كيف نهض المجتمع الياباني من كبوة الاحتلال الغربي؟

كيف تعامل الشعب والسلطات اليابانية مع التغييرات الجديدة التي فرضتها سلطات الاحتلال الغربي؟

كيفية تعامل المدن اليابانية مع الخسائر التي تعرضت لها إثر الاحتلال الغربي

لأول مرة في تاريخها الطويل رزحت اليابان تحت الاحتلال الأجنبي وهي مُثقلة بجراح الهزيمة ودمار القصف وعار الاستسلام، وبما أن الدولة والأمة تتكونان من أرض وشعب، فتدمير العمران رافقه تحطيم المجتمع الياباني الذي عانى من ويلات الحرب وتداعياتها، ومن هنا يبرز تحليل نقطتين رئيسيتين رغم تعارضهما النظري, هما:

  1. كيفية تعامل المجتمع الياباني مع الكارثة التي حلت به، وهل أوجد الحلول المحلية لتخفيف آثار الحرب الاجتماعية؟
  2. الإصلاح وفقاً للرغبة الأميركية: هل حقق أهدافه الأجنبية أم تمت مواءمته وفقاً للتقاليد اليابانية بما لا يتعارض مع التحديث؟

لذا كان على المجتمع الياباني أن يتعامل مع تبعات الإستسلام ووجود جنود الإحتلال على أرضه. فخلال المدة الأولى من حقبة اليابان تحت الاحتلال تفشّت الأمراض الاجتماعية للهزيمة في جسد الشعب الياباني. فهناك مدن مدمرة يحكمها الغريب وتتحكم بأزقتها العصابات المحلية وسط البطالة والمجاعة والفقر، وتعرضت التركيبة السكانية اليابانية لخضّة فريدة من نوعها, فلقد قتل وأسر وفقد ملايين الجنود الذين يمثلون فئة الشباب في المجتمع الياباني، ومع فقدان الامبراطورية اليابانية لمستعمراتها وعودة المستوطنين إلى الوطن الأم اكتظت الحواضر المتهالكة بمئات آلاف المشردين.

وسط الدمار الكبير في المدن تاه ملايين الجنود المنبوذون وسط البطالة والفقر والمجاعة, ورافق ذلك خلل في الدور الذكوري داخل الأسرة اليابانية وما يستتبعه من خلل إجتماعي في نظام العائلة التقليدي في اليابان, وبخاصة في المدن. وما لبثت تلك الجموع من المهمشين أن تحولت إلى الجريمة من أجل لقمة العيش, ومع مرور الوقت تكتل الأفراد في عصابات الجريمة المنظمة التي خاضت فيما بينها صراع مناطق نفوذ, ووصلت إلى حد التصادم مع عصابات الياكوزا التقليدية المدافعة عن أحيائها. وتذكر مصادر عديدة أن الشرطة اليابانية كانت تدعم الياكوزا سراً, أو على الأقل تغض الطرف عن تحركاتها.

استفادة الريف الياباني من الأراضي الزراعية لتخفيف أثر المجاعة

كما يجب التأكيد هنا على أن واقع الريف الياباني كان أفضل من مجرى الانتكاسات في المدن نظراً لطبيعة تكوينه الديموغرافي والأسري. فلقد استفاد الريف من موقعه الجغرافي فلم يتعرض لقصف الحلفاء المركز الذي نالته المناطق الصناعية, وكان الإنتاج الزراعي ميزة لساكنيه للتخفيف من أثر المجاعة التي أصابت اليابان. وهذا الواقع الزراعي الإيجابي ووجود المكونات الغذائية الرئيسية في الريف جعل الكثير من سكان المدن يبذلون الغالي والنفيس من أجل الحصول على المنتجات الزراعية الموجودة في الأرياف كالأرز والخضراوات.

لجوء السلطات اليابانية إلى أعمال غير مشرعة مع المرأة بما يتواءم مع المفهوم الغربي

والمأساة اليابانية الداخلية رافقها الوجود العسكري الأجنبي الغريب, ليبرز الخوف على عفة المرأة اليابانية وسط وجود جو عام من الرعب من حدوث عمليات إغتصاب جماعي كالتي حدثت في برلين عند هزيمة الحليف النازي، ولكن السلطات اليابانية لم تكتفِ بالدور غير المباشر الذي مارسته لتخفيف حدة الجرائم المنظمة, بل أخذت تدابيرها قبل وصول القوات الأجنبية إلى الأراضي اليابانية عبر إقامة مراكز للتسلية والاستجمام أو محطات الراحة بتمويل من الحكومة للحفاظ على كرامة وشرف اليابانيات العفيفات، ولقد اعتبر القوادون والنساء اللاتي تطوعن للقيام بالمهنة الأقدم في التاريخ أنهم يؤدون واجباً قومياً استلزم التوجه على دفعات نحو القصر الإمبراطوري عفوياً وتنظيمياً لأداء قسم التضحية تجاه الوطن. ورغم نبالة المبدأ إلا إنه واجه قسوة التطبيق, ففي الواقع الأليم واجهت تلك الثلة من النساء المضحيّات مرارة الحقيقة وقذارة العمل إلى درجة أن الكثيرات منهن لجأن إلى الإنتحار هرباً من تلك التجربة اللاإنسانية بفظاعتها.

