فيروس يصفع الإنسانية

بقلم: أميمة فراجي

لست من الذين تمر عليهم الأزمات مرور الكرام ولا يستخلصون منها العبر، لطالما سعيت في استئصال درس وعبرة حتى في المواقف البسيطة واليومية، أستطيع التعلم أكثر في كل فعل و كل قول يوجه لي، لذا فأزمة كورونا هذه كما يسميها الجميع وبالرغم من حصادها لأرواح عديدة وبريئة لا تزال تحلم بغد مشرق إلا أنها تعتبر أكثر أزمة أيقظتني وأيقظت كل جوارحي وكل ما ينبض بالحياة فيني.

كنا نقرأ عن الأوبئة أما الآن نعيشها في واقعنا

نحن جيل هذا القرن لم نشهد طوال حياتنا زمن الأوبئة الذي كنت أقرأ عنه وعشته في الروايات فحسب، لقد عرفت كثيرا بخيالي الواسع و بقدرتي العجيبة في اختيار حبكة الأحداث و التشويق فيها فقد تخيلت كائنات مثلثة الشكل تقتحم كوكبنا لتفرغ منه كميات الأوكسجين الموجودة فيه، تخيلت كذلك غازاً يحرر العالم من البؤس الذي يغرق فيه و يجعل للجميع قوة خارقة يحصل من خلالها على كل ما تشتهيه نفسه وقتما شاء.

أدركنا قيمة مهن لم نكن مدركي قدرها قبل هذا الوباء

لكنني للمرة الألف أدرك عجزي و ضآلة مخيلتي عندما ظهر كائن صغير جداً لا يرى حتى بالعين المجردة، قد أظهر حقيقة كل فرد في هذا العالم، أرانا أنفسنا في المرآة و آرانا جوهرنا الحقيقي و لبنا الذي أخفيناه دوماً، قلب جميع موازين الدنيا بأكملها و غير جل مفاهيمها، ليظهر أخيرا مفهوم القوة الحقيقي حيث أن قانون الغاب ما عاد ينفع في هاته اللحظات، أصبحت القوة تعني “تفضيل الشعب عن الاقتصاد” و أصبح “الاتحاد” دستورا للدول لتخطي الأزمة و “التضامن” مبدأ لكل فرد على هذا العالم، أدركنا قيمة “قطاع الصحة” وقيمة “الأطباء” الذين قيل في حقهم “مثل العالم مثل الطبيب لا يضع الدواء إلا على موضع الداء”.

هل أحيت فينا “كورونا” روح الإنسانية؟

“أزمة كورونا” جاءت لتوقظ فينا حس الإنسانية، جاءت لنشعر بمن ليس لهم مأوى، بمن يتوسدون الأرض و يتخذون السماء لحافاً لهم. كم كان يلزمنا لندرك أننا جسد واحد وإن حدث خلل ما في بعض أعضاء الجسد فإننا نتضرر من الخلل كذلك، لقد جاء هذا الفيروس ليعلمنا أن خرافاتنا تلك التي اعتنقناها طويلاً بأن الأعشاب والمشعوذين هم الحل لمحو كل بؤس في هذا الكون الشاسع، الآن ندرك أن الطب والعلم هما أساس الحياة ومنهجهما الصحيح و أن الخرافة هي مجرد فيروس مسرطن بحد ذاته يفتك بالعقول كالسم القاتل.

لقد أدركنا أن سياسة القطيع واتباع حشد الناس ليسا هما طوق النجاة ولكن وحدتك هي نجاتك وقرارك وحدك هو الشراع الذي سيبحر بك إلى بر الأمان، أدركنا أن الوطن هو الحضن الذي يحاول حمايتك دوماً مهما رميته بالسهام لكنه يصمد لإنقاذ روحك وروح عائلتك والأشخاص الذين تتنفس الحياة بوجودهم.

كانت “كورونا” رادعاً لنا عن الأذى فإلى أي مدى كان ذلك؟

يا ترى؟ لو لم تأت هاته الأزمة كيف كنا سنعرف الشر الذي يخبئه البشر والخير الذي يبطنونه؟ كيف كنا سنعرف من يقول الحقيقة و من يستهوينا بأكاذيبه؟ كيف كنا سنعيش دون أن نفكر بمن يتألم جوعاً، قهراً، ظلماً، حرماناص، احتقاراً، إكراهاً، غصباً، قسراً، غلبة..؟ استولت علينا الأنانية والنرجسية لدرجة صرنا نرى أنفسنا مركز الكون، نسينا وصية الله لنا على هذه الأرض والغاية من خلقنا وكذلك نسينا مسؤولية الخلافة التي على عاتق كل واحد منا، نسينا رئتنا أي “أرضنا” التي اختنقت بما صنعته أيدينا وتألمت من تخبطاتنا بحجارتها و بتدميرها عن طريق قتل أشجارها و خنق أزهارها، و كذلك تلويث مياهها و تخريبها كلها، لكنها اليوم لو استطاعت أن تنطق لقالت أنها سعيدة جداً وأن الطمأنينة قد اعترتها لأول مرة منذ زمن طويل جداً…

كلنا نأمل بأن تعود حياتنا لحالتها الطبيعية

كلنا الآن نتمنى أن تعود حياتنا السابقة التي لطالما تذمرنا منها… حتى ضغط العمل صرنا نتوق لعودته و تعب الليالي التي نكد فيها لإكمال واجب مدرسي أو عمل ما افتقدنا الفصول المدرسية و أصقاع الدنيا برمتها كطفل صغير يريد اللعب خارجاً لكن أمه تجره من يده و تجبره على النوم و تأتيه كوابيس مخيفة.

لذا فمن خلال نافذتي الصغيرة التي أطل بها على العالم أرى أن الحل الوحيد الذي سينفذ به جلدنا من هاته الأزمة في جوانبنا النفسية بسلام، هو أن نجعل من بيت كل واحد منا جنة و أرضا مقدسة لنا بأشياء نحبها و تخلق فينا سلاما داخليا يهدئ من روع الحرب التي تعصرنا و الخوف الذي يثير فينا الهلع… أن نعتبر البقاء في منازلنا واجبا وطنيا يقع على عاتقنا جميعاً فهو بمثابة حماية للوطن الذي يشكل تربة نسقيها بتضحياتنا.

ماهي الدروس والعبر المستفادة من أزمة كورونا؟

أنا شخصياً، أدركت العديد من الدروس في هاته الأزمة و استفقت من غيبوبتي التي شهدتها طويلاً، تعلمت أن أحب كل تفصيل من حياتي و التي كنت أحياناً ما أتذمر منها دون سبب و بسبب كذلك. تعلمت أن أهب كل ما أملكه لأساعد غيري حتى بابتسامة خفيفة أو كلمة طيبة فكم هو جميل أثر هاته الأخيرة على النفس البشرية ! ولن أنسى أبدا أنني أدركت أن الأمل نبض لقلوبنا الواهنة و به نستطيع أن نمشي على جمرات اليأس التي تغطي أرض الحياة حالياً…

لنستغل كل هذا الوقت لنصنع ما كنا نطمح إليه دوماً، فبالعمل كل شيء يتحقق… أؤكد لكم أنه مادمنا نؤمن بأن القادم أجمل و نكافح لأجل الغد فالغد سيأتي حاملاً معه هدايا إلهية عظيمة جزاءً لكل من تحمل العتمة و أضاء فيها قنديلاً صغيراً يستنير به في طريقه…

بقلم: أميمة فراجي

 

أضف تعليقك هنا