صرخة قلم

نبذة عن أدب الرحلة

يعتبر أدب الرحلة تراثاً عربياً أصيلاً، وفناً إسلامياً زاخراً، ومصدراً تاريخيا وجغرافيا مهما، فهو جنس أدبي مدهش يصور فيه الكاتب ما جرى له من أحداث وما صادفه من أمور خلال رحلة قام بها إلى أحد البلدان، فيصف المناطق التي مرّ بها، بحرها وبرّها، جبالها وتلالها، هضابها وسهولها، أنهارها وبركها، ويكشف النقاب عن غرائبها ومناقبها، وعجائبها وبدائعها، وأحوال سكانها وأخبار عمرانها، بأسلوب أدبي شيق تستعذبه الأذن وتطمئن إليه النفس، وتستريح في ظله الروح المتعبة والفؤاد العليل.

أدب الرحلة في المغرب 

ولقد كان للمغاربة اليد الطولى في هذا المضمار، وقصب السبق في هذا المجال، حتى اشتهروا بغزارة التأليف في هذا الفن الماتع، والتدوين في هذا الأدب الخالد، فأثروا المكتبة العربية برحلات شيقة، منها ما هو مطبوع محقق، ومنها ما هو من قبيل المخطوطات حبيس المكتبات، أدى البلى إلى وأده، فاحتاج لمن يبعثه من مرقده.

أدب الرحلة عند العلامة المغربي محمد بن أحمد الحضيكي السوسي

ولعل رحلة العلامة المغربي العلم الأعلى والطود الأسمى، سيدي محمد بن أحمد الحضيكي السوسي المتوفى عام 1189هـ، الموسومة بالرحلة الحجازية، أنموذج صارخ لتميز المغاربة في هذا الشأن، ودليل قاطع على مجهوداتهم في هذا المجال، فهي رحلة تنازعها الحج وطلب العلم، فحازت الأجرين، وجمعت بين الحسنيين.

بِمَ يتميز أدب الرحلة عند العلامة المغربي محمد بن أحمد الحضيكي؟

دقة الوصف

وأنت تطالع هذا السفر النفيس، تشعر كأنك إزاء تاريخ ينبض، وأشخاص تتنفس، وصور ومعالم تتحرك، ناهيك عما تضمنته من أخبار تاريخية وجغرافية واجتماعية واقتصادية وأدبية وفقهية، تعكس تضلع الرجل في مجال العلوم، الشرعية والأدبية على حد سواء، إنها أشبه ما تكون بالمائدة الطافحة بأنواع الأطعمة مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، ينهل كل واحد مما يشتهيه ويعجبه ويميل إليه، فكانت بذلك مجموعة كتب في كتاب واحد.

يذكر لك في البداية جماعة من العلماء والفقهاء، ممن لقيهم في السفر أو الحضر، وتشرّف بالأخذ عنهم والنهل من علمهم، فإذا استنزلت من بركتهم واستأنست بمناقبهم، شرع يصف لك رحلته ويصور لك سفره الذي عزم فيه على الحج أصالة وطلب العلم تبعا، فينزل بك أولا في (سجلماسة)، وما أدراك ما (سجلماسة)؟ قرية ذات زرع ونخيل وفواكه وبساتين، وماء عذب فرات سائغ للشاربين، حتى إذا استمتعت بمائها وزرعها ونخيلها، سافر بك إلى ( نخيلة) ثم ( عين ماضي) فأشهدك على جنانها ونسيمها وعليلها، ثم منها إلى (الأغواط) ومساجدها ومنارتها، و(بسكرة) وساقيتها، و(توزر) ونخيلها، ثم منها إلى (جربة) ذات الساحل الساحر، و(طرابلس) ذات المساجد العتيقة والأسواق العامرة، ثم فجأة تلوح لك (مصر) المباركة أم الدنيا وهبة النيل المقدس، فصور لك بهاءها وحضارتها، ووصف لك أحول سكانها وعلمائها، ثم منها إلى البلدة الحرام (مكة المكرمة)، فإذا بها تتجلى في حسن وبهاء وجمال وجلال، حتى كأن السماء نثرت على غدائرها لآلئ ونجوما، فإذا بك تؤدي مناسك الحج مع العلامة (الحضيكي)، وتستدرّ بركة المكان المعظم، فإذا قضيتما المناسك، وأديتما الأركان والفرائض، وتحللتما من كل ممنوع، وأتممتما كل واجب، قصد بك ساعتئذ الروضة الشريفة والبلدة ذات المحاسن والماء غير الآسن، مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فزرتما المقام، سموت حينئذ عن الطّغام، وانجلى  عنك غبار الآثام، وتهلل وجهك وانشرح صدرك، كأنك أديت الفريضة حقيقة لا مجازا، وواقعا لا خيالا، فطوبى لك إذ نلت المنى.

الأسلوب في سرد الأحداث

وبأسلوب يحاكي عندلة العنادل، تنساب على لسانه بين الفينة والأخرى نصائح تكتب بماء الذهب، وتغنيك عن الأسفار والكتب، وآراء فقهية لمثلها أكباد الإبل تضرب، فلله درّها من لؤلؤة، حتى كأن هاروت نفث في طياتها سحرا. لكن للأسف أبادها الإهمال ولفها قبر النسيان، وألحقها قصور الهمم في خبر كان، ولمثل هذا يصير الحليم حيران، أنّى لقومه إهمال مثل هذه  الأبكار الحسان، فلا حول ولا قوة إلا بالله الواحد المنّان، فكانت هذه صرخة قلم، عسى أن يحبل الزمان بمن يعيد لهذا الفن عرشه التليد، وصولجانه المفقود، إيمانا منّا بأن الكلمة لا تفنى ولا تضيع، وإن أعرضت عنها اليوم أذن، فغدا تتلقفها آذان صاغية وقلوب واعية.

فيديو مقال صرخة قلم

 

 

أضف تعليقك هنا