تغيرت الملامح

بقلم: راضية بركة

كانت عقارب الساعة تشير الي 7:00مساءً… عندما فتحت باب الشرفة التي تطل على الشارع السكني( 17)… قاربت الشمس على المغيب، الدكاكيين مغلقة، الهدوء يسود المكان لا وجود لأصوات وقع أقدام الأطفال وهم يركضون وضحكاتهم…جلت بنظري المكان، اتفحصه بعناية كما لو أنني أراه لأول مرة لفت انتباهي أحد العمارات السكنية التي كان يغطي الطابق الأخير منها السواد و فتحة ضخمة تخترق أحد جوانبها، لابد من أنها الشقة التي اشتعلت في الليلة ماقبل الماضية بسبب الاشتباكات الراهنة، فمنذ فترة ليست ببعيدة انتشبت في المدينة حرب طاحنة على إثرها روع المواطنين والتزموا منازلهم وأصبحت شوراعها شبه معدومة الحياة فالجميع لا يخرجون إلا للضرورة القسوة.

هواجس خوفٍ ووحدة والصمت يسود المكان

فقدت الكثير من شبابها في ساحات القتال، بل حتى المواطن في منزله لم ينجو من هذا الإقتتال، تنهدت بأسي واطرقت مفكرة يا ترى هل كانت الشقة خالية في تلك اللحظة !هل يوجد ضحايا، إصابات أم قطع حبل أفكاري دخول ابن عمي عمر، القى التحية و تقدم نحوي بخطى تابثة وجلس على المقعد المقابل لي وقال هل ستدهبين للعمل اليوم؟ لم أعرف بماذا أجب فبقيت على صمتي فقط أنظر للأرض بشرود، فقال أنا أرى أن لا تذهبي فالوضع لا يطمئن فقلت محاولة فهم مايقصده بـ( لايطمئن) ماهي آخر الأخبار؟ قال حالياً مستقرة ولكن في أية لحظة من الممكن أن تشتعل الحرب من جديد.

قلت بتردد إذا سأذهب، استمر في النظر إلي ودون أن ينفت فاه بكلمة ! فأضفت بشيء من الحدة ” إلى متى ياعمر نقف وننتظر هكذا و نأجل كل شيىء لا يجب أن نقف ولا نفعل شيء  إلى متى !؟ يبدو أن الحرب لن تنتهي أبداً اطرق ليتحدث بشيء ما  لكنني استوقفته مكملة لحديثي وكان قد ظهر علي الانفعال قائلة “يجب ان أذهب فالمرضى في أمس الحاجة، ولن يصيبني إلا ماكتبه الله لي، قال وأصابعه تداعب المفاتيح التي بين يديه بادياً على ملامحه عدم الرضى: ونعم بالله، ثم وقف وهو يهمم بالخروج قائلاً حسنا كما تشائين يامريم، لديك فقط ربع ساعة لتجهزي نفسك لأوصلك، فاجبت بابتهاج “حسناً على الفور وبعد أن جهزت نفسي وجمعت أغراضي خرجت مسرعة خوفاً من أن يغير رأيه و ركبنا السيارة وانطلقنا ولا شي غير الصمت حتى وصلنا إلى المستشفى.

وهلة الانتظار وقلقٌ من المجهول

أوقف السيارة وضغظ على أحد أزرار التحكم الخاصة بفتح أقفال الأبواب ففتح على الفور، التفتت للمقعد الخلفي لكي أحضر حقيبتي وباقي أغراضي التي يبدو أنها علقت بين المقاعد وقبل أن أمسك بها فإذا بي أسمع اصواتت قفل الباب من جديد تعلقتت يدي في الهواء للحظات… ياإلهي يبدو إنه غير رائيه وسيعيدني إلي المنزل… طردت تلك الأفكار من راسي هاقد وجدتكي… نظرت إليه بابتسامة ساخرة وأنا أقول “الباب من فضلك ” صمت قليلاً وسرحت نظراته في شيء ما ليس ببعيد، هدوءه حيرته سكونه أجبرني على الصمتت والانتظار الساعة 12:30 صباحاً الآن…

