لن يعود كما كان – # فيروس كورونا

هل لانزال نستهين بالموت ولا نعبأ به بعد انتشار فيروس كورونا؟

كم كان هذا الوداع الأخير معبراً ومؤثراً.. (سيكون على مقربة مني أناس، وأن يكون الشخص إنساناً بين البشر ويبقى إنساناً أبداً، مهما كانت المصائب، ولا يكتئب ولا يسقط، ذلك هو مغذى الحياة ومهمتها. لقد أدركت ذلك. فهذه الفكرة تسربت في مسامات كياني، في دمي، فالدماغ الذي كان يبدع ويحيا حياة الفن الراقية، والذي أبدع وتعود على احتياجات الروح السامية، دماغي ذلك قطع من العنق، وبقيت الذاكرة والصور المرسومة وغير المتجسدة من قبلي في واقع الحال. صحيح أنها قروح في داخلي، لكن القلب باق لدي ونفس الدم ونفس النطفة التي تستطيع أن تحب وتتألم وتتوق وتتذكر.. وهذا كله حياة على أي حال. السجين أيضاً يرى الشمس .وداعاً إذن يا أخي، ولا تحزن علي.) (من رسائل ديستويفسكي)..

الوقائع المأساوية التي مرت على البشرية كانت وما زالت دافعاً للحياة

يقولون.. أن العالم لن يعود كما كان بعد هذه الجائحة.. فعلاَ لن يعود.. ولكن ليست هذه هي أول مرة، فالعالم دائما لم يعد كما كان بعد الحروب العظمى ومجازر الإبادة الشاملة مثلما لم يعد كما كان بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية.. بل وبصورة أكبر أن العالم لم يعد كما كان بعد الثورة الفرنسية.. إذن دائرة التاريخ تفرض في كل منقلب لها وقفات حتمية، يقفها البشر ليس باليأس جراء ما كسبت أيديهم من خراب ودمار وفساد في البر والبحر وليس لأجل أن يجتروا مشاعر الندم على ما فات.. فما قد فات قد فات، وإنما هي وقفات من أجل تجديد الحياة للمستقبل ولصنع نقلة عمرانية حضارية جديدة.

وقفات يقفها الناس في كل الأرض طوعاً أو جبراً من أجل الإستمرار في الحياة التي سلطتها على قلب ابن آدم شيء كبير ولو كان ابن آدم هذا في سجن مؤبد.. والدليل على هذا المد البشري الطاغي نحو التمسك بالحياة والبقاء مهما كان ضعيفاً هو أن العامل المشترك الأعظم في كل تلك الوقفات للإنسان في أعقاب الحروب والجوائح والأوبئة الجسيمة كان هو (الموت).. بأن الموت هو الباعث الحقيقي على الحياة.

فكم كان الموت وكم كان الضحايا والرقاب التي قطعت على المقاصل في الثورة الفرنسية، إلا أن غريزة الحياة فيها غيرت أوروبا كلها بعدها وليس فرنسا فقط تغييراً إلى غير رجعة.. وكيف أحصيت جثث القتلى بالملايين غداة الحرب العالمية وتفجيرات اليابان وتحول مدناً بكاملها حطاماً، ثم كانت الحياة بعد ذلك أقوى وأعنف وصار النزوع نحو البقاء محموماً عاصفاً، فخلق حضارة تقنية جديدة صارت هي اليوم ولا تقاس بسابقاتها..

فيروس كورونا محطة لتصحيح مسار الحياة 

ولعل هذا بدوره أظهر عيباً جديداً في البشرية المعاصرة أن الجنوح الكبير نحو التقنية والأتمتة Automation والتحول إلى العالم الرقمي ربما هو في حقيقته نوع من الهروب بإقامة جدار فاصل يكسر ارتباط الإنسان اللصيق بأخيه الإنسان في إدارة شؤون المجتمعات لأجل أن يحد ذلك من فرص الحرب التي يحدثها البشر بتقاربهم مع تعارض المصالح في ذات الوقت

ولكن بقدر ما يتباعد البشر، في لحظة ما يشاء الله أن تحدث حرباً من نوع آخر تجبرهم على العودة بعدها إلى اجتماع إنساني جديد.. ولذلك بقدر ما تكون الإبادة بالموت مصيبة كبيرة بقدر ما تكون محطة للتوقف والبدء من جديد في تصحيح الحياة الإنسانية واستمرارها اشد قوة من المصيبة .. وهنا قول الله تعالى (فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً)، وهذا البدء من جديد ليس فقط في استمرارية الحياة وإنما بمراجعة كل القيم والعادات الاجتماعية السابقة والتي ساهمت في تفشي الشقاق والعنف والاضطهاد والجريمة وأيضاً أمراض العزلة وفقدان الثقة والقسوة والتمزق العائلي..

هل ستقوم جائحة كورونا بتغيير البشرية وتصحيح مسارها نحو الأفضل؟

واليوم، تحصد جائحة (كورونا) أرواح الآلاف في جميع الأرض فالتزم الناس ديارهم، فلربما أراد الله من ذلك أن يعيد الإنسان صياغة المجتمع الكبير بأن تكون البداية بلحم نسيج العائلة الصغيرة، وهي البداية الطبيعية.. ومن لم يلتزم بداره تحت أي سبب يكون عليه أن يصبح أكثر يقيناً وثباتاً أمام الموت والتطلع إلى الآخرة.. لقد اتسم العالم قبيل جائحة(كورونا) في كل شيء بعدم الرضا.

لم يكن الناس راضون عن أحوالهم ومعاشهم وأخلاقهم، وتلك الحالة من عدم الرضا العام هي ما ينذر بالثورة على ما كان.. وفي بلادنا تحديداً، سبق أن قامت الثورة السياسية بقوة فبدلت منظومة الظلم والفساد، ولكنها ستظل ناقصة ما لم تتحول من بعد ذاك إلى ثورة اجتماعية تعيد الثقة وتؤكد الهوية وتعلي قيم ومعنى أن نكون ونحيا في وطن، وهذا أوانها.. وأوان أن يكشف لنا الطاعون المعاصر الذي حصد أرواحاً كثيرة في وقت قصير كيف هي حالة الوعي الشعبي هنا، وما الذي ينبغي أن يبقى وما الذي ينبغي أن تقوم عليه الثورة.. لقد آن الأوان لأن نعيد للموت هيبته في نفوسنا قبل أن تأخذنا اللامبالاة به حتى نراه في احبائنا أو نراه في أنفسنا بغتة فنصدم ونندم من دون فائدة.

فيديو مقال لن يعود كما كان..

أضف تعليقك هنا