فقاعات التصفية، خوارزمية تهدد مستقبل دراسات جمهور وسائل الإعلام الجديدة

للبشر نزوع سيكولوجي نحو تقبل كل ما يدعم مدركاتهم، معارفهم وتوجهاتهم المسبقة من معلومات وحقائق وأخبار.. هذا النزوع يسمى في علم النفس الإدراكي “الانحياز التوكيدي” (Confirmation bias)، بحيث يتجه الإنسان إلى البحث عن المعلومات والدلائل التي يؤكد بها معتقداته التي تبناها من قبل، متجاهلا كل معلومة تتعارض مع معتقداته القائمة، حتى يبقى في منطقة الراحة الخاصة به بعيــدا عن “التنافر المعرفي” أو ذلك الشعور المزعج الذي ينتابنا حين نواجه حقيقة جديدة تهز بقوة تصورنا بخصوص قضية ما.

مفهوم الانحياز التوكيدي

وبمجرد أن نكون قد شكلنا وجهة نظر حول موضوع ما ولنفترض أن وجهة نظرنا “مساندة النظام السياسي في البلاد” فإن “الانحياز التوكيدي” يبدأ في العمل، ويجعلك تتجاهل كل معلومة أو حقيقة تعارض أو تنتقد النظام، وبالتالي لا تتقبل إلا المعلومات الإيجابية التي تحسن من صورة هذا النظام، أو المعلومات السلبية التي تشوه صورة المعارضين، فتتعزز نظرتك السابقة وتحافظ على راحتك المعرفية.

تطور ذلك المفهوم على مواقع التواصل الاجتماعي

الانحياز التأكيدي هو خطأ منهجي أو تشوه فكري لدى الإنسان رافقه منذ وجوده، والبحث فيه كان حتى قبل ظهور علم النفس، لكن في السنوات الأخيرة ومع تطور شبكات التواصل الاجتماعي وخوارزمياتها ظهر مصطلح تقني جديد هو “فقاعة التصفية” أو “فقاعة الترشيح” وباللغة الإنجليزية”Filter bubble”، صاغه الباحث “Eli Pariser” في كتابه “فقاعة الترشيح: ماذا تخفي عنك الإنترنت”، قاصدا به تلك التقنية التي تستخدمها بعض المواقع كجوجل وفيسبوك لقياس مدى ميول المستخدم لمحتوى معين وتقوم حينها بتصفية وترشيح المعلومات التي توافق اهتماماته وعرضها له من دون الأخرى بناءً على نشاطه السابق عبر هذه المواقع مثل (عمليات البحث السابقة، سلوكيات النقر الماضية، الأصدقاء، المنشورات التي تفاعل معها..).

يشرح Pariser  هذا ضمن محاضرته في تيد، وكيف بدأ الفيس بوك بإخفاء منشورات أصدقائه ذوي الآراء السياسية المختلفة عنه قائلا: ” كنت أنقر أكثر على روابط أصدقائي الليبراليين من روابط أصدقائي المحافظين، وبدون أن يستشيرني فيس بوك بخصوص الأمر، قام بإبعادهم.. لقد اختفت أخبارهم من صفحتي على فيس بوك”.

دعم مواقع التواصل الاجتماعي للانحياز التوكيدي

هذه الخوارزمية التي لجأت إليها جبابرة الترشيح كما وصفها Pariser مشيرا إلى مواقع التواصل الاجتماعي دعمت بشكل كبير الانحياز التوكيدي عند مستخدميها، وأدخلتهم في ما يشبه الفقاعة حتى تحجب عنهم كل ما يخالف اهتماماتهم الإيديولوجية، منفصلين عن المعلومات التي لا تتفق مع وجهات نظرهم، فيجد المستخدم نفسه حبيس أفكاره السابقة داخل فقاعات فكرية أو ثقافية خاصة، متحيز ومتعصب لآرائه الإيديولوجية، وإن حدث والتقى بشخص ذو توجه غير توجهه لرفضه وهون من قدره، وخونه وأبرز فشله، كما تحرمه فقاعته من الوصول إلى أفكار جديدة، وبالتالي لا يقدر على صنع قراراته ذاتيا بل حسب ما ترشحه له تلك المواقع فقط.

ما هو سبب اعتماد المواقع تلك التقنية؟

وعن سبب اعتماد مواقع التواصل الاجتماعي هذه الخوارزمية “الخطيرة” يبرر فيسبوك ذلك بقوله: “أن المستخدم العادي كان سابقاً لا يقرأ سوى 57 بالمئة من الأخبار التي يتم عرضها في الفيس بوك، وبعد تطبيق الخوارزمية الجديدة باختيار الأخبار التي يتابعها، زادت النسبة إلى 70 بالمئة”،  في حين يؤكد الخبراء أن سبب اعتماد هذه الخوارزمية هو سبب مادي بحت، لأن الإنسان بطبيعته يميل إلى البحث عن المواضيع التي توافق توجهاته الفكرية وبالتالي إذا عرضت له الأخبار التي تعجبه فقط فإنه يتمتع بقراءتها ويقضي وقتا أطول في تصفح هذه المواقع، مما يجني عليها أرباحا مالية أكبر.

خطورة تلك التقنية

لكن خطورة هذه التقنية لا تتوقف عند الهدف المادي فحسب بل تتعداها لتصل إلى درجة التجسس على تفاصيل حياتك قد تكون أنت غير عالم بها، فهم يعرفون توجهاتك السياسية والدينية، ميولاتك الثقافية، هواياتك، وحتى فريقك المفضل.. معلوماتك الشخصية هذه تفيدهم كثيرا، فبواسطتها تتم عمليات هندسة الرأي العام والتلاعب به وصناعة قراراته ومحاولة فرض وصاية توجيهية عليه بغرض التأثير على قراراته وبخاصة تلك المتعلقة بالشأن السياسي، وحتى التحكم في سلوكه، من خلال بيعها لشركات تحليل البيانات الضخمة “Big data” وفضيحة ” كامبريدج أناليتيكا” ليست ببعيدة.