مرت ساعات من العمل دون أن نسمع أي أصوات للرصاص، فالحياة تبدو طبيعية داخل المستشفى على عكس خارجه، والمرضى يتوافدون بشكل طبيعي من وإلى المستشفى… وبينما كنت جالسة مع زميلاتي الممرضات نتبادل الأحاديث حول المرضى والحالات التي مررنا عليها اليوم في الغرفة المخصصة لنا نتناول وجبة العشاء طرق احدهم الباب طرقات متتالية سريعة! فجمدت أنظارنا بصمت باتجاه الباب بفضول منا لمعرفة ماذا يحدث ومن الطارق؟ لأن صوت الطرقات كان مخيفا إلى حد ما، فنطقت إحدى زميلاتي وقالت بلهجة تكسوها الحيرة “ادخل ” فإذا به أحد الممرضين من قسم آخر غير القسم التي نتبع له، يقول وعيناه مفتوحتان على اتساعهما وبادئ عليهن القلق “اخرجن للمساعدة بسرعة هناك حالات طارئة بالأسفل! ثم أردف بعد أن بدأ يرمقنا بنظرات استغراب و دهشة!

رعب ومشاهد دموية ولا بدّ من النهوض والمواجهة

هل تعلمن بما يحدث بالخارج !! فالصواريخ تتساقط بعشوائية على منازل الأبرياء وحالات الموتى والجرحى كثيرة بالأسفل…”لم نبث بحرف واحد بل التزمنا الصمت، واعتقد أن السبب يكمن في هول الموقف نفسه ” و أردف مرة أخرى و لكن بصوت أعلى قليلاً ممزوج بقليل من الصرامة: – هل فهمتن ما قلته مند قليل !! … حسناً في البداية كنت لا أنوي النزول أبدا فأنا لم أعتد الخروج من القسم الذي اتبع له كثيرا وخاصة في مثل هذي الأجواء المتوترة ولكن الحالة التي كان عليها ذاك الممرض وكلماته التي تدل على حاجتهم لنا و إصرار زميلاتي أو ربما شيء آخر قد شعرت به لم أعلم ما هو! ولكن ّذلك الشيء وحده من جعلني اركض مسرعة اتقدمهم بخطوات إلى قسم الطوارئ…

ركضت أنا وزميلاتي كل واحدة في اتجاه معين، فتوقفت لوهلة لأن قلبي كاد يخرج من مكانه من شدة الخفقان وأنا أنظر إلى المكان من حولي بتمعن محاولة مني لتصديق مايحدث !! فقد كانت الدماء تغطي الأرضية وصرخات الأطفال والرجال تعلو المكان مسحت دمعتي التي سالت و دون وعي مني… جلت بنظري المكان محدثة نفسي “يجب أن تكوني أقوى هذا وقتك هذه وظيفتك هم يحتاجونك الآن أكثر من أي وقت ” لممت شتات نفسي و ركضت باتجاه صوت الطبيب وهو يناديني طالباً المساعدة
انقبض قلبي عند رؤيتي للمشهد الذي كان أمامي لدرجة أنني كدت أقع من شدة الدوار، حاولت جاهدة أن أتماسك وأواصل العمل… كان رجل في الثلاثين من عمره قد أصيب بشظايا هاون في رأسه وأجزاء من جسده…

الجرح عميق والفقيد فلذة كبد

كان الطبيب يحاول إيقاف النزيف ولكن دون جدوى و استمررينا في العمل حتى قال الطبيب اذهبي واحضري لي بعض من الشاش فخرجت مسرعة من الغرفة لأحضر للطبيب ما طلب… فإذا بشخص ما يوقفني منادياً باسمي بصوت مرتجف “مريم أخي بالداخل أخي “شلت قدامي وتوقفت عن الحركة، توقفت جميع حواسي عن العمل ولم استطع الالتفات والنظر إليه ! فيا ترى من يكون لم أستطع التعرف على صوته ,ربما يكون عمي !؟ أو قد يكون ! ربما خالي , كلا لا أظن هدا فلو كان كذلك لكنت قد عرفتهم من خلال أصواتهم فأنا أميزها جيداً

