الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ)

بقلم : أ.د/ فؤاد محمد موسى عبد العال

لقد استوقفني هذا المقطع من قول الله عز وجل ( فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ، ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَىٰ)( النجم: 29- 30 ) بحكم تخصصي في مجال التعليم، سألت نفسي كأستاذ في هذا المجال هل ما يتم تعليمه للأجيال المختلفة على كل المستويات والتخصصات التعليمية المختلفة يتعدى هذا المقطع من الآية؟ أم أنه يتوقف عندها فقط؟

مدلولات قوله تعالى (ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ)

والسؤال بمعنى أوضح  هل ما يتم تعليمه للأجيال المختلفة على كل المستويات والتخصصات التعليمية المختلفة يتعدى هدف الحياة الدنيا؟ أم أنه يتوقف عندها فقط؟ وقبل البحث عن الإجابة ما الذي يعنيه قول الله تعالى: (ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ) إن هذا القول من الله له مدلولاته.

وهو أن الذين لا يريدون إلا الحياة الدنيا يكون غايتهم من التعليم والتعلم هو تحقيق متعتهم في هذه الحياة بطلب هذه الدنيا والسعي لها. فسعيهم مقصور على الدنيا ولذاتها وشهواتها،وإذا كان منتهى علمهم وغايته هي الحياة الدنيا فهذا تحقير لهؤلاء فقد وصف الله ذلك بقوله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ ) (محمد: 12) وهذا لا يليق أن يضع الإنسان نفسه في هذا الوضع مع الأنعام.وإذا كان الأمر هكذا فإن علم هؤلاء وتفكيرهم لا يكون إلا في مستوى إدراك المحسوسات الدنيوية ولا يرقى إلى ما وراء ذلك.

هل التعليم يتعدّى الحياة الدنيا أم يقف عندها فقط؟

وإني لأتعجب عندما ينادي علماء التربية في القرن الثامن عشر بأن يتعدى التعليم المعرفي إلى ما يسمى تعليم: التفكير في ما وراء المعرفة، أو التفكير في التفكير، أو وماوراء الإدراك، أوالميتامعرفة. والذي يعتبرونه يمثل أعلى مستويات النشاط. العقلي. وإن سألت هؤلاء العلماء وتلاميذهم من علماء القرن الحالي، من أوجد هذه المعرفة؟ ولماذا وجدت؟ ولماذا وجدت بهذه الكيفية؟ وما الغاية الكبرى من هذا الوجود؟ سيكون الرد عليك هذا ليس من العلم. ولإن سألتهم مرة أخى لماذا هذا ليس من العلم؟ ستكون الإجابة لأن هذا لا يخضع للتجريب المعملي الذي يقوم على إدراك الحواس.

كيف يجب أن نفكر وماذا طلب الله منا؟

ألستم أنتم الذين قلتم أن تفكيرنا يجب أن يتخطى المعرفة إلى الميتامعرفة؟ وقد طلب الله منا منذ أربعة عشر قرنا أن يتعدى تفكيرنا قراءة ما نشاهده بالحواس في الدنيا  إلى ما وراء المعرفة الدنيوية وهي قراءة ما وراء قراءة الظاهر، وما مبتغاه وما  أصله .(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)) ( العلق). ولكننا سنعجز عن الوصول إلى هذا المبتغى وهذا الأصل دون هداية من الله (عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) أي أنك لن تعلمه بنفسك بالبحث العلمي التجريبي.ولكنك ستقرأه ( أي ستستنبطه من كتاب الله ) واضحا لأولي الألباب (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ( ( محمد: 24)وقد طلب الله منا أن يتعدى تفكيرنا فيما توصلنا إليه في الدنيا إلى ما يحقق مراد الله الذي وضحه الله لنا في كتابه ( القرآن ).

هل يكتمل علمُنا إذا اعتمدنا على أنفُسنا؟

ومن العجب أن نلاحظ فعل ( اقرأ) في سورة العلق جاء في المرة الأولى لقراة الكون الذي خلقه الله (الَّذِي خَلَقَ) وهذا باستخدام العلوم التجريبة وغيرها، أما ( اقرأ الأخرى) فهي القراءة في كتاب الله ، الذي به العلم المكتوب الذي أنزله الله رحمة للإنسان وتكريما له (وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) لأن الإنسان لن يستطيع الوصول لهذا العلم بنفسه لا في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل (عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) حيث جاء الفعل (يَعْلَمْ) فعل مضارع مستمر.ومن هنا ندرك أن القراءة الأولى لا يتم بها العلم، وما نتوصل به في هذه القراءة الأولى هو علم ناقص يلزم إتمامه بالقراءة الأخرى في كتاب الله حتى يكتمل العلم.

كيف يفكر الناس؟

إذا نظرنا للناس وفيما يفكّرون ويجتهدون لوجدناهم يفكّرون في الدنيا ويطلبونها ويسعون إليها فهي آخر مقصدهم ومطمعهم لأن ذلك ما توصلت إليه عقولهم وهو ما أخبر به الله سبحانه (ذلك مبلغهم من العلم) فهؤلاء إتخذوا من الدنيا إلها ونسوا الله فأنساهم التّفكّر في الدّار الآخرة وحدّ من علمهم ومن قدرة تفكيرهم وهو غاية ما وصلوا إليه.إن ما يعانيه العالم الآن من جائحة كورونا هو مثل هذا النقص في التفكير والنقص في العلم والنقص في المنهج العلمي الصحيح.ومن هنا يجب إعادة النظر في مفاهيمنا العلمية والتعليمية وأهدافنا التربوية.

بقلم : أ.د/ فؤاد محمد موسى عبد العال

 

أضف تعليقك هنا