ من لا سلطانَ له؛ الزموا جادة المعرفة فهو طريق العز، وسبيل المجد ولو بعد حين، وإنّا على سَنن العلماء سائرون وبطريقتهم مُقتَدون.

فيديو مقال أبناء المثقفين

أضف تعليقك هنا