ظهور الأخبار الكاذبة

فضلا عن مساهمة “فقاعات الترشيح” في انتشار وتنامي ظاهرة الأخبار الكاذبة بشكل كبير، لأن تعرض المستخدم بشكل متكرر للمعلومات التي توافق توجهاته فقط يفقده الحس النقدي فيتقبل كل هذه المعلومات دون تحقيق أو تمحيص، ولا يكتفي بهذا فقط، بل ينشرها أثناء التعبير عن رأيه بقصد أو عن غير قصد، مما يساهم في تأجيج الصراعات وتزايد أشكال الاستقطاب السياسي من تشهير وانتهاك للخصوصية واستخدام الألفاظ الخادشة للحياء، والتسويق للدعوات المنحرفة وغير الأخلاقية.

ليس هذا فحسب بل “فقاعات التصفية” أصبحت تشكل هاجسا لدى الباحثين في علوم الإعلام والاتصال، حيث يتوقع خبراء أن دراسات جمهور مواقع التواصل الاجتماعي ستفقد قيمتها العلمية، والاستطلاعات الإلكترونية ستصبح استطلاعات آراء زائفة لأنها لم تبنى على أساس موضوعي أو بإرادة الفرد بل كان للخوارزمية دورا فيها.. وهنا نتساءل كيف سيقيس الباحثين اتجاهات الجمهور وهم منعزلين في إطار ضيق ذو اتجاه واحد لا علم لهم بباقي الاتجاهات؟ وكيف يمكنهم معرفة آراء الجمهور حول موضوع معين وهم منفصلين عن المواضيع التي لا تتفق مع أفكارهم؟ علاوة على أن ناشر المعلومة عبر مواقع التواصل الاجتماعي سيقع في وهم كبير عبر الظن أن مجرد نشره لمعلومة ستصل إلى كافة متابعيه ويمكنه التأثير عليهم وتغيير آرائهم، لكن في حقيقة الأمر أن معلومته لن تصل إلا لـمن يوافقه الرأي، وبالتالي فإن خوارزمية “فقاعة التصفية” تساهم في تثبيت الآراء السابقة لا في تغييرها.

هل أخبار الإنترنت صحيحة أم كاذبة؟

هذا وحتى قبل ظهور خوارزمية “فقاعة التصفية” كان الكثير من الباحثين يشككون في مصداقية نتائج دراسات الرأي العام الإلكتروني وجمهور الوسائط الجديدة، بحكم أن جمهور الإنترنت هو جمهور افتراضي، غالبية أفراده لا يكشفون عن هويتهم الحقيقية مفضلين استخدام أسماء مستعارة، مما يصعب التعرف على مكانهم أو سماتهم الديمغرافية الحقيقية، بل حتى الرأي المشكل داخل هذه البيئة الافتراضية مشكوك في صحته بسبب الانتشار الرهيب للأخبار الكاذبة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، الأمر الذي قد يؤدي إلى تشكيل رأي عام إلكتروني زائف ومضلل.

تشكيكات هؤلاء الباحثين كانت قبل ظهور الخوارزمية وحتى قبل ظهور مواقع التواصل الاجتماعي، فكيف سيكون رأيهم حول دراسات الرأي العام الإلكتروني وجمهور الوسائط الجديدة إذا علموا بالتأثيرات الخطيرة لخوارزمية “فقاعة التصفية”، وكيف سيكون رد فعل الباحث الفرنسي “بيار بورديو” الذي نفى وجود مقولة رأي عام من الأساس هو الذي لم يعايش عصر مواقع التواصل الاجتماعي إطلاقا؟

إشكالية تأثير خوارزمية “فقاعة التصفية” على دراسات الجمهور هي اليوم بحاجة إلى دراسات أكاديمية دقيقة ومعمقة تكشف عن حقيقة خطرها، فإذا ثبت الخطر وجب الحذر من خلال استغلال الخوارزميات لتطوير وابتكار طرق وتقنيات جديدة لقياس الجمهور والرأي العام الذي تغيرت سلوكياته في البيئة الإعلامية الجديدة، مع ضرورة التجديد في مناهج البحث وتفضيل الكيفي على الكمي خاصة المقترب الاثنوغرافي وبالتحديد الاثنوغرافيا على الخط أو النتنوغرافيا، لأن الاحتفاظ بالمناهج والأساليب التقليدية والاكتفاء بتوجيه انتقادات للبيئة الإعلامية الجديدة دون التفكير في حلول مبتكرة قد يعصف بمستقبل هذا المجال البحثي، وما هذا المقال إلا إشارة للفت انتباه الباحثين نحو إشكالية جديدة وخطيرة وجب معالجتها قبل فوات الآوان.

المراجع:

  1.  فاطمة الزهراء محمد أحمد السيد، الخوارزميات وهندسة تفضيلات مستخدمي الإعلام الاجتماعي.
  2.  همام يحي، انحياز إلى الإيديولوجيا على حساب الحقيقة.. فتّش عن الأسباب.
  3. فادي عمروش، كيف تزيد الإنترنت الاستقطاب في المجتمع.

فيديو مقال فقاعات التصفية، خوارزمية تهدد مستقبل دراسات جمهور وسائل الإعلام الجديدة

أضف تعليقك هنا