جائحة أخرى، الحساسية من (لا)

تنتشر الآن موجة جديدة تحمل ابتسمة هوليود البراقة، وقوة سوبر مان الحديدية، وشهرة أوبرا وينفري الحميدة، وهي لا تقل لا أريد تفاحاً وخوخاً، بل قل أريد عنباً وبطيخاً، كن أكثر تحديداً فيما تريد.

نظرية كلمة (لا) وحساسيّتها

انطلقت هذه الفكرة بداية من عالم الأعمال والتجارة والتسويق، ثم وجدت لها تطبيقات في العلاقات بأنواعها وخصوصاً في العلاقات الزوجية، ولا يمكن لشيء أن يكون أكثر صحة من هذه النظرية إذ إنها تعمل على حصر الخيارات للحد الأدنى، وتصب تركيز الطرف المقابل على ما تريده أنت، فتحصل عليه بأقل قدر من الإحباط ، وهو أيضاً يقلل العبء على الطرف الآخر فلا يضطر لتكبد عناء التخمين، ولا يتعرض لسخطك، وستتمكن من اجتناب الخلافات.

كلمة (لا) في عالم تطوير الذات

هذه الموجة بدأت تغزو عالم تطوير الذات (وهو عالم أكن له التقدير لمحاولاته الكبيرة ورغباته الحقيقية بجعل العالم مكاناً أفضل، وله فضل وإنجازات ما لا يمكن إنكارها)، تحول أسلوب التخصيص والتحديد من أسلوب في التعامل إلى أسلوب كتابة الأهداف، ثم أسلوب كتابة النوايا، ثم أسلوب دعاء، فجأة أصبح لدينا حساسية من لا، تخلصنا من خوف لنصاب بذعر جديد يخبرك إنك قلتَ في أمانيك لا أريد مارشميلو سيهبط عليك المارشميلو من السماء، لذلك قل أريد شوكولاتة عوضاً عن ذلك، وسيتظافر الكون لتقديم أنواع الشوكولاتة الفاخرة لك.من ناحية ما يمكننا الاتفاق مع الأمر لما فيه من نقل التركيز مما لا نحبه إلى ما نحبه فعلاً، هو يحدث تأثيراً ملحوظاً في النفسإن لم تصبك حساسية (لا)-، ولكن حين يتسلل الأمر إلى الأعمال العبادية هنا لنا وقفة أخرى.

دلائل وجود كلمة (لا) في القرآن

كلمة الإيمان تبدأ بـ (لا)، إذ إن مآذن المسلمين تصدح خمس مرات كل يوم مرددة أشهد أن لا إله إلا الله، الشهادة هي نفي، وهي في هذا السياق عبودية مطلقة لرب لا شريك له ولا خلف.وفي القرآن لدينا أدعية كثيرة تبدأ بالنفي مثل {“رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (البقرة (286)) {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} (آل عمران (8)).

فكرة الذعر من النفي مأخوذة من اللغة الانجليزية، فلا يمكننا تطبيق الأمر ذاته باللغة العربية، لأحرف النفي استخدامات كثيرة فيما عدا النفي، نعم، هو نفي لكن موقعه في النفس مختلف، وقد لا يكون نفياً معنوياً بل إثباتاً قاطعاً مثل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ } (الزمر (53)).

معاني كلمة (لا) والدعاء بها

هل استخدم الله النفي هنا لكي نركز على القنوط من رحمته؟ هنا (لا) تحطم كل اليأس والقنوط، وتفتح أبواب الرجاء، وترحب بدعاء العباد المخلصين.حتى في تعاملنا مع البشر، عندما تخبر الجميع إنك لا تريد حلوى، هل سيعد أحدهم لكالحلوى (إن لم يكن كارهاً)؟ لا، ستحصل على جميع الأصناف عدا الحلوى، وسيكون هذا من صالحك،لكن فيما إذا اخترت شيئاً محدداً كاللحوم، سيحضر الجميع لك اللحوم فقط، وقد يكون هذا خطرا للغاية على الصحة، رغم إنه قد يبدو صحياً ولذيذاً ومبهجاً الآن.

نحن حين نقر بوجود إله، نعني إننا نخرج من حولنا وقوتنا إلى حول وقوة الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، نحن نقر بحاجتنا إلى قوة وإرادة أكثر حكمة منا، نحن لا نعلم، الخالق يعلم، يعلم ما نحتاجه، وما ينفعنا، وهو وحده من يقدر، هو الذي يرى النهايات والصور الكلية، لعل هناك طرقاً أخرى غير تلك التي نريد ونحن نجهل ذلك، نعم أحياناً قد لا نريد طريقاً بعينه لأسباب معقولة أو غير معقولة، فنشمر عن السواعد وندعوه ربنا لا تختبرني في من أحب، ربنا لا تغير نعمك علي، ربنا لا تكتب لي تلك الرحلة، والله سيكفينا ما أهمنا ويخفف عنا إن شاء ذلك وكان فيه صلاح لنا، وقد نطلب منه شيئاً محدداً مثل ربنا افتح علينا من رزقك، وزد علمنا وفهمنا، ربنا اكفنا شرار خلقك، ربنا حقق لنا مطالبناويحققه إن شاء ذلك، وكيف يشاء، وحين يشاء جل وتعالى عندما يكون فيه صلاح لنا ونمتلك القدرة على استيعابه والتعامل معه.

نحن لا نؤمن لأننا باحثون عن مصدر لتحقيق الأماني، نحن نؤمن لأننا اخترنا الإيمان بكل الكتاب، بالحكمة والقدرة والعظمة والرحمة واللطف الإلهي، نحن ننظر بعين الإله، ونرضى بحكمه، ونقنع بما قسمه، ونتوكل عليه، ونطلب منه، وحين يتأدب العقل والقلب في الحديث معه، الله يجيب الدعاء لما فيه صلاحنا، وطرق إجابته مختلفة عن فهمنا القاصر، فنحن من حياض الله المترعة ننهل، وفي فلكه كائنات صغيرة نسبح، أدعوه بـ (لا) أو من دونها، هو سيفهم تذكر إنك تدعو رب عظيم خالق، وليس إنسان مخلوق، هو يعلم النوايا ويحاسبنا عليها وإن لم نعمل بها، لنحاول دراسة اللغة العربية بنظرة جديدة، أن نفهمها، فالعربية واسعة، وما قد يبدو نفياً ظاهراً هو عين القبول،، كما علينا فهم الفكر الإسلامي الحقيقي، إنه أرض صلبة، ومفاهيم راسخة، اقفز فيها، ولا تخف، فستحتضنك رحمة رب كريم، وسترشدك.

بقلم: سمانا السامرائي

 

أضف تعليقك هنا