نتيجة لهذا الواقع المستجد لجأت السلطات اليابانية في سعيها لكف شر وشهوة جنود الإحتلال عن عفيفات اليابان إلى إستراتيجية “الدعارة المحترفة” حيث إفتُتِحت بيوت بغاء رسمية, عمل فيها من احترف من اليابانيات مع استقدام عشرات آلاف الراغبات من الدول الآسيوية المجاورة, لتتحول المهنة الأقدم في التاريخ إلى جزء من سوق العرض والطلب وليس فداءً تطوعياً لمن ضاقت بهن السُبُل. وبتلك المقاربات حاولت السلطات اليابانية التعامل بتأن تدريجي مع الإفرازات السلبية على الصعيد الإجتماعي لكل هزيمة تلحق ببلد مُستقل. وفي نفس الوقت كان عليها استيعاب شروط المحتل وإملاءاته, حيث كان مطلب المقر العام لسلطات الاحتلال في الحالة اليابانية هو “الإصلاح” بما يتواءم مع المفهوم الغربي للمفاهيم الاجتماعية.

تغيير اليابان لتوجهاته الأيدولوجية والدينية وفقاً لتوجهات السلطات الغربية

ولكون التوجهات الأيديولوجية لقائد قوات الحلفاء والحاكم العسكري لليابان الجنرال ماك آرثر تنبع من الفكر اليميني المحافظ في الولايات المتحدة الأميركية. فقد اعتبر نفسه في مهمة مقدسة لنشر الرؤى البروتستانتية Purotesutanto Shinkyō في أوساط الشعب الياباني وذلك عن طريق استهداف رمز البلاد الأول وأيديولوجية الدولة من ثم التبشير لعامة الشعب.

بما أن مذهب الشنتو هو أشبه بمفاهيم دينية تسودها الطقوس الشعائرية وليس عقيدة أيديولوجية تحكمها الشرائع, استوعب واحتوى اليابانيون شروطات وتغييرات ماك آرثر مع بقاء اليابان يابانية, بمعنى تغيير النصوص مع بقاء النفوس كما هي, يابانية الهوى والتفكير والولاء. وبما أن الإمبراطورية اليابانية كانت تعتبر نفسها دولة الشنتو State Shinto Kokka Shintō أصدرت سلطة الإحتلال توجيه الشنتو The Shinto Directive بحجة نشر الحرية الدينية وتحقيق مبدأ حقوق الإنسان وإقناع اليابانيين بأنهم شعب يتماثل مع شعوب العالم عامة, والشعوب المجاورة خاصة, وأنهم ليسوا من نسل الآلهة.

وبدلاً من الإعتراض والتذمر أو التهديد بالعصيان أو الثورة, تجاوب الإمبراطور الياباني هيروهيتو شخصياً مع هذا التوجيه وأصدر مرسوماً بعنوان “من أجل اليابان الجديدة, حيث أعلن فيه إنسانيته وأنه ليس ابن الآلهة. قام بعدها بزيارته المفصلية في التاريخ الياباني إلى المقر العام لقوات الاحتلال للقاء الجنرال ماك آرثر. كانت تلك أول مرة منذ فجر التاريخ الياباني المكتوب يقوم فيها الإمبراطور بشخصه بالتوجه لزيارة شخص غير ياباني Gaijin أو حتى ياباني مهما علت رتبته وأهميته. وفي نهاية الاجتماع قال الإمبراطور للجنرال حرفياً: “لا تعاقبوا شعبي”. بالطبع كان الرد إيجابياً, ولكن المغزى الأبرز بالنسبة لليابانيين ليس الشعارات والتسميات ولكن بقاءهم كشعب وإستمراريتهم كدولة.

استفادة اليابان من النظام التعليمي الذي فرضته سلطات الاحتلال الغربي

منهجية التعليم كانت الهدف الثاني لسلطة الاحتلال, فلقد كان صلب منهج التعليم الياباني هو بث الروح الكوكوتاي القومية Kokutai no Hongi وترسيخ ذكرى التاريخ الياباني في عقول الأجيال الناشئة. وكان النظام التعليمي يشمل زرع الروح العسكرية تدريساً وتدريباً وفروعاً علمية. لذلك طرح الأميركيون نظامهم التعليمي, الذي إستفاد منه اليابانيون بإلغاء المواد والمعاهد ذات الصفات العسكرية وتعديل المنهج التعليمي القديم من 6- 5- 3 إلى ٦- ٣- ٣- 4، بهدف جعل النظام التعليمي بمثابة رافعة ومنهج لبرمجة المعايير العلمية بهدف التعليم التعاوني وتدريس مادة العلوم الإجتماعية لتعريف الشعب الياباني على بقية شعوب العالم وثقافاتهم المختلفة بدلاً من السعي لإستعمارهم, فهدف السلطات اليابانية الأسمى كان النهوض الذاتي بشعبها عبر تحديث ورفع مستوى التعليم لمواطنيها وليس الخضوع لإملاءات المحتل الأجنبي.

ونلاحظ أن الشعب الياباني رد على الإصلاحين التعليمي والديني المفروضين من سلطة الإحتلال بتبني نظام جاكيورو Gakuryo Puroguramu للحفاظ على التقليدية الشنتوية اليابانية بمواجهة التغريب, وكان هذا النظام التعليمي – الديني منتشراً بكثرة في الريف الياباني بعيداً عن المدن الكبرى حيث التواجد الفعلي لقوات الإحتلال، بذلك نخلص بأن السلطات اليابانية وشعبها إستوعبوا تداعيات الهزيمة وإملاءات الإحتلال وتمكنت من إدارة الأزمة وحصر التنازلات بما يتوافق مع ظروف الوقوع تحت سلطة المحتل والسعي لغد أفضل للأجيال اليابانية مع المحافظة على خصوصيتها الوطنية. فهل نتعلم ونتعظ نحن العرب؟

فيديو مقال كيف نهض المجتمع الياباني من كبوة الاحتلال الغربي؟

أضف تعليقك هنا