ضلت الأفكار والهواجس تدور في رأسي وأنا على نفس الوضع لم أستطع الالتفات حتى وصلتني حروفه المزوجة بالرجاء وقلة الحيلة وهي تتردد في أذني وللمرة التانية قائلاً “مريم أرجوك طمنيني عليه” شددت قبضتي بقوة مغمضة عيناي ألتقط أنفاسي بصعوبة أدير بجسدي ناحيته وشفتاي تهمس بالدعاء… بدأت بفتح عيناي ببطء شديد خوفاً من ما ستراه عيناي، وضعت يداي علي راسي وفتحت فمي على اتساعه وأنا أرمقه بنظرات تملؤها الحيرة و تساؤلات هل يكون ذلك الرجل…! شهقت أنفاسي شهقة كمحاولة يائسة لإخماد مايشعل أحشائي يا الله لم أستطلع التعرف عليه وأنا واقفة فوق راسه كل ذلك الوقت، انطلقت دبدبات أحبالي الصوتية تاركة خلفها جراح عميقة

عبرت مخترقة حنجرتي إلى الهواء لتصل مسمع كل أذن قائلة “عمرررررررررر” استسلمت لنوبة بكاء شديدة، عندها لم أشعر بنفسي إلا وقدماي قد قادتني إلى غرفة العمليات أركض بسرعة غير مبالية بالمارة من حولي وأنا اصطدم بأحدهم تارة وأسقط أغراض أحدهم تارة والكثير ممن حاولو إيقافي يسالونني ماذا بي كأنني لا أرى أحداً أمامي، كانت صورته فقط وهو في ذاك المنظر الشنيع كل ماترجمه عقلي لأراه فتحت باب الغرفة بقوة أنظر بصدمة إلى الطبيب وهو يغطي وجهه فتقدمت نحوه و أنا أصرخ في حالة هلع قائلة “ماذا جرى له ؟! فقال بكل برود… لقد مات، صرخت في وجهه هل جننت ما الذي تقصده بكلمة مات لم يمضي ساعتين على محادثه لي “مسحت باأمام ردائي دمعة سقطت من بين جفوني بقوة كأنها تدعونني إلي الاستسلام لها فأرفض الانصياع لها والاستسلام فانفيها وأمح آثارها.

صدمة العمر وبكاء هيستيريّ

واصلت حديثي بهسترية وانفعال قال لي أنه سياتي عند الصباح ليأخدني هل تعي بماذا تقول أنت !؟ تنهد الطبيب وهو يمسح بيده على راسه، ودون أن يرد على تساؤلاتي مر من جانبي وهو يربث على كتفي قائلاً “عظم الله أجرك يامريم “وخرج  خرج تاركاً ورائه جثتان ليست جثة واحدة إحداهما رغم ما تبدو عليه من الخارج، إلا أنها هامدة بسلام لا تشعر بما يدور من حولها تسللت روحها إلى جوار من تكون بقربه باطمئنان… أما الأخرى فهي روح بلا روح فركضت باتجاهه ومددت يدي وسحبت الغطاء عن وجهه ليس لأتاكد من أنه عمر، بل لأتأكد من ما قاله الطبيب للتو مع إنني كنت على يقين وقبل خروجي منذ قليل إن هذا الرجل حالته صعبة جداً ويحتاج لمعجزة ليشفى…

خرجت أجر قدمي و شعرت بثقل جسدي الذي ماتت فيه الروح وتوقفت جميع خلاياه عن العمل أجر معاناتي ومأساة سنين من العمل التي أصبحت جزء من يومي ولم أعتد عليها يوماً… بعد أن ألقيت نظرة على كل شي بعيناي كان وجهه متغيراً كثيراً ومائلاً للون الأزرق والشظايا في كل مكان ف جسده وكسر واضحاً جداً أعلى الجمجمة وساقه شبه مقطوعة… رفعت يدي لمقبض الباب بصعوبة وفتحت الباب ليلاقيني ابن عمي خالد وأخ الميت الملقى على السرير في الداخل ينظر إلي بنظرة من الصعب تفسيرها شعرت على إثرها بقلبي يتمزق كقطعة قماش بالية ما إن تلاقت عيني بعيناه حتى فقدت سيطرتي على نفسي وبدات بالنحيب بشكل هستيري والممرضات من حولي يحاولون تهدئتي… أخد يتراجع إلى الوراء بخطوات مرتجفة حتى أستند إلى الحائط وسقط أرضاً.

كان قدره في تلك الليلة السوداء أن تحتضن جسده شظايا قذيفة ملتهبة تائهة في السماء لا تدري من أين هي اندفعت ولا أين هو هدفها، فسرقته منى في لحظة رمشة عين مازلت لا أصدق ماحدث  حتى بعد مرور خمسة سنوات على تلك الليلة كيف أصدق وأنا منذ صغري ومنذ أن بدأت أعي لهذا العالم، وهوا بجانبي كان أقربهم إلى كان أبي وأمي قبل أن يصبح خطيبي كان كل شي بالنسبة لي… لا أنسى تلك الليلة التي جلس فيها طوال الليل يحاول أن يواسيني ويطمئنني وأنا في ذروة خوفي كان عمري حينها 5 سنوات فقط.

بعد هدوء الصدمة الأولى نتأهب للثانية

كانت السماء شديدة الظلام والأمطار غزيرة جداً وأصوات الرعد المخيفة تعلوا المكان كنت جالسة على كرسي فأحد زوايا منزلنا الصغير… كثيراً ما كانت هذه الأجواء تشعرني بالخوف والقلق ولا أعرف لماذا حينها كنت من شدة خوفي أكاد أسمع ضربات قلبي وكانه يخفق في أذني، عندها سمعت أصوات الباب الرئيسي يفتح وكان أحداً دفعه أسرعت واختبئت وراء أمي التي كانت مشغولة بترتيب البيت… وعلى غير عادتها لا أعلم لماذا تفعل ذلك وفي هذا الوقت المتأخر من الليل ففي العادة كانت ترتب المنزل ف الصباح الباكر.

بدا لي أنها تجهز سريراً وفرشاً للنوم في غرفة الجلوس يبدو أنها قررت أن تغير غرفة نومها وتنقلها إلى هنا استغرقت وقتاً طويلاً وتبدو غاضبة من شي ما فهي لا تجيب على تسالاتي سوى بي” ابقي مكانك يا ابنتي ” دقائق قليلة وبدا وكأن أحدهم يفتح باب المنزل بالمفتاح بالتأكيد ليس والدي فهو مناوب في الجيش هذه الأيام، هنا كانت الصدمة حياتي كلها… فقد كان الداخل ابن عمي عمر فتح الباب على اتساعه وكان ينظر خلفه كأنه يهيئ لدخول شي ما كبير جداً عندها وقفت أمي وهي تضع يدها على فمها تكتم أصوات بكائها تراجع عمر خطوات ليرجع ومعه شخص آخر بل ثلاثة كان أحدهم عمي أحمد أب عمر وثالثهم والمحمول بين يديهم أبي، أبي مبتور الأرجل…

شبيه الفقيد وسجن الذكريات المؤلمة

منذ ذلك الوقت كان عمر في عين أبي ساقاه التي بترت، بل أصبح العمود التي نستند إليه أنا ووالدتي عندما فقدت أبي وأصبحت يتيمة الأب، وها أنا أتيتم للمرة التانية وأخسر من كان رجلاً دوماً في وقفته بجانبي، أودع خطيبي وحبيبي ومن تشاركنا معاً في أن يكون لدينا أولاداً في المستقبل، وهذا ما آلت إليه الأمور ها أنا بعد كل ذلك الوقت لم يتغير في حياتي شيء فقد الملامح هي التي تتغير ملامحي وكل من حولي، أما حياتي فهي توقفت عند تلك اللحظة… تركت العمل في المستشفى فأنا لم أدخلها من تلك الليلة أعتني بوالدتي التي بدأت صحتها في التراجع، لا أخرج من غرفتي كثيراً حبيسة أفكاري وذكرياتي الأليمة…

ـ عمتي أ تسمحين لي بالدخول؟! بالتأكيد حبيبي أدخل تعال إلى حضن عمتك لقد اشتقت إليك كثيراً أنه عمر الصغير ابن خالد أخ المرحوم عمر هو الآخر فقد شغل من حياتي الكثير مؤخراً اصبح وجوده يواسيني في فقد عمه يبدو يشبهه كثيراً في ملامحه في ذكائه وشهامته فهو يسأل عنه كثيراً ويزورني يومياً لكي أحكي له عن عمه وكيف كان، يذكرني بأبسط تفاصيل عمر ويقلدها كذلك وكأنه يريد أن يصبح عمر لأجلي ونجح في ذلك فهو عمر، فقد تغيرت ملامحه… آمل أن يصبح في المستقبل شاباً يافعاً مثله -حسناً ياحبيبي أين توقفنا في المرة الماضية؟…

بقلم: راضية بركة

 

أضف تعليقك